"حالة موت سريري" تعيشها فصائل اليسار الفلسطيني، فلا هي متوفاة لتصبح في عداد الذكرى وتحجز لها مكانا على رف الأرشيف السياسي، ولا هي فاعلة ليكون لها دور حيوي في الشارع الفلسطيني يليق باسم اليسار وتاريخه النضالي. فيما يتفق الخبراء والمراقبون على أن فصائل اليسار الفلسطيني فقدت دورها الحقيقي، بعد نبذ منظمة التحرير للكفاح المسلح، مقابل توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، حيث تراجع دور اليسار الفلسطيني إلى درجة الانكماش، وبات وجوده في الساحة السياسية الفلسطينية غير ذي أهمية.
ويرى هؤلاء أن تراجع أداء اليسار الفلسطيني، سواء في منظمة التحرير أو على الساحة السياسية، عكس نفسه على الشارع الفلسطيني، وأعضاء ومناصري اليسار الذين تناقصت أعدادهم بشكل مستمر، بحيث بات من المستحيل، على جميع فصائل اليسار مجتمعة، أن تحشد لمسيراتها أو تظاهراتها أكثر من بضع عشرات في أفضل الأحوال، وفي أكثر حالات اليسار حيوية.
وفيما يصرّ المراقبون على أن العمليات النوعية التي قام بها اليسار الفلسطيني، وتحديدا الجبهة الشعبية الفلسطينية التي اغتال الاحتلال الإسرائيلي أمينها العام أبوعلي مصطفى من مكتبه في رام الله بطائرة أباتشي أميركية الصنع في 27 أغسطس/آب 2001، وما تلا ذلك من اغتيال لوزير السياحة في حكومة الاحتلال رحبعام زئيفي في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2001، وبعض العمليات النادرة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ما هي إلا نتاج عمل فردي وخلايا نشطت بعيدة عن المركز من دون أي توجيه منه، والدليل هو عدم استمراريتها، كما هو الأمر مع فصائل أخرى، مثل حركة "فتح" و"حماس" و"الجهاد الإسلامي".
لكن القيادية في الجبهة الشعبية، خالدة جرار، ترى أن هناك حالة من التراجع العام للحركة الوطنية ما بعد توقيع اتفاق "أوسلو" عام 1993. وتعترف جرار في تصريحات لـ"العربي الجديد" بتراجع اليسار الفلسطيني، لحساب نمو قوى أخرى.
ولعلّ أزمة اليسار الفلسطيني تتجلى اليوم في عدم تمايزه عن بقية الفصائل، حيث فقدت فصائله سمة الجذرية والوضوح، وهي السمات التي عُرف بها رموز اليسار الفلسطيني، وعلى رأسهم جورج حبش، وكذلك شخصيات مثل وديع حداد، وليلى خالد، وغسان كنفاني، ومحمد الأسود "جيفارا غزة"، وأبو علي مصطفى، ونايف حواتمه، وغيرهم الكثير من الذين حفروا لهم أسماء في القضية الفلسطينية، ولم يقربوا يوما المساحة الرمادية التي باتت أرضية ومظلة لليسار الفلسطيني بكل فصائله اليوم، من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وحزب الشعب (الشيوعي سابقا)، وغيرها.
وتعزو جرار تراجع اليسار الفلسطيني إلى "غياب الجذرية والوضوح، بحيث أصبح الفلسطيني لا يميز بين اليسار الفلسطيني وغيره من الفصائل".
وترى أن تراجع اليسار لا يقتصر على اليسار الفلسطيني، بل إن اليسار في كل العالم شهد تراجعا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، مؤكدة: "أن التراجع له أبعاده العالمية والمرحلية معا".
