يوثق التحقيق كيف جرى التلاعب بكود تصميم المباني المعرضة للأخطار في تركيا، ما فاقم الخسائر المادية والبشرية في المناطق التي ضربها زلزال كهرمان مرعش والذي كان يمكن الحد من خسائره عبر خطط التحول الحضري.
- لم ينج أحد من المبنى الذي كانت تسكنه أسرة شقيق الخمسيني التركي محمد كونسال، في شارع أكينجي بمدينة أنطاكية في محافظة هاتاي بعد وقوع زلزال السادس من فبراير/شباط الماضي، وتبدو فداحة الكارثة في انتهاء حياة 32 عائلة كانت تقطن في المبنى المكون من 8 طوابق يضم كل منها 4 شقق، على الرغم من أن عمر البناء لا يتجاوز 5 أعوام فقط كما يقول كونسال لـ"العربي الجديد"، موضحا أنه انتظر 12 يوما إلى جانب الركام من أجل انتشال جثة شقيقه وزوجته وأطفالهم الثلاثة.
ذات المبنى بالإضافة إلى 20 آخرين شيدت بإشراف ذات المقاول وانهارت جميعها، كما يقول كونسال، الذي بني منزله قبل 15 عاما ولم يتضرر، "ما يؤكد أن البناء مغشوش وغير مطابق للمواصفات، رغم أن المقاول، والذي تم توقيفه للتحقيق معه، كان يروج إلى أنه مقاوم للزلازل".
ويمثل ما وقع لعائلة كونسال جزءا من مشهد الدمار الكبير، والذي أسهم في تعرية مظاهر التلاعب والإهمال وعدم الالتزام بالكود التركي للمباني المعرضة للزلازل وهو (مجموعة من القوانين والاشتراطات واللوائح التنفيذية والملاحق المتعلقة بالبناء والتشييد لضمان السلامة والصحة العامة)، "والذي وضعته الدولة عام 1947، وجرى تعديله 7 مرات آخرها في 2018"، وفق ما جاء على الموقع الرسمي لإدارة الكوارث والطوارئ التركية (آفاد)، ما فاقم الأضرار المادية والبشرية، إذ بلغ عدد الضحايا 50 ألفا و399 شخصا حتى تاريخ 9 إبريل/نيسان 2023، بحسب آخر تحديث على الموقع الرسمي لآفاد.
230 ألف مبنى تضررت بشكل كبير
هربت التركية هُميرة كارغان بأطفالها إلى الطريق بمجرد شعورهم باهتزاز قوي بينما كانوا نياما داخل منزلهم في مدينة أضنة جنوب البلاد، "كان الأمر مخيفا وذهبنا إلى منطقة مفتوحة رغم البرد الشديد ثم جلسنا في خيمة"، كما تروي كارغان لـ"العربي الجديد" التفاصيل التي عاشتها هي وعائلتها لحظة وقوع زلزال كهرمان مرعش.
وما يفاقم معاناة كارغان، أن منزلها لم يعد صالحا للعيش، وتضرر بشكل جسيم رغم أنه شُيّد عام 2007، وما تعرفه أنه بُني على نحو يتناسب مع معايير الزلازل.
التلاعب بمكونات البناء ضاعف الدمار في مناطق الزلزال
ويعد منزل كارغان واحدا من بين 230 ألف مبنى تضررت بشكل كبير وتحتاج إلى الهدم بشكل عاجل نتيجة الزلزال، وفق بيانات أعلنها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مؤتمر صحافي عقده بتاريخ 6 مارس/آذار 2023.
ويرى المهندس هادي عوض، مدير شركة "رويال لاند" العقارية، أن الزلزال أعاد دق ناقوس الخطر في تركيا، إذ بدأت فرق تفتيش الأبنية في البحث في إسطنبول عن المباني المعرضة لخطر الانهيار، وتبين وجود 600 بناء غير مطابق للمواصفات وسيتم هدمها ليعاد البناء وفق مبادئ تصميم المباني المعرضة للزلازل.
وسبق أن تكرر ما وقع في زلزال 2023 من قبل وفق ما يكشفه المهندس المدني والخبير العقاري، عضو حزب العدالة والتنمية معين نعيم، الذي يدير شركة موياب للعقارات في إسطنبول، لافتا إلى "أن الدافع خلف تشديد المعايير المتعلقة بلائحة الزلازل عقب الزلزال الذي ضرب البلاد عام 1999، هو اكتشاف قضايا غش في البناء، إذ ثبت تورط أحد المقاولين باستخدام مواد بناء غير مناسبة في إسطنبول وتم اعتقاله وسجنه، ولدى وقوع زلزال 2011 تكرر الأمر وانهارت معظم المباني التي كان قد أُخطر ساكنوها مسبقا بضرورة إخلائها لعدم ملاءمتها للسكن، لكن بعضا منها لم يتم إخلاؤها وانهارت جراء الزلزال على رؤوس ساكنيها".
