تتزايد حالات الانتحار ومحاولاته في إيران على وقع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة بعد العقوبات الأميركية، وفق ما يوثقه تحقيق "العربي الجديد" والذي يتتبع أكثر الفئات التي تقع ضحية للظاهرة ومناطق انتشارها.
-انتحر الشاب الإيراني حميد رضا شنقا في بيته، العام الماضي، وترك خلفه زوجة واثنين من الأبناء، عجز عن رعايتهم بسبب ديونه المتراكمة، كما تقول عائلته القاطنة في منطقة ري، جنوب طهران، موضحة أن رضا البالغ من العمر 42 عاما، كان يعمل في مطعم براتب زهيد يوازي 100 دولار تقريبا، وبعد تفشي كورونا وإغلاق المطاعم، اضطر إلى العمل في نقل الركاب عبر دراجته النارية، لكن العائد لم يكن يكفي نفقات العائلة، ما دفعه إلى سحب مدخراته التي تبلغ نحو 3 آلاف دولار، واقتراض ألفين آخرين لاستثمارها في البورصة، غير أنها هوت وفقد الشاب "الهادئ" 70% من المال، فدخل في حالة اكتئاب قبل انتحاره.
ويعد رضا واحدا من بين 3589 منتحرا، خلال الشهور الثمانية الأولى من العام الإيراني الماضي (بدأ في 21 مارس/ آذار 2020 واستمر حتى 21 مارس 2021)، ما يكشف عن ارتفاع بنحو 4.2% بالمقارنة مع الفترة ذاتها من العام الذي سبقه، وفق إفادة الدكتور أمير حسين جلالي ندوشن، رئيس لجنة الوقاية من الانتحار بجمعية الأطباء النفسيين غير الحكومية، والذي لفت إلى أن منظمة الطب العدلي التابعة للسلطة القضائية ووزارة الصحة، المخولتين رسميا بالإعلان عن أرقام الانتحار، لم تعلنا عن الأرقام الرسمية منذ 20 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020.
ويبلغ المعدل اليومي لحالات الانتحار في إيران نحو 15 حالة، غير أن محاولات الانتحار غير الناجحة والتي تحاول الأسر إخفاءها ولا ترغب في الكشف عنها، تصل نسبتها إلى ما بين 20 و30 ضعف حالات الانتحار الفعلية، أي نحو 250 حالة يوميا في عموم إيران، وبين 40 إلى 90 حالة في العاصمة، وفق تقدير ندوشن، الذي استقاه من أرقام رسمية، قائلا: "معدلات الانتحار في إيران أقل من العالمية، إذ تبلغ 6 من بين كل 100 ألف شخص، والمتوسط العالمي 9 لكل 100 ألف شخص، وفق تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية في يونيو/ حزيران الماضي"، لكن بالرغم من الرقم السابق تشهد معدلات الانتحار في إيران زيادة سنوية، إذ ارتفعت من 3306 حالات في عام 2015 إلى 5143 حالة عام 2019، أي بنسبة زيادة 56 في المائة، كما ارتفعت سنويا منذ عام 2016 وحتى عام 2019، بنسبة تراوح بين 8% و10%، وفقا لما ورد في "البرنامج الوطني للوقاية من الانتحار"، والذي أعلنت عنه وزارتا الصحة والداخلية الإيرانيتان، في فبراير/ شباط 2021.
الإناث في صدارة المقدمين على الانتحار
في عام 2019، سجلت وزارة الصحة الإيرانية 102.819 محاولة انتحار في أنحاء إيران، 63.2 في المائة منها تعود للإناث و36.5% للذكور، إلا أن أرقام الحالات المؤدية إلى الموت الحتمي بين الذكور أكثر من الأناث، إذ من بين 5143 حالة انتحار في العام نفسه 3626 للذكور (70.5%)، و1517 للإناث (29.5%)، بحسب "البرنامج الوطني للوقاية من الانتحار"، والذي كشف أن من بين المنتحرين 7.8% أطفال وأحداث، أعمارهم أقل من 18 عاما، و21% في عمر بين 18 و24 عاما، و13.9% من الفئة العمرية بين 25 و29 عاما، و25.5% أعمارهم بين 30 و39 عاما، و15.4% بين 40 و49 عاما، و8.4% في الفئة العمرية بين 50 و59 عاما و7.9% من 60 عاما فصاعدا.
ويفسر الطبيب النفسي جلالي ندوشين زيادة محاولات الانتحار بين الإناث وفي الوقت نفسه زيادة عدد المنتحرين الذكور، بأن محاولات الانتحار عالميا بين الإناث أكثر من الذكور، ويعود نجاح محاولات الذكور أكثر من الإناث إلى أن "النساء عادة يستخدمن طرقا مثل تناول الأدوية والأقراص، والتي يمكن إنقاذهم من الموت عبرها في حال لم يفت الوقت، مقارنة بالرجال الذين يلجأون إلى الطرق الأكثر خطورة، مثل استخدام الأسلحة أو الشنق أو القفز من مكان مرتفع".
زادت نسبة الفقر في إيران خلال العام الماضي بنسبة 38 في المائة
وأضاف أن "ثمة تقديرات بأن بعض حالات الإقدام على الانتحار بين الذكور، والتي لا تؤدي إلى الموت، لا يتم الإبلاغ عنها أو لا يرغب هؤلاء في الحصول على الدعم الطبي النفسي"، عازيا ذلك إلى أن "الإناث غالبا مستعدات أكثر من الذكور للحصول على الخدمات الطبية للتغلب على المشاكل النفسية، فهن أكثر انفتاحا وتقبلا لهذا الأمر، وإظهار مشاكلهن، لكن الرجال ليسوا هكذا".
علاقة الوضع الاقتصادي بتفاقم الانتحار
ثمة عوامل اقتصادية واجتماعية مرتبطة بها تقف وراء الارتفاع المستمر لعدد المنتحرين ومن يحاولون إنهاء حياتهم، كما يرى الخبير جلالي ندوشن، مشيرا إلى تفاقم الوضع الاقتصادي على خلفية الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي (عام 2018)، وتشديد العقوبات أدى إلى عدم استقرار اقتصادي في الأسواق المالية وزيادة نسبة التضخم.
ويقول رئيس لجنة الوقاية من الانتحار إن الفقر والبطالة والتضخم عوامل خطيرة تؤدي إلى زيادة الأمراض النفسية، لافتا إلى أن 73 في المائة من حالات الانتحار سجلت في هوامش المدن والأرياف، فسكان هذه المناطق يعيشون بدخل أقل ويواجهون "الفقر والتمييز والبطالة ووضعا اجتماعيا وصحيا سيئا"، مضيفا أن العيش على الهوامش يقلل فرص الوصول إلى الخدمات الصحية لكونها غير متوفرة فيها، ثم إن سكانها لديهم أولويات قصوى أخرى في حياتهم، تتمثل في توفير حاجاتهم الأساسية مثل الغذاء والسكن.
وزاد الفقر في إيران خلال السنوات الأخيرة بشكل لافت على خلفية الأزمة الاقتصادية الناتجة عن العقوبات الأميركية الشاملة. ويؤكد مركز دراسات الرخاء الاجتماعي التابع لوزارة التعاون والعمل والرخاء الاجتماعي في أحدث بحث له، نشر في 4 أغسطس/ آب 2021، إلى أن أكثر من ثلث أفراد الشعب الإيراني البالغ عددهم 85 مليون نسمة، يعيشون ضمن معدلات الفقر المدقع بعدما زادت نسبة الفقر خلال العام الماضي بنسبة 38 في المائة. ويضيف التقرير أن نسبة الفقر سجلت "ارتفاعا كبيرا" خلال عامي 2018 و2019، أي بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي وإعادة فرض العقوبات على إيران، لتصل إلى 32%، لافتا إلى أن أكثر من ثلاثين مليونا من الإيرانيين باتوا ضمن نطاق الفقر المدقع.
30 في المائة من الإيرانيين يواجهون اضطرابات نفسية
وتؤكد نتائج بحث علمي حول تأثير الاقتصاد على الانتحار في إيران، في ثلاثين محافظة إيرانية، من العام 2007 إلى 2021، نشرته مجلة "علوم شرطة همدان" المحكمة، أن العوامل الاقتصادية لها "تأثير ذو مغزى" على الانتحار في البلاد، ويؤكد البحث أنه مع تحسن المؤشرات الاقتصادية خلال بعض هذه السنوات، وما تبعه من ارتفاع منسوب الأمل بالمستقبل، تراجع الانتحار، لكنه ارتفع مع زيادة التضخم والبطالة وهبوط الدخل. وتوضح النتائج أن زيادة البطالة بنسبة مئوية واحدة ترفع الانتحار بنسبة 12%.
وزادت الظروف الاقتصادية الصعبة خلال السنوات الأخيرة والناتجة عن العقوبات الأميركية، المشاكل النفسية في المجتمع الإيراني، حيث بات نحو 30 في المائة من الإيرانيين يواجهون إضطرابات نفسية، كما يقول الطبيب النفسي أمير حسين جلالي، مشيرا إلى أن "الفقر له آثار متعددة، منها أيضا الحرمان من الوصول إلى خدمات الصحة النفسية أو الوصول إليها بشكل غير كاف".
السم الأكثر انتشارا
يلجأ المنتحرون إلى أساليب متعددة لإنهاء الحياة في إيران، أهمها الشنق والحرق وتناول السم والقفز من مكان مرتفع، ويضيف الطبيب النفسي حسين أسدبيغي أن المناطق الزراعية مثل المحافظات الشمالية، ينتشر فيها الانتحار عبر تناول السم، خاصة فوسفيد الألومنيوم المعروف في إيران بـ"قرص الرز" (قرص برنج)، المستخدم لمواجهة الآفات الزراعية، كما أن الانتحار حرقا هو الأكثر انتشارا في المحافظات الغربية مثل إيلام وكرمانشاه.
وزادت نسبة الوفيات بسبب تناول سم قرص الرز 35 في المائة، خلال الشهور الخمسة الأولى من العام الماضي، إذ انتحر خلال هذه الفترة 428 شخصا بهذه الطريقة، وفقا لتقرير صادر عن منظمة الطب العدلي الإيرانية، في 17 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
ويعزو الطبيب النفسي أسدبيغي، اللجوء إلى طرق الانتحار العلنية إلى دوافع انتقامية من المجتمع أو توصيل رسالة إلى شخص أو جهة محددة.
انتشار الانتحار غرب إيران
تعد محافظات إيلام وكرمانشاه ولرستان وهمدان وكهكيلوية وبويرأحمد، غربي إيران، الأعلى في معدلات الانتحار، كما يقول الخبير الاجتماعي الدكتور أميد قادرزادة، أستاذ علم الاجتماع في جامعة كردستان، غربي البلاد، لـ"العربي الجديد"، موضحا أن "الانتحار في هذه المحافظات منتشر بين فئة الشباب وتحديدا النساء أكثر من غيرهن لمعاناتهن من آثار عدم المساواة وافتقارهن لمصادر القوة، ما جعلهن عاجزات عن تنظيم شؤون حياتهن، واختلت علاقاتهن بالبيئة المحيطة بهن".
ويؤدي الصراع بين الأصالة والحداثة، كما يقول الخبير قادرزادة، إلى اشتداد ضغط القوالب التقليدية المتصلبة وضعف الهياكل الرسمية في خلق فرص عمل وعلاقات وشراكة اجتماعية لهذه الفئات، ما يسفر عن تفاقم الضغوط عليهم، ويجعلهم عاجزين عن التغيير والتعبير عن مطالبهم وتحقيقها، ولذلك يلجأون إلى الانتحار للتخلص من الوضع المعقد الذي يعيشونه.
ولا توجد عقوبة في القوانين الجزائية الإيرانية لمن يقدم على الانتحار أو يشرع في ذلك، وبالتالي لا يمكن ملاحقة هؤلاء الأشخاص، كما يقول المحامي الإيراني الدكتور عبد السلام أرشدي.
كما أن التحريض أو المعاونة ليس جرما ولا تترتب عليه عقوبة قانونية، بحسب إفادة أرشدي لـ"العربي الجديد"، مشيرا إلى أن من يحضر أدوات الانتحار أو يدل شخصا على طريقة إنهاء حياته، سواء فشل أو نجح في الانتحار، لا يُعاقب قانونيا، إلا في حالة استثنائية فقط، إذا كان ذلك عبر الفضاء الافتراضي وفق المادة 743 من قانون العقوبات الإسلامية.
والتي تنص على أن "من يحرض أو يشجع على الانتحار أو يهدد به أو يدعو إليه أو يخادع أو يسهل أو يعلم طريقة الانتحار عبر المنظومات الإلكترونية أو الاتصالات أو الحوامل الإلكترونية، يحكم عليه بالسجن من 91 يوما إلى عام كامل أو تفرض عليه غرامة مالية من 5 إلى عشرين مليون ريال (من 17 إلى 74 دولارا) أو بالعقوبتين معا".
ويعد تحديد عقوبة لمن يقدم على الانتحار الفاشل، "أمرا عبثيا وليس رادعا"، كما يقول المحامي أرشدي، لكنه يؤكد في الوقت نفسه، أنه لا ينبغي التعامل بلامبالاة مع من يعاون في ارتكاب الجريمة، ويحرض الآخرين على الانتحار أو يوفر وسيلة الانتحار أو يدل الراغب في الانتحار على طريقة الخلاص من حياته.
خدمات الطب النفسي غير كافية
يبلغ عدد الأطباء النفسيين في إيران، 2200 طبيب، ولذا لا تتوفر الأعداد الكافية لسكان البلاد البالغ عددهم نحو 85 مليون نسمة، كما يقول رئيس لجنة الوقاية من الانتحار غير الحكومية، أمير حسين جلالي ندوشن، مضيفا أن: "العدد أقل من المتوسط العالمي، والذي تبلغ نسبته 3.66 أطباء نفسيين لكل 100 ألف نسمة، بينما في إيران 2.66 طبيب نفسي لكل 100 ألف نسمة".
ويفتقر كثير من المدن الإيرانية إلى المختصين النفسيين، حيث "يوجد ثلث أو ربع العدد في طهران وعدد من المدن الكبرى" وفق ندوشن، والذي أضاف أن مؤسسات أهلية تعمل إلى جانب المراكز الحكومية في مجال مواجهة الانتحار، أهمها "جمعية الوقاية من الانتحار" وجمعية "الأطباء النفسيين" التي تعتبر ذراعاً علمية استشارية لوزارة الصحة ومؤسسات أخرى في هذا المجال، كما أن كلية العلوم السلوكية والصحة النفسية التابعة لجامعة العلوم الطبية الإيرانية الحكومية، فتحت مستوصفا للوقاية من الانتحار، وإذا انتهت مراحل اختباره بنجاح، سيُعمل على تأسيس نماذج مماثلة في مناطق أخرى، لمواجهة الظاهرة المتفاقمة.