يكشف التحقيق كيف تخترق مليشيا الدعم السريع قوات الجيش السوداني عبر "طابور خامس" من الجنود والضباط المتعاونين معها، ما أسفر عن قتل قادة وسقوط قوافل عسكرية في كمائن متكررة لتستمر الحرب وتتفاقم معاناة البلاد.
- تعود العشرينية السودانية رافان محمود إلى آخر محادثة لها عبر تطبيق "واتساب" مع شقيقها محمد الملازم في الجيش السوداني، بشكل متكرر ودون إرادتها كل يوم وتقول بينما تذرف الدموع على مقتله أثناء مواجهات الجيش مع قوات الدعم السريع أمام سلاح المدرعات جنوب الخرطوم: "أخي قتل بفعل الخيانة"، وتضيف لـ"العربي الجديد" شقيقي أخبرني في 20 أغسطس/آب 2023، أن هناك أزمة ثقة في ما يجري من الضباط والتعليمات، وزاد قائلا في المحادثة التي حصل "العربي الجديد" على صورة منها: "أعطينا إحداثيات لطائرة حتى تقصف العدو، لكنها ضربتنا نحن".
"ما سبق يؤكد وجود طابور خامس داخل الجيش"