صدفةٌ تصنع فيلمًا. هذا حاصل مع البريطانية التونسية الأصل كلير بلحسن. فهي، في زيارة لها إلى باريس، تستمع إلى أغنيةٍ بصوتٍ يُثير فيها متعة وشيئًا ذاتيًا يدفعها إلى السؤال عن المغنّي. يُخبرها سائق سيارة الأجرة أن المغنّي تونسيٌّ، وأنه الأشهر والأهم، وأنه يُدعى الهادي الجويني. هذا كافٍ لها، إذْ تبدأ فورًا بالبحث عنه، فالهادي الجويني جدّها لوالدها، لكن والدها، المهاجر إلى لندن منذ سنين مديدة، صامتٌ عن هذا الإرث ومعتصمٌ عن قول شيء عن أبٍ يُطلَق عليه لقب "فرانك سيناترا تونس".
هي غير عارفةٍ باشتغالاته الفنية، وغير سامعةٍ أغنياتٍ له في المنزل العائلي، أو "دندنات" قليلة لأبٍ ساكتٍ عن تاريخ وحكايات. لذا، تبدأ حياكة مشروعها الوثائقي "الرجل خلف الميكروفون" (2017، إنتاج مشترك بين المملكة المتحدة وتونس و"مؤسّسة الدوحة للأفلام" في قطر، 90 دقيقة) كمن يبحث عن ذاكرة، وكمن يرسم معالم سيرة، وكمن يكتب بالصُوَر والأغاني والتوثيق والأرشيف والذكريات بعض تاريخٍ لبلد ومجتمع وعائلة: "أريد أن أفهم من هو جدّي"، تقول بلحسن ابنة فريد، الابن البكر للهادي الجويني (1909 ـ 1990)، الذي ـ بحضوره الطاغي في العائلة والغناء ـ قابلٌ لأن يكون مرآة بيئة وزمنٍ وفنٍّ في لحظات تاريخية تنقل تونس من حقبة إلى أخرى ومن حُكمٍ إلى آخر، مع ما يحمله الانتقال من عناوين وتفاصيل وأمور في السياسة والثقافة والاقتصاد وأنماط العيش والسلوك.
التفاصيل الهامشية تُشكِّل ركيزة تتكامل والمسار الأصلي المتعلّق بسيرة الجدّ وعائلته وبلده. تفاصيل مرتبطة بمناخ عائلي، أو بلحظة اجتماعية، أو بحدثٍ سياسي. لكن الأهمّ كامنٌ في تلك السيرة التي تتعرّف كلير بلحسن عليها بالكاميرا واللقاءات والتساؤلات، المُطعّمة كلّها بـ"أفلام عائلية" أو "أشرطة فيديو منزلية" بالأسود والأبيض أو بالألوان، وبأرشيف مُصوّر، كي تسرد حكاية فنان يتخلّى أهله عنه صغيرًا فيلجأ إلى الموسيقى والغناء.
يميل "الرجل خلف الميكروفون" إلى بناء شبه كلاسيكي في صناعة الفيلم الوثائقيّ، فيغيب عنه كل متخيّل أو مساحة مبتكرة تلتقط شيئًا من الأحداث والوقائع. لكنّ البناء الفنيّ نفسه لن يخضع لسطوةِ الكلاسيكية، فاللقاءات مع أفراد العائلة، المنتشرين بين الولايات المتحدّة الأميركية ولندن وباريس وتونس، تتحوّل إلى نصوص تروي فصولاً من الحكاية، قبل أن تُجمَع في سياق بصري جماليّ يُكمِل رسم الصورة المطلوبة.
والفيلم ـ المُشارك في مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة في الدورة الـ8 (5 ـ 9 أكتوبر/ تشرين الأول 2018) لـ"مهرجان مالمو للسينما العربية" في السويد ـ مفتوحٌ على طبيعة الحياة اليومية في تونس، قديمًا وحديثًا، أي مع نهاية حكم البايات (1613 ـ 1957) والانتقال إلى زمن (1957 ـ 1987) الحبيب بورقيبة (1903 ـ 2000)، بإنجازاته المدنية والعلمانية المختلفة، وبما بعده ولو قليلاً. زمن اختلاط اجتماعي بين يهود ومسلمين، وزمن اختلاط أنماط موسيقية بعضها متحدّر من الأندلس والفلامنكو، وبعضها الآخر من تراث يهودي وعربي. زمن اختلاط ثقافات وتجارب ومسالك عيش.
