يُركّز البريطاني آسيف كاباديا (1972)، في الوثائقي الجديد "دييغو مارادونا" (المملكة المتحدة، 2019)، على سيرة لاعب كرة القدم الأرجنتيني في مرحلة ارتباطه بـ"نادي نابولي" الإيطالي، بدءًا من 5 يوليو/ تموز 1984. سيرة توثيقية، تخرج من تقليدية التأريخ المتسلسل لحياة صاخبة، بالتزامها مسارًا ينتهي باللاعب إلى جحيم الخراب. هذا كلّه موثّق بتسجيلاتٍ وصُوَر فوتوغرافية، يعتمدها كاباديا ركيزة درامية لحكاية مفتوحة على تناقضات جمّة، في شخصيةٍ مُصابةٍ بارتباك العيش، وبصدامات دائمة بين واجب مهنيّ وموقف أخلاقي، أو بين رغبات شخصية وارتباطات عامة، عائلية وعاطفية ومهنيّة.
والفيلم ـ المُشارك في برنامج "آفاق"، في الدورة الـ54 (28 يوليو/ تموز 2019) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي" ـ ينضوي في إطار وثائقي حاضر بفاعلية كبيرة في المشهد السينمائي: الاعتماد الكلّي على أرشيفٍ مُصوّر ومسجَّل، وترك مهمّة صناعة الفيلم للتوليف؛ وإعادة جمع كلّ المرتبط بالموضوع، وتشذيبه في غرفة المونتاج، ليتناسق مع مسارٍ بصريّ يقول من دون كلام مباشر، ويبوح من دون مواجهة مع الكاميرا.
هذا نموذجٌ أجمل في صناعة وثائقيّ يبحث في سيرة شخصيةٍ، تحضر في الاجتماع العام منذ سنين مديدة، أو في سير جماعات وقضايا ومسائل أيضًا. آسيف كاباديا حاصلٌ على 500 ساعة مُصوّرة، يختزلها إلى 130 دقيقة، كافية لسرد وهج الشخصية وتخبّطاتها، ولمعان الاسم في نجوميّة صائبة قبل سقوط الشخص في انهياراتٍ جمّة، وسطوة الغليان الفرديّ في الملعب، ثم الحُطام والتمزّق خارجه. سيرة وثائقية تنقل مضامين أشرطة، بطلها الأول دييغو مارادونا، المولود في إحدى أفقر البيئات البشرية في العالم ("لانوس" ـ ضواحي بوينس آيريس، 30 أكتوبر/ تشرين الأول 1960)، رغم إطلالات متفرّقة لأفراد محيطين به (أب، أم، إخوة، حبيبات)، أو إعلاميين يسألونه ويلاحقونه، بينما يكتفي الوثائقيّ بأصوات معلّقين يستعيدون بعض ذاك الماضي البهيج والمدمَّر، بالإضافة إلى الصوت المُتعَب، والمُثقَل بأوجاعٍ وحنينٍ، لمارادونا نفسه، مُعلّقًا على صُورٍ، يعرضها كاباديا أمامه، بسخرية مبطّنة أحيانًا (والسخرية موجّهة إلى ذاته غالبًا)، وبتمزّق صامتٍ أحيانًا أخرى.
لعبة المونتاج (كريس كينغ) مضبوطةٌ على إيقاع السيرة الصاخبة لمارادونا، وبحسب هواجس الإخراج أيضًا. أشرطة عديدة باهتة لقِدمها، لكنها مطلوبة لحاجة النصّ السرديّ إليها. الانطلاق من تعاقده مع "نادي برشلونة" الإسبانيّ، قبل بدء السيرة الوثائقية منذ انتقاله إلى "نابولي"، النادي والمدينة معًا. الصُوَر كفيلة بالرواية، كأنّ آسيف كاباديا "غير معنيّ" بإضافة أو تنقيح أو قول، فالمطلوب موجودٌ، وما على "عبقرية" التوليف والسينما الوثائقية معًا إلّا أنْ تحُوِّل الموجود إلى عمل سينمائيّ مطلوب. والمطلوب، من بين أمور عديدة، كامنٌ في الابتعاد، ظاهريًا على الأقلّ، عن كلّ إدانة أو تمجيد، فالصُوَر تروي وقائع وحقائق، والتعليقات الصوتية لمارادونا كفيلةٌ بتوضيحٍ أو تفسيرٍ يتلاءمان وتلك الوقائع والحقائق.
