يتعمد الاحتلال الإسرائيلي تصفية الكفاءات العلمية والأدبية التي يترك فقدها أثراً كبيراً على المجتمع الفلسطيني، بخاصة أصحاب التخصصات النادرة الذين يخلفون فراغاً ويصعب إيجاد بديل إلا بعد سنوات من التدريب والتأهيل.
- لم تثن التهديدات الإسرائيلية المتكررة الأديب والأكاديمي الفلسطيني رفعت العرعير، أستاذ الأدب الإنكليزي في الجامعة الإسلامية بقطاع غزة، عن النشر باللغة الإنكليزية عبر وسائل التواصل الاجتماعي حول ما يرتكبه الاحتلال الإسرائيلي من مجازر، لرسم صورة لكل العالم عن تفاصيل الحياة اليومية تحت القصف، ونقل قصص الشهداء، وذلك قبل استهدافه في السابع من ديسمبر/كانون الأول 2023.
وكان العرعير (44 عاما) قد تلقى تهديدات بالتصفية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، لكنه لم يتوقف عن النشر، إذ كتب في إحدى تدويناته على منصة "إكس" بتاريخ 4 ديسمبر الماضي، جاء فيها "نحن مغمورون بطبقات سميكة من البارود والإسمنت"، وتبعها بتدوينة أخيرة: "لا يزال الكثيرون محاصرين في الشجاعية، من بينهم بعض أطفالي وأفراد عائلتي"، وفق صديق العرعير، الشاعر الفلسطيني مصعب أبو توهة، والذي يعبر عن حزنه بقوله لـ"العربي الجديد": "لا أستطيع تخيل اغتيال العرعير مع عائلته"، ويضيف: "هذه أكبر خسارة، لأن العرعير كان صوتاً لفلسطين في كل العالم".
ويعد العرعير واحدا من 50 شخصية من الكوادر العلمية والأدبية، استشهدوا نتيجة غارات جوية استهدفت منازلهم منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 وحتى االسادس من يناير/ كانون الثاني 2024، بحسب المكتب الإعلامي الحكومي في غزة.
استهداف ممنهج للكفاءات العلمية
يرمي الاحتلال من وراء اغتيال صفوة من العلماء والشخصيات الأكاديمية، والذي تزامن مع تدمير هائل لمنشآت تعليمية، مثل الجامعة الإسلامية وجامعتي الأزهر والقدس المفتوحة، إلى تقويض المنظومة العلمية والتعليمية في القطاع، بحسب الدكتور عدنان الهندي، العميد السابق لكلية العلوم الصحية بالجامعة الإسلامية، والذي يشير إلى أن الاحتلال يستهدف ذوي التخصصات النادرة والإنجازات المتميزة مثل الدكتور سفيان تايه رئيس الجامعة الإسلامية في غزة والذي يحمل درجة الأستاذية في الفيزياء النظرية والرياضيات التطبيقية، والحاصل على جائزة عبد الحميد شومان للباحثين العرب (جائزة عربية للبحث العلمي) في نوفمبر 2021، كما صنفته جامعة ستانفورد الأميركية في عام 2021 ضمن أفضل 2 بالمائة من الباحثين حول العالم، وفق الهندي.
وقصف طيران الاحتلال الإسرائيلي منزل تايه في حي الفالوجا شمال غزة، في 2 ديسمبر الماضي، ما أدى إلى استشهاده مع أفراد أسرته التسعة بحسب أحد أقاربه، محمد تايه.
وتشابهت الطريقة المتبعة من قبل الاحتلال في اغتيال الكوادر العلمية باستهداف محدد لمنازلهم وقتلهم مع أسرهم، ومن بينهم منزل البروفيسور محمد عيد شبير، أستاذ علم الأحياء الدقيقة ورئيس سابق للجامعة الإسلامية في غزة، والذي استهدفته طائرات الاحتلال في 14 نوفمبر الماضي واستشهد مع أفراد أسرته، ونفس الأمر تكرر مع الدكتور تيسير إبراهيم، أستاذ في الفقه وأًوله وعميد كلية الشريعة والقانون بالجامعة الإسلامية، الذي استشهد مع كل أفراد أسرته إثر غارة جوية على مخيم النصيرات وسط قطاع غزة في 17 أكتوبر الماضي، وفي مطلع ديسمبر المنصرم، استشهدت نائبة عميد كلية العلوم في الجامعة الإسلامية أستاذة الفيزياء ختام الوصيفي، وزوجها عميد كلية التربية الأسبق في الجامعة ذاتها الدكتور محمود أبو دف وأفراد من عائلتهما إثر غارة جوية استهدفت المنزل، بحسب رواية المحامي عبد الله شرشرة، منسق وحدة الحماية القانونية في مؤسسة بيت الصحافة (غير ربحية في غزة).