للهادي الجويني 5 أولاد من نينيت، زوجته اليهودية التي يُغرم بها، لكنه يحول دون إكمالها مسارًا غنائيًا خوفًا من التفوّق عليه، كما يقول أحد أبنائه (3 رجال وسيدتان)، تمامًا كما سيحصل مع ابنته عفيفة، التي ـ رغم صوتها الرائع ـ ستختار دربًا آخر في حياتها بعيدًا عن الفنّ.
عفيفة ستكون إحدى أبرز شخصيات "الرجل خلف الميكروفون"، بالإضافة إلى نوفل وسامية (الابنة الصغرى المُقيمة في أميركا)، ثم فريد نفسه، الذي سيلتقي نوفل بعد سنين طويلة من الفراق. الهادي الجويني (الهادي بن عبد السلام بن أحمد بن حسين، الذي يُعرف أيضًا باسم الهادي الجويني بلحسن، صاحب ألف أغنية تقريبًا و56 أوبريت) حاضرٌ هو أيضًا عبر أفلام عائلية ـ منزلية وحفلات وأغنيات مُصوَّرة ومشاهد سينمائية (له تجربة تمثيلية متواضعة)، بالإضافة إلى لقاء تلفزيوني واحد. هو حاضرٌ أيضًا بحكايات أبنائه وابنتيه، وذكريات أصدقاء له كلطفي بوشناق وصونيا مبارك وفتحي زغوندا وأحمد مْجيري.
في كتابه "الهادي الجويني: أثر عملاق" (الصادر باللغة الفرنسية عن منشورات "بينيفان"، 2009)، يذكر نوفل بلحسن أن توغّلَه في أرشيف كثيرٍ عن والده مناسبةٌ للتبحّر في عالمه: "هذا الرجل الذي، في ذكرياتي عنه كطفل، كان منيعًا ومستبدًّا وغائبًا دائمًا، والذي يُركّز (حياته كلّها) على فنّه وموسيقاه، سيتّخذ ـ شيئًا فشيئًا ـ صورة عملاقٍ في الأغنية العربية، وهذا كنت أجهله حينها كلّيًا، وسأكتشفه لاحقًا". يُضيف: "سأفهم عندها من هو الهادي الجويني، وسأحبّ كثيرًا هذا الأب الذي أفتقده".
هذا يختزل شيئًا من جوهر الفيلم الوثائقي، الذي يُمكن اعتباره بحثًا شخصيًا جدًا تقوم به كلير بلحسن لمعرفة جدّها، فإذا بالرحلة الجميلة تلك تقود الأبناء إلى نوعٍ من مصالحة مع ذاكرة أبٍ. رحلة تخترق المحجوب وتُعرّي أسطورة غنائية كي تتمكّن كلير بلحسن من التجوّل بحرية في التفاصيل المخبّأة، وفي النزاعات الحاصلة داخل العائلة، وفي الخيبات والتمزّقات والمآلات التي يبلغها كل فردٍ من أبناء الهادي الجويني. تعرية لن تهدف إلى محاكمة او محاسبة، بل إلى فهم طبيعة رجل يصنع من ذاته تاريخَ فن وبلد واجتماع، رغم مصاعب جمّة وتحدّيات قاسية.
المُصالحة؟ لقطات أخيرة تستعيد شريطًا بالأسود والأبيض ينقل وقائع وصول الهادي الجويني إلى حفلته الأخيرة عام 1987 في "مهرجان قرطاج الدولي"، وتُضيف إليه تصويرًا آنيًّا لبعض أفراد العائلة وهم يتجوّلون في المكان نفسه، مستعيدين بعض الماضي، ومغنّين أغنيته الأبرز "لاموني اللي غارو مني"، وجالسين معًا كأنهم يكسرون آخر حاجزٍ بينهم وبين أنفسهم في علاقاتهم بأنفسهم وببعضهم البعض وبوالدهم الهادي الجويني.