المسائل تلك مُتداولة ومعروفة. غضبه وصداماته في الملعب؛ فشله وهزائمه، ثم انتصاراته؛ سحر أدائه، و"الأخطاء" المرتكبة، التي تؤدّي إلى تصفياتٍ ونهائياتٍ وانتصارات كروية هائلة. أحد تلك الأخطاء مشهور للغاية: يده تلمس الكرة المتحوّلة إلى هدف. يومها، يقول مارادونا إنّ هذه "لمسة الله"، لكنه ـ باستعادتها مع كاباديا ـ يبدو كمن يسخر من نفسه ومن الحَكم، وربما من تلك اللحظة أيضًا. ذات مرة سابقة على تلك الحادثة، يُحيل "خطأه" على رغبة الله أيضًا.
ارتباطاته بعائلة مافياوية نابوليتانية مُثيرة للجدل. علاقاته العاطفية، ونكرانه طويل الأمد لمولودٍ، يعترف به بعد سنين مديدة وهو في عمرٍ متقدّم. هزائم شخصية كثيرة. تمكّنه من إعالة أهلٍ وإخوة وأخوات، وإصراره على اهتمامٍ دائمٍ بهم. أسلوب ممارسته الرياضة، وآراء كبار فيها، أمثال بيليه.
هذه تفاصيل. هذه سيرة. هذه حياة. هذه كلّها، وغيرها أيضًا، تجعل "دييغو مارادونا" فيلمًا وثائقيًا ممتعًا وحقيقيًا وجاذبًا، إذْ يضع الفيلمُ الشخصيةَ في كامل بهائها وانكساراتها، من دون أحكامٍ أو فرضيات أو تمنّيات. الصُوَر تؤكّد سيرةً مصنوعة في الملعب وخارجه، وأحكامٌ قضائية متعلّقة بالمخدرات تكشف جانبًا آخر في ذات الشخصية، وألمٌ دفين يظهر قليلاً، فآسيف كاباديا يتمهّل في عرض لقطاتٍ تعكس ذاك الألم على وجه الرياضيّ، في لحظاتٍ مختلفة. ندمٌ وبكاء وتوتر تتوضّح كلّها في سياقٍ يلتزم سيرة موثّقة في صُوَر وتسجيلات، يصنع آسيف كاباديا منها فيلمًا رائعًا عن شخصية تسحَر ملايين الناس، وتُغضِب كثيرين آخرين.
تركيز المخرج على اللحظة الأخطر في حياة مارادونا أشبه بدعوة إلى التأمّل في تحوّل عنيف يتعرّض له الرياضيّ: مُشاركته المنتخب الأرجنتيني في "كأس العالم 1990" مُصيبةٌ تحلّ عليه. مباراة مفصلية تُقام بين منتخبه الوطني والمنتخب الإيطالي في أحد ملاعب نابولي. المدينة تعشقه. النادي صانع فصل أساسي من شهرته، وهو صانع انتصارات له. هذا صدام خفيّ. فوز الأرجنتينيين بداية صراعٍ بينه وبين سلطاتٍ ومؤسّساتٍ واجتماعٍ (رغم استمرار نابوليتانيين عديدين في الانتصار له) في المدينة نفسها.
"دييغو مارادونا"، الفيلم والشخصية معًا، جزءٌ من تاريخٍ وحياة وسلوك. صورةٌ عن معنى الشهرة والتحطّم. قولٌ في أحوال نفسٍ ورياضة وصناعة واجتماع وثقافة. الفيلم محبوكٌ بمتانة جميلة، وإنْ يُثير مارادونا في نفوس كثيرين (لعلّ جزءًا كبيرًا منهم سيشاهد الفيلم) نفورًا واشمئزازًا وغضبًا وكراهية.
هذه جمالية سينما. هذا سحر رياضة.