اغتال الاحتلال 50 شخصية من النخب العلمية والأدبية في غزة
ومن أبرز النخب التي اغتالها الاحتلال الدكتور سعيد أنور الزبدة، رئيس الكلية الجامعية للعلوم التطبيقية بغزة، الذي استشهد برفقة ثمانية من أفراد أسرته في قصف استهدف مربعا سكنيا بحي الزيتون في مدينة غزة، مساء الحادي والثلاثين من شهر ديسمبر الماضي، وفقا لخمسة من طلابه، بينهم الشاب إبراهيم راضي.
وينتقي الاحتلال بشكل منهجي العلماء ممن لهم باع طويل في الأبحاث العلمية لإيقاع آثار مدمرة على المجتمع الفلسطيني وعرقلة التقدم العلمي والتكنولوجي، بحسب مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة، مبينا لـ"العربي الجديد" أن الاحتلال اغتال في العدوان الأخير على غزة 11 باحثًا لهم إسهامات كبيرة مثل سفيان تايه وسعيد طلال الدهشان الخبير في القانون الدولي وصاحب كتاب "كيف نقاضي إسرائيل؟" الذي رسم خلاله خريطة طريق لما هو مطلوب عمله فلسطينيًا وعربيًا وإسلاميًا ودوليًا لمقاضاة دولة الاحتلال. واستشهد الدهشان هو وعائلته في غارة إسرائيلية استهدفت منزلهم بمدينة غزة في 11 أكتوبر الماضي، وفق الثوابتة، قائلا إن "تعويض هؤلاء العلماء والأكاديميين ليس سهلًا، فالأخيرون بنوا قدراتهم على مدار عقود طويلة وسنوات من العلم والدراسة والتطوير".
ويعد ما سبق جريمة حرب على اعتبار أن العلماء والأدباء والأكاديميين مدنيون، ليس لهم أي صلة بالأعمال العسكرية، استنادا للمبادئ العامة التي اعتمدتها المحكمة الجنائية الدولية لتفسير أركان الجرائم، وبحسب المادة 8 (2) (أ) و المادة 8 (2) (أ) ‘1’: "جريمة الحرب المتمثلة في القتل العمد مكتملة الأركان، بأن يقتل مرتكب الجريمة شخصا واحدا أو أكثر أو أن يكون ذلك الشخص أو أولئك الأشخاص ممن تشملهم بالحماية اتفاقية أو أكثر من اتفاقيات جنيف لعام 1949، أو أن يكون مرتكب الجريمة على علم بالظروف الواقعية التي تثبت ذلك الوضع المحمي، وأن يصدر السلوك في سياق نزاع مسلح دولي ويكون مقترنا به، أو أن يكون مرتكب الجريمة على علم بالظروف الواقعية التي تثبت وجود نزاع مسلح".
تصفية الأطباء المتميزين
قتل الاحتلال الإسرائيلي منذ بدء العدوان 308 أشخاص من الكوادر الطبية، بينهم 30 طبيبًا، 11 منهم متخصصون في مجالات نادرة وأساسية كالجراحات الدقيقة وزراعة الكلى والعقم والحروق، وهؤلاء وفقا لحديث الناطق باسم وزارة الصحة في غزة، الدكتور أشرف القدرة لـ"العربي الجديد"، يصعب تعويضهم، ويؤثر غيابهم على القطاع الطبي بخاصة في ظروف كهذه يحتاج فيها القطاع كل الخبرات والتخصصات بعد كل الجرائم التي ارتكبها الاحتلال بحق أهله.
ولم تقتصر ملاحقة الاحتلال للكوادر الطبية عبر اغتيالهم، بحسب القدرة، فقد اعتقل 100 منهم وعلى رأسهم مدير مجمع الشفاء الطبي الدكتور محمد أبو سلمية، ومدير مستشفى كمال عدوان الدكتور أحمد الكحلوت، ومدير مستشفى العودة، الدكتور أحمد مهنا، واستهدف 138 مؤسسة صحية، ودمر 23 مستشفى وأخرجها عن الخدمة.
تصفية 30 طبيباً بينهم 11 من ذوي التخصصات النادرة
ويستحضر القدرة حوادث الاستهداف المباشر للأطباء المتميزين، حيث قام الاحتلال بتصفية طبيب التجميل والحروق بمجمع الشفاء الطبي مدحت صيدم مع 3 من أبنائه، في غارة جوية استهدفت منزله في الأسبوع الثاني من العدوان، ومسيرة صيدم المهنية تمتد لنحو 25 عامًا شهد خلالها معظم الحروب التي شنها الاحتلال على القطاع. كما اغتال الاحتلال طبيبة الأمراض النسائية رزان الرخاوي وزوجها طبيب التخدير في المستشفى الإماراتي، تامر خياط في قصف استهدف عدة منازل في رفح في 13 أكتوبر الماضي، تلاهم في 30 ديسمبر الماضي استهجاف أحد أبرز وأمهر أطباء العظام في غزة، محمد أحمد مطر أخصائي العظام في المستشفى الإندونيسي واستشهد معه 3 من أولاده، بحسب القدرة، الذي يصف استشهاد مطر بالخسارة الكبيرة للقطاع الصحي، ويقول إن "مستشفيات غزة بحاجة ماسة لخدماته في ظل وجود عشرات آلاف المصابين، بينهم الآلاف والذين يعانون من أضرار في العظام".
وفي مجزرة بشعة ارتكبها الاحتلال بواسطة الطائرات وقذائف المدفعية على حي تل الهوى، استشهد الدكتور عمر صالح فروانة برفقة زوجته وأبنائه وأحفاده في منزلهم بتاريخ 15 أكتوبر الماضي، وشغل فروانة المتخصص في العقم وأمراض الذكورة منصب عميد كلية الطب في الجامعة الإسلامية بغزة، ولديه خبرة 30 عاما في علاج العقم وأطفال الأنابيب. كما غيّب الاحتلال أخصائي أمراض وزراعة الكلى الوحيد في غزة الدكتور همام اللوح، والذي ارتقى برفقة والده جراء قصف منزله في 12 نوفمبر الماضي، وفق القدرة.
يتشابه هذا الاستهداف للأطباء مع حروب سابقة، إذ استشهد 23 من أفراد الأطقم الطبية المختلفة أثناء تأدية واجبهم خلال الحرب على غزة في عام 2014، وفق توثيق ورقة حقائق أعدتها شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية (تضم عدة منظمات غير حكومية في الأراضي الفلسطينية).
أهداف إسرائيلية لتغيير البنية المجتمعية
"لا يمكن النظر إلى اغتيال العلماء والنخب والأطباء في المجتمع الفلسطيني على أنه عمل عسكري عشوائي"، يقول شرشرة، مؤكدا أنها ضربات مقصودة وموجعة تلقاها الفلسطينيون في خضم المجازر اليومية التي يتعرضون لها، لأن الاحتلال أراد باغتياله الممنهج للنخب الوطنية الفلسطينية، حرمان الجامعات ومراكز البحث العلمي ومنظمات المجتمع المدني من كوادرها، وتحطيم أدوات ومنابر من تبقى منهم لإفقادهم القدرة على إحداث أي تغيير، ما يؤول في النهاية لمجتمع عاجز عن المطالبة بحقوقه، ويصف هذا النهج بأنه أحد تكتيكات الاحتلال لإحداث تغيرات اجتماعية وسياسية.
"ومن المؤكد أن آثار هذه الجرائم على المستوى الاجتماعي والنفسي والاقتصادي، ستظهر بشكل جليّ بعد أن تضع الحرب أوزارها"، وفق الباحث المتخصص في علم النفس التربوي الغزيّ أمجد جمعة، أستاذ مشارك في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة الشرقية في سلطنة عمان، ومن أبرز هذه الآثار النفسية والاجتماعية التي تسعى قوات الاحتلال إلى تحقيقها من وراء هذه الاغتيالات الممنهجة، التأثير في بنية النسيج الاجتماعي، حيث يمثل هؤلاء حجر الزاوية في بناء وتطور المجتمع الفلسطيني وصناعة مستقبله، ولديهم قدرة على التأثير الإيجابي في أفراد المجتمع والتي ستتأثر بتغييبهم، كما أن الاحتلال يهدف عبر استهداف هذه الشريحة من المجتمع إيصال رسالة ضمنية لباقي النخب والكفاءات والعلماء، بأن لا مكان لهم في قطاع غزة وترسيخ فكرة الهجرة لدى الكفاءات، لتفريغ القطاعات العلمية والصحية والثقافية والاقتصادية منهم، ويقول: "ستحتاج هذه القطاعات إلى مزيد من الوقت لرفد التخصصات بالبديل الذي يحتاج إلى سنوات من التدريب والتأهيل، ما سيؤثر على سيرورة عملها".
أما على المستوى النفسي فإن تصفية العلماء والنخب الفلسطينية التي تمثل رأس المال البشري، بمثابة "عقاب بالإنابة" لكل من يؤمن بهذه النماذج من النخب، وكذلك اغتيال للأمل لدى النخب الشابة وبالتالي سينعكس الأثر النفسي على كافة أفراد المجتمع الفلسطيني، بحسب جمعة. وهو ما يؤكده الثوابتة، قائلا إن "استهداف الاحتلال للأكاديميين يخلق حالة من الرعب ويثني العلماء عن الابتكار والإبداع".