وفي دليل إضافي على غياب الجذرية والوضوح بشكل مربك، تأتي مشاركة نائب أمين عام الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، قيس عبدالكريم، في اجتماع تطبيعي عقده الرئيس محمود عباس في مقره في الرئاسة برام الله، في 17 شباط/فبراير 2014، واستضاف فيه طلبة إسرائيليين، كان عبدالكريم ضمن الحاضرين في اللقاء التطبيعي، بينما كان بضعة شبان محسوبون على الجبهة الديمقراطية يحملون يافطات تدين اللقاء التطبيعي ومنظميه، معتبرين إياه عارا، لا سيما بعد تصريحات الرئيس محمود عباس في ذلك اللقاء، ووعده إسرائيل بأنه لن يغرقها باللاجئين الفلسطينيين.
ويرى الكاتب السياسي، جهاد حرب، في تصريحات لـ"العربي الجديد" أن تراجع اليسار يعود إلى كون فصائله مشتتة وغير قادرة على تجميع ذاتها، وأنها لم تنتج برنامجًا سياسيًا واجتماعًا وثقافيًا لإحداث تغيير أو نقلة في البنى الثقافية الفلسطينية، وأن جزءا من هذه الفصائل انساق خلف الحزب الأكبر في منظمة التحرير الفلسطينية، وهي حركة فتح، إضافة إلى الثقافة العامة للفلسطينيين التي لم تستوعب البنى الفكرية لليسار الفلسطيني، لذلك بقي محدود التأثير في الساحة الفلسطينية لغياب قيادة كاريزماتية تستطيع جلب هذه الجماهير إلى هذه الأحزاب وتفتتها خلال هذه الفترة أو فترة العشرين عاما؛ ما أدى إلى انكماش أحزاب اليسار الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية.
وينفي حرب أن يكون موقف اليسار الداعم للنظام السوري له أثر على تراجع شعبية اليسار الفلسطيني، ويعلق قائلا: "الفصائل الفلسطينية الأساسية كانت خارج سورية، باستثناء القيادة العامة، وموقفها لم يكن مؤيدا في الجوانب المتعلقة بالثورة أو الأزمة السورية، ولا أعتقد أن هناك تأثيرا على محدودية تأثير اليسار، لأنه متراجع أصلا".
الانتخابات تعكس تآكل اليسار الفلسطيني
تعكس نتائج الانتخابات الفلسطينية، سواء في المجلس التشريعي عام 2006، أو النقابات المهنية، أو الكتل الطلابية في الجامعات الفلسطينية، ضآلة المنتمين والمناصرين لليسار الفلسطيني في الشارع الفلسطيني بكل أطيافه، بحيث باتت نتائجه المتواضعة جدا في أسفل نتائج القوائم الانتخابية أمرا مفروغا منه، وربما لا يلفت الأنظار، حتى في الجامعات بالكليات العليا التي كان يُنظر إليها قبل عام 1990 كمعاقل لليسار الفلسطيني، مثل جامعة بيرزيت في رام الله والمعروفة بأجوائها المنفتحة على الآخر، بسبب الوجود المسيحي والإسلامي معا.
لكن حتى هذه الجامعة التي كان ينظر إليها على أنها معقل لليسار الفلسطيني، بات اليسار فيها مهمشا، فيما تتنافس حركتا "فتح" و"حماس" على أصوات آلاف من الطلبة، تاركتين بضع عشرات من الأصوات لصالح جميع فصائل اليسار التي عادة ما تتحالف في قائمة واحدة، في مشهد بات يتكرر سنويا، في كل الجامعات الفلسطينية.
ولعل نتائج انتخابات الطلبة العام الماضي 2014 تعكس هذا الواقع بجلاء؛ إذ حظي اليسار بخمسة مقاعد من أصل 51 مقعدا تم التنافس الجدي عليها بين "فتح" و"حماس".
وجود شكلي في منظمة التحرير
أزمة اليسار لا تنحصر في ما ذكر من تآكل متراكم في شعبيته وحسب، بل إن دوره في القرار السياسي بات لا يذكر، رغم وجوده في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وفي جميع الدوائر المهمة فيها، إلا أنه لا يشكل ثقلا في القرار الفلسطيني السياسي. ومع ذلك هناك أصوات يسارية نادرة تنتقد الرئيس محمود عباس وتتهمه بالتفرد بالسلطة، وحتى عندما تفعل هذه الأصوات وتقوم بالانتقاد، فإن الأمر لا يخرج عن تصريحات إعلامية، ولا يتطور إلى فعل حقيقي على الأرض.
وربما شكلت مقاطعة الجبهة الشعبية والديمقراطية اجتماع القيادة الذي عقده الرئيس أبو مازن في 31 ديسمبر/كانون الأول، مثالا متطورا على النقد والتمسك بالموقف، إذ جاءت المقاطعة ردا على تفرد أبو مازن بالقرار السياسي، وقيامه بعرض مشروع قرار إنهاء الاحتلال أمام مجلس الأمن من دون العودة إلى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، إذ لم يتم عرض مسودة المشروع أمام أعضاء اللجنة، بل حصلوا عليه من الإعلام الأجنبي، فضلا عن رفض الرئيس أبو مازن، على مدار أشهر، عقد اجتماع للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وإصراره على اجتماع قيادي موسع يضم أعضاء في مركزية حركة "فتح" وممثلين عن الفصائل والأمن ومحافظين، وشخصيات مقربة من الرئيس، بشكل يهمّش اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير التي تعتبر الممثل الشرعي لمنظمة التحرير.
هل تم تدجين اليسار الفلسطيني؟
يعتبر البعض أن عدم قيام اليسار بأي خطوات عملية في منظمة التحرير، من خلال إطلاع الشارع على حقيقة أن منظمة التحرير أصبحت مظلة شكلية، تتم فيها كل القرارات المتعلقة بالشعب الفلسطيني، من مفاوضات مع الاحتلال الإسرائيلي، واتصالات مع الإدارة الأميركية، أو تقديم مشروع لمجلس الأمن، عبر شخص الرئيس الفلسطيني محمود عباس واثنين أو ثلاثة من المقربين له، يأتي من باب الخوف من الرئيس، ومن وقف المستحقات المالية لهذه الفصائل. الأمر الذي سبق وحدث عدة مرات مع الجبهة الشعبية دون غيرها من فصائل اليسار، إذ تم قطع مخصصاتها المالية من الصندوق القومي الفلسطيني أكثر من مرة، عقابا لها على مواقفها السياسية.
ولعل المال بات عنصر ابتزاز وتلويح أن اليسار الذي رفض أوسلو وإفرازاتها بات متكسبا منها، وليس أدل على ما سبق سوى ما قاله الرئيس محمود عباس في اجتماع المجلس المركزي بتاريخ 29 أبريل/نيسان الماضي، عندما قرر البيان الختامي للمجلس مواصلة المفاوضات مع الاحتلال الإسرائيلي، بناء على اتفاقية أوسلو. حينها وقفت القيادية في الجبهة الشعبية، خالدة جرار، لتهاجم اتفاق أوسلو، ووصفته باتفاق الخيانة.
الرئيس عباس الذي كان يترأس اجتماع المجلس المركزي لم يسكت حينها، ورد على جرار قائلا: "نعم، أوسلو خيانة، وكل ما نتج عن اتفاقية أوسلو خيانة، فالمجلس التشريعي يعتبر أحد نتائج أوسلو الخيانية، وأنتِ يا رفيقة خالدة عضو في مجلس خياني نجم عن اتفاقية خيانية"، لتبدأ بعد ذلك مواقع التواصل الاجتماعي لنشطاء "فتح" في نشر صور جرار وجمع راتبها وهو 3000 دولار منذ انتخابها عام 2006، والتشهير باليسار الذي يرفض أوسلو ويقبض راتبه من إفرازاتها، أي المجلس التشريعي الفلسطيني الذي نص عليه أوسلو!.