كيف يحدث الغش؟
يعكس انهيار المجمع السكني، المعروف باسم عصر النهضة (رينيسانس ريسيدنس) في هاتاي بفعل زلزال كهرمان مرعش، والذي تحول إلى مقبرة جماعية لـ 800 شخص قضوا تحت ركام 250 شقة، التزاما ضعيفا بلائحة الزلازل، وفق ما كشفه فريق قسم البناء بكلية الهندسة في جامعة كارادينيز التقنية الحكومية في طرابزون، والذين حققوا في أسباب الانهيارات الكبيرة إذ وجدوا أن مباني المجمع انقلبت إلى الوراء دون أن يتضرر الطابقان السفلي والعلوي، وذلك بسبب عدم كفاية ارتفاعات التداخل بينها.
أما الأبنية الأخرى التي كشف عليها الفريق بخاصة في بلدة نورداجي في غازي عنتاب جنوب البلاد التي انهارت غالبية الأبراج السكنية فيها، وعقب البحث وإجراء الاختبارات اللازمة تبين أن السبب الرئيسي يعود إلى أن الخرسانة المستخدمة أقل من نصف القيم المسموح بها في كود الزلازل، بالإضافة إلى طبيعة الأرض التي تشكل عاملا مهما يجب وضعه في الاعتبار عن تصميم المبنى حتى يكون مقاوما للزلازل خاصة في تلك التي تصل إلى 8 طوابق، وهو ما لم يتوفر في المنطقة، ويؤكد مهندس الإنشاءات جمعة ديمير من خلال عمله في شركة مقاولات خاصة في أنطاكية منذ 8 أعوام، "أن هناك الكثير من الخروقات وعدم التزام بالمعايير التي تفرضها الدولة، على سبيل المثال لا الحصر، في كثير من المباني وجدنا الحديد المستخدم في الأسقف قياس 8 ملم أو 10 ملم، في حين أن المطلوب لا بد ألا يكون أقل من 16 ملم، وكذلك كان الارتفاع بين الطوابق في مبان جرى الكشف عليها غير مطابق للمواصفات وهذه خروقات يمكن ملاحظاتها"، على حد قوله، مطالبا بالكشف وفحص المباني ليس من الخارج والداخل فقط، بل كذلك فحص الأساسات بشكل كامل لمعرفة سلامتها من عدمها.
230 ألف مبنى يجب هدمها بسبب أضرار الزلزال
ويشعر ديمير بالحسرة على ضحايا الزلزال قائلا إنه "كان واضحا بحسب ما عاينه في مناطق الدمار دور التلاعب بكود الزلازل في تعريض حياة الناس للخطر والموت"، وتابع: "في كثير من الشوارع يمكننا ملاحظة وجود مبان سليمة أو على الأقل لم تنهار بشكل كامل فوق رؤوس ساكنيها، وبجانبها أخرى تدمرت والفارق الالتزام بالكود وتحديثاته التي دخلت حيز التنفيذ في الأول من يناير/كانون الثاني 2019.
وتراعي التحديثات دراسة التربة المخصصة للبناء مسبقا، والمواد المستخدمة في تأسيس الإنشاءات، ومكونات المبنى، لا سيما وضع عوازل التمدد والهبوط، والفواصل الزلزالية في الطوابق العليا، كما تراعي الأحمال والأوزان الذاتية التي ستحملها الطوابق بدقة متناهية، والأبواب والنوافذ، مع الالتزام بمعايير حماية الجدران من التصدع أو التهدم، وكل ما يلزم لسلامة المباني النسبية من الكوارث الطبيعية، وأن يكون المبنى مُصمما بشكل يُحافظ على توازنه من الداخل والخارج ويعتمد ذلك على التخطيط الأفقي للعُمران، إضافة لاختيار التربة، وفقاً لتقرير دراسة يُبين مدى أهليتها من عدمها لعملية البناء، بحسب الكود المنشور على الموقع الرسمي لـ"آفاد".
من المسؤول؟
يحمل مصطفى أمين أوغلو من ولاية غازي عنتاب، المقاولين المسؤولين عن التنفيذ مسؤولية ما وقع كذلك البلدية كونها لم تؤد واجباتها فيما يتعلق بالرقابة والتفتيش، إذ تضررت شقته بشكل بالغ، وباتت الجدران متصدعة ومنها ما انهار بالكامل، متوقعا أن يتم هدم كامل المبنى الذي شُيد عام 1999 عقب زلزال إزميت.
وفي الوقت الذي عاد فيه كثير من العائلات إلى منازلهم التي أصبحت آيلة للسقوط وفارقوا الحياة فيها بعدما سقطت بفعل الزلزال الثاني بحسب روايات السكان الذين قابلهم معد التحقيق، قررت ليلى أوزبك وأسرتها من ولاية كهرمان مرعش، البقاء في الخيام بعد انهيار الطابق الأول من المبنى الذي كانوا يسكنونه بالكامل، وسقوط المبنى على جانبه، إذ يبلغ عمره نحو 50 عاما، لذلك تستبعد أوزبك أن يكون مطابقا لمعايير الزلازل.
ودفعت "جرائم الزلزال" كما أطلقت عليها وزارة العدل التركية إلى تحديد المقاولين وغيرهم من المسؤولين عن أعمال البناء وجمع الأدلة وتوجيه الخبراء والمهندسين المعماريين والجيولوجيين والتحقق من تصاريح البناء والإشغال، إذ أعلن وزير العدل التركي بكير بوزداغ في 6 مارس الماضي عن اعتقال 317 شخصا بينهم 108 مقاولي بناء و173 ممن يتحملون المسؤولية القانونية عن المباني و18 مالكا و18 ممن أجروا تعديلات على المباني.
ويعتبر المحامي التركي مصطفى كوركماز، والذي يعمل في مكتبه الخاص أن إحدى المشكلات الرئيسية تكمن في غياب الرقابة على حالات الغش والتلاعب في قطاع الإنشاء من قبل وحدتي الترخيص والإعمار في البلدية، موضحا أن المتهمين الموقوفين يُحاكَمون في نطاق حالات المسؤولية التقصيرية وفقا لأحكام الفقرة الثانية من المادة 85 من قانون العقوبات التركي، لكن المهندس نعيم يبين، مستندا إلى بروتوكول القرارات الحكومية، أن من يقوم بمهمة الرقابة على المقاولين والمهندسين أثناء تنفيذ البناء هو شركات الرقابة الإنشائية التي تعتمدها البلديات ووزارة البيئة والتخطيط العمراني، لكن بعض هذه الشركات تقدم تقارير وهمية للبلدية عن مقاومة المبنى للزلازل، موضحا مراحل الرقابة على المباني في تركيا قائلا: "تمر بثلاث مراحل من الفحص والتدقيق قبل أن تصبح جاهزة للسكن، أولها مرحلة فحص مطابقة المخططات الهندسية والمعمارية للمعايير من قبل البلديات، ثانيها مرحلة تدقيق شركات مرخصة من الدولة بشكل دوري لمواءمة عملية التشييد للمعايير الموضوعة من قبل هيئة آفاد، وثالثها مرحلة الفحص ما بعد البناء من قبل البلديات أيضا، مشددا على أن المسؤولية عن خسائر الزلزالين تتوزع على عدة أطراف وعلى رأسهم المقاولون الذين يحاولون توفير مبالغ مالية بسيطة مقارنة بقيمة العقار، عبر استخدام كميات أقل أو نوعيات رديئة من مواد البناء (مثل الإسمنت والحصى والحديد وغيرها)، ثانيهم أصحاب المحال التجارية أو المساكن الذين يغيرون من الهيكل الهندسي الحامل للمبنى بغرض توسعة عقاراتهم وإضافة ملاحق لها، ما يؤدي لخلل في تركيبته الإنشائية بحيث يشكل نقاط ضعف في مقاومة قوة القص الناتجة عن الزلزال، وثالثا بعض الموظفين الذين يقدمون تقارير مضللة تظهر المباني المتهالكة على أنها مباني قوية ومقاومة للزلازل، ورابعا أصحاب المباني الذين يصرون على عدم إعادة تشييد مبانيهم رغم إبلاغهم من قبل الجهات الرسمية بأنها غير قابلة للسكن لعدم قدرتها على مقاومة الزلازل، لذا هم أيضا متورطون في هذه القضية، بينما يحيل ياسين أولوص، عضو سابق في بلدية أياش الفرعية في أنقرة، المسؤولية إلى البلديات الفرعية كونها المعنية بإصدار شهادات الإشغال، ويشمل ذلك كل إذن بإشغال المبنى بعد التأكد من مطابقته لكود البناء، ومعنية بتوصيل الخدمات، وحفظ سجلات البناء والتفتيش والعقوبات، وبناء قاعدة بيانات بالمكاتب الهندسية والشركات المرخصة بمزاولة أعمال البناء.
إلا أن نعيم يؤكد على "أن دور البلديات يتمثل في توقيع قرارات فنية من جهات مستقلة"، مشددا على أنه يقع على عاتقها إجرء فحص دوري بخاصة للمباني القديمة وتفعيل الإجلاء الإجباري للسكان في المباني المعرضة للانهيار"، قائلا إنه "وللأسف جميع البلديات سواء التابعة للمعارضة أو الحزب الحاكم، ولتجنب إغضاب المواطنين، تتلكأ في تنفيذ القرارات، وفي الحقيقة، أول البيوت التي تهدم لدى حدوث زلازل هي التي لم يتم إجلاؤها من قبل البلديات"، مشيرا إلى أن رفض المعارضة للتحول الحضري الذي سعت إليه الحكومة ليس في إسطنبول فقط وكذلك في هاتاي التي ضربها الزلزال وتدمرت تسبب في مزيد من الخطر، وقال ادعت المعارضة أن الحكومة تحاول إغناء بعض رجال الأعمال من خلال قانون إعادة الإعمار عبر المناقصات، وهذه الاتهامات ليست حقيقية ولا دليل عليها، وتبين عقب الزلزال أهمية هدم تلك المناطق وإعادة إعمارها وتنظيمها، وعدم إثارة الجماهير من أجل أهداف انتخابية أو سياسية تبين خطأها عقب تدمير الزلزال لآلاف المباني بخاصة القديمة منها، والتي كانت في صلب عمليات التحول الحضري.