تستهدف حملات رقمية منسقة صفحات لوسائط إعلامية فلسطينية وأخرى عامة، ويكشف التحقيق عن شبكات من المنتسبين لأجهزة السلطة الأمنية يتولون دورا قياديا في توزيع مهام الإبلاغ بهدف الإغلاق، عبر استغلال معايير مجتمع فيسبوك.
- تباهى منتسب جهاز الأمن الوقائي رائد حكيم من مدينة سلفيت، شمالي الضفة الغربية، كما يظهر، في منشور عبر صفحته على موقع "فيسبوك" بتاريخ 25 يوليو/تموز 2021، بأن "نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي تمكنوا من القضاء على شبكة جديدة من شبكات التضليل، من خلال إغلاق الصفحة الرسمية لشبكة قدس الإخبارية، التي تفننت بالكذب والتلفيق وبث سموم الفتنة في صفوف أبناء الشعب الواحد لصالح جهات مشبوهة وفصائل لا يهمها إلا مصالحها الخاصة"، على حد تعبيره.
لكن مسؤول العلاقات والتواصل في الشبكة أحمد جرار يكشف، لـ"العربي الجديد"، أن الصفحة الرئيسية لم تلغ بل عُطل ظهورها من قبل إدارة الشبكة في 24 يوليو، وأعيد تنشيطها في يناير/كانون الثاني 2022، بعد حملة بلاغات منظمة، إذ وصلت خمسة تحذيرات من إدارة فيسبوك إلى الشبكة بسبب منشورات سابقة عن شهداء فلسطينيين، من بينهم رائد الكرمي، في أقل من 12 ساعة، ما جعلها مهددة بالحذف نهائيا، وهو ما استدعى حمايتها من خلال إخفاء ظهورها.
ويشير جرار إلى أن الحملة جاءت في ذروة التفاعل الشعبي مع قضية الناشط السياسي نزار بنات، الذي قتل في 24 يونيو/حزيران، وبعد 6 أيام من بيان صدر عن جهاز الشرطة الفلسطينية اتهم الشبكة فيه بأنها موجهة، وتزامن ذلك مع تحريض صفحات مجهولة المصدر نشرت مقاطع فيديو ادعت فيه بأن الشبكة تعمل لصالح جهة معارضة فلسطينية.
ولم يتوقف حكيم عن تحريضه الإلكتروني، إذ شارك في حملة انطلقت في يونيو الماضي تحت شعار "يا عندي يا عند شبكة قدس"، استهدفت عبرها صفحات، حملت اسم حركة فتح، الشبكة بذرائع متنوعة، وتضمنت مطالب للمتابعين بإلغاء الإعجاب بصفحتها.
كيف تصنع حملات البلاغات؟
تكشف مصادر مسؤولة في حركة فتح، فضلت عدم الكشف عن اسمها لاعتبارات تنظيمية، أن أحد الاستنتاجات التي توصلت إليها الحركة، خاصة اللجنة التي شكلتها بعد خسارتها في انتخابات جامعة بيرزيت في مايو/أيار الماضي، هو أن الإعلام المعارض لعب دورا في سلسلة الخسارات التي منيت بها الحركة في انتخابات النقابات والجامعات خلال 2022، وتوضح أن أحد الأساليب التي يجرى العمل عليها مؤخرا هو إغراق منشورات الصفحات ووسائل الإعلام، التي تنتقد أداء السلطة، بالتعليقات المضادة، والتفاعل معها بشكل منظم، إلى جانب البحث عن منشورات يمكن الإبلاغ عنها كـ"محتوى مخالف لمعايير مجتمع فيسبوك".
ويخرج الإبلاغ عن منشورات على الصفحات العامة والإخبارية، أحيانا، من دائرة السرية إلى التباهي العلني، كما يتضح من منشور آخر للمنتسب حكيم بعد حذف صفحة "الحج مش هيك" الساخرة، التي وصل عدد المعجبين بها إلى17 ألف شخص، من على "فيسبوك"، نشره على صفحته بتاريخ 13 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي وجاء فيه: "الحج مش هيك تم الدعس"، وجرى تعطيل الصفحة عشر مرات بسبب البلاغات وفق ما رصده معد التحقيق.
تباه من منسوبي السلطة بإغلاق صفحات فلسطينية على الفيسبوك
ويعترف مؤسس ما يعرف بملتقى الكادر الميداني الفتحاوي المحامي زيد الأيوبي، هو الآخر، في منشور عبر صفحته على فيسبوك في 14 يوليو 2021، بأن العشرات من نشطاء الملتقى تمكنوا من إغلاق صفحة وكالة شهاب، مؤكدا في المنشور ذاته أن "العمل جار على إغلاق المزيد من الصفحات الحمساوية، وهناك المئات من النشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي يتصدون للإعلام المضلل وفق خطة استراتيجية".
مصيدة أسماء الشهداء
لم أتخيل يوما أن أبلغ عن صور الشهداء والأسرى، لكن ذلك جرى بعد مقتل نزار بنات، لأن صفحات إخبارية فلسطينية غطت الأمر بشكل مكثف وحثيث، وهو ما شكل إزعاجا للسلطة الفلسطينية، وبالتالي كان لا بدّ من مواجهتها، كما يقول إبراهيم محمد الذي يعمل موظفا مدنيا في وزارة المالية وطلب تعريفه بهذا الاسم وعدم الكشف عن هويته الحقيقية حتى لا يتعرض لعقوبات وظيفية.
ويوضح محمد، الكادر الفتحاوي، أن تعميمات كانت تصل عبر مجموعات تنظيمية وأخرى تابعة للأجهزة الأمنية على تطبيق واتساب للإبلاغ عن الصفحات الإخبارية، تحدد الساعة والآلية التي يجب العمل عبرها، مشيرا إلى أنه منذ بداية يوليو 2021، كانت هناك حملة بلاغات ضد صفحتي شهاب وشبكة قدس، بلغت ذروتها في فترة عطلة عيد الأضحى، واستغرق الأمر لإغلاق صفحة شهاب أسبوعا كاملا من العمل.
ورصد معدّ التحقيق واحدة من هذه المجموعات على تطبيق واتساب، وتحمل اسم "أصدقاء الأمن الفلسطيني 8" تضم 250 عضوا، وحولت لها رسائل من الرقيب فايز عدوان الذي يعرف نفسه على صفحته بأنه يعمل لدى إدارة العلاقات العامة والإعلام بقوات الأمن الوطني ومن مدينة نابلس، واللافت أن صفحته مربوطة برقم واتساب الذي يرسل من خلاله التوجيهات إلى المجموعة التي يشرف عليها 20 شخصا، من بينهم الإعلامي المقدم في جهاز المخابرات العامة عبد الحفيظ الهشلمون، وتضمنت التوجيهات للقائمين على الحملة الشبابية إغلاق صفحة لشبكة قدس التي اتهمها بنشر الفتنن، من خلال استخدام خاصية الإبلاغ عن (اسم زائف - صفحة زائفة)، والتي تستخدم ضد الحسابات والصفحات التي تنتحل شخصيات آخرين بما يخالف معايير فيسبوك"، كما جاء على الموقع.
وعبر بحث عن اسم ملتقى الكادر الميداني لحركة فتح على موقع فيسبوك، ظهرت مجموعة خاصة أسست في 14 مايو/أيار الماضي، واللافت أن المشرفين على الصفحة هم فايز عدوان، وأدهم أبو لاوي القيادي في الاتحاد الوطني للشباب الفلسطيني (منظمة أهلية)، وجاد المنسي الذي يعرف عن نفسه على صفحته بأنه يعمل في الأمن الفلسطيني، وبحسب معلومات وصل إليها معد التحقيق، فقد كان يعمل ملازماً أول في الأمن العام بغزة عام 2006 قبل سيطرة حركة حماس، بالإضافة إلى أشرف العاوور الذي يعرف عن نفسه بأنه يعمل ضابطاً في حرس الرئاسة.
محاولات لمواجهة حملات الاستهداف
إحدى الخطوات التي لجأت إليها الشبكات الفلسطينية لتحييد خطر الإبلاغ عن منشوراتها، كانت محاولة الوصول إلى معلومات من داخل المجموعات التابعة للأجهزة الأمنية، بهدف معرفة التوقيت المتفق عليه لبدء حملة البلاغات، من أجل إخفاء الصفحة المستهدفة، كما يؤكد جرار ومدير وكالة شهاب الإخبارية حسام الزايغ، إذ يوضح الأخير أن حملة البلاغات ضد صفحتهم، التي كان يتابعها 7 ملايين شخص، أدت لإغلاقها نهائيا في 13 يوليو 2021.
ويوضح الزايغ أنهم اجتمعوا بمدير شركات الأخبار في فيسبوك في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا محمد عمر، خلال عام 2021، بغية الاستفسار عن القوانين التي تحكم تصنيفات الإرهاب والتحريض، فكان جوابه: القانون الأميركي.
النقطة ذاتها يؤكد عليها مدير مركز صدى سوشال للحقوق الرقمية المتخصص في توثيق الانتهاكات بحق المحتوى الرقمي الفلسطيني، إياد الرفاعي، في مقابلة مع "العربي الجديد"، كاشفا عن رصد المركز 111 انتهاكا بحق المحتوى الرقمي الفلسطيني، تنوعت بين استهداف حسابات نشطاء وصحافيين وصفحات إخبارية خلال شهر يوليو الذي شهد موجة احتجاجات في عدد من مدن الضفة الغربية. بينما في الأشهر التي لم تقع فيها احتجاجات ضد الاحتلال أو السلطة، كان عدد البلاغات أقل، فمثلا في شهر فبراير/شباط من العام الجاري وثقنا 24 انتهاكا، وفي إبريل/نيسان 38 انتهاكا"، بحسب الرفاعي.
الأزمات السياسية مواسم للبلاغات
تقول سلوى حسين، المديرة الإدارية في موقع متراس المهددة صفحته بالحذف عن فيسبوك، والتي يتابعها قرابة 47 ألفا، إنهم يتعرضون لحملة بلاغات عندما ينشرون مواد معارضة للسلطة الفلسطينية، موضحة أنه "قبل عامين، نشرنا مادة حول التنسيق الأمني، وصلت إلينا في حينه بلاغات على عشرات المنشورات حول المقاومة وفلسطين أدت إلى خفض مستوى وصول إلى الصفحة، أي تقليل ظهورها لدى المتابعين والمعجبين بها، وجعلتها معرضة للحذف، و تركزت البلاغات على مواد للشهداء والمقاومة، وهي مواد تخالف سياسات فيسبوك، لكن لم تنجح الخوارزمية بالتقاطها، وهنا تأتي البلاغات لتساعد فيسبوك على حظر المحتوى والصفحة أحيانا".
ويتفق جرار والزايغ وحسين على أن عدد التعليقات المتماثلة على منشورات معينة بالتزامن مع وصول البلاغات، كما في الفترة التي تلت اغتيال الناشط بنات، بالإضافة لمعلومات مسربة من داخل مجموعات الأجهزة الأمنية، يوضح طبيعة الجهة التي تقف وراء ذلك، ويؤكدون أنه في السابق كان يمكن التحايل على خوارزميات فيسبوك، لكن الإبلاغ المباشر عن منشورات محددة صعّب المهمة.
ويستغل العاملون في حملات البلاغات الموجهة لإلغاء صفحات المعارضة ما يعرف بمعايير المجتمع الخاصة بفيسبوك، والتي تشمل إزالة المنشورات، والتقييد يطاول "المنظمات الإرهابية، ومنها الكيانات والأفراد الذين صنفتهم حكومة الولايات المتحدة أنهم منظمات إرهابية أجنبية (FTO) بما يشمل قادتها ورموزها، أو إرهابيين عالميين مُصنّفين في قائمة وزارة الخزانة الأميركية (SDGT)، كما هو موضح في الجزء الأول من معايير فيسبوك تحت "العنف والسلوك الإجرامي"، بحسب مصادر التحقيق.
ويشير جرار والزايغ إلى أن بعض النشطاء المحسوبين على السلطة يطلبون من متابعيهم الإبلاغ عن الصفحات الإخبارية الفلسطينية، أو التفاعل معها بشكل مضاد، وهو ما استطاع معد التحقيق توثيقه من خلال منشور في 1 ديسمبر/كانون الأول الماضي على صفحة الناشط المؤيد للسلطة محمد أبو حجر، يشرح فيه آلية الإبلاغ عن صفحة شبكة قدس من خلال خطوات "البحث عن دعم أو إبلاغ عن صفحة - يجب أن لا تحصل هذه الصفحة على الشارة + تم تغيير موضوع هذه الصفحة - كتابة رسالة مضمونها ("هذه صفحة إرهابية هدفها نشر التحريض والعمل الإرهابي)". بالإضافة لمنشور للناشط حمزة المصري الذي تستضيفه وسائل إعلام السلطة وتعرّف عنه كناشط سياسي، إذ يطلب من متابعيه التفاعل بخيار "أضحكني" على أحد منشورات شبكة قدس.
ويؤكد عضو الأمانة العامة لنقابة الصحافيين الفلسطينيين عمر نزال أنهم لم يتلقوا شكاوى تتعلق بحملات البلاغات، ولم يرصدوا أي منشورات أو رسائل عبر مواقع التواصل الاجتماعي بالخصوص، مضيفا في مقابلة مع "العربي الجديد" أنهم مهتمون بالأمر ومعنيون بمتابعة أي شخص يشارك في هذه الحملات، لأنها تشكل خطورة على المحتوى الفلسطيني بغض النظر عن توجهه، بينما يؤكد من تعرض محتواهم الإعلامي للاستهداف عدم ثقتهم بفعالية الإبلاغ كآلية لوقف استهدافهم بسبب توغل الأجهزة الأمنية في الشأن العام.
وينفي رئيس المكتب الإعلامي في مفوضية التعبئة والتنظيم لحركة فتح (عند إعداد التحقيق، وجرت ترقيته لاحقا إلى مدير العلاقات العامة في التعبئة)، منير الجاغوب، في إفادة لـ"العربي الجديد"، أن يكون لدى حركته قرار مركزي بالإبلاغ عن الصفحات الإخبارية، قائلا إن حق التعبير والرأي مكفول للجميع، مستدركا: "قد يكون هناك مجموعات تقوم بذلك، لكن ليس بقرار حركي، وقد سمعت ببعضها في الفترة الماضية، ورفضت التعاطي معها".
وعند سؤاله عن ماهية ملتقى الكادر الميداني الفتحاوي، أوضح الجاغوب أن هناك مسميات وهمية ليس شرطا أن تتبع لحركة فتح، فيما يوثق التحقيق أن الجاغوب موجود في مجموعة إخبارية تتبع للملتقى على تطبيق تلغرام.
وبحسب الاجتماع التأسيسي للملتقى المنشور محتواه في وسائط إعلامية فلسطينية والذي عقد في رام الله بحضور السفير الفلسطيني في بريطانيا حسام زملط ممثلا الرئيس محمود عباس بتاريخ 15 ديسمبر/كانون الأول 2016، يؤكد مؤسسه الأيوبي أن أهدافه تتلخص في "دعم وإسناد الشرعية الفلسطينية، ومساندة الأطر الحركية المنتخبة وحماية الشرعية الفلسطينية، والتصدي للمؤامرات التي تستهدف النيل من وحدة حركة فتح، واستنهاض الكادر في كل الساحات".
وفي اجتماعه التأسيسي، أوصى الحضور بدعم دور أبناء الحركة وإسناد المنتخبين والقواعد في كل الساحات، وسبل مساهمة إنجاح الحراك الفتحاوي، لا سيما بمساندة القيادة المنتخبة والأقاليم، وآليات المقاومة الشعبية السلمية، وطالبوا بتعزيز الإعلام الفلسطيني لدوره المهم ومواجهة الهجوم الإلكتروني.
ويرى مدير وكالة شهاب، ومدير العلاقات والتواصل في شبكة قدس، أن حملات البلاغات جاءت كخطوة على طريق محاربة محتوى بعض الصفحات والمواقع، بعد قرار محكمة الصلح التابعة للسلطة الفلسطينية في رام الله حجب محتوى 59 موقعا إلكترونيا وصفحة فيسبوك، بتاريخ 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019.
و"ليس هناك أصعب من أن يستهدفك فلسطيني، مستغلا محاربة الاحتلال وتواطؤ فيسبوك الذي يستهدف قصص الشهداء ومعاناة الأسرى، من أجل أن يغلق صفحتك، فقط بسبب خلاف في الرأي.. أذكر أن أحد البلاغات كان على منشور عن الشهيد رائد الكرمي، ابن حركة فتح وجهاز الأمن الوقائي، الذي ينتمي إليه بعض المبلغين على منشوراتنا، كيف يقدرون على فعل ذلك؟ يتساءل مدير العلاقات والتواصل في شبكة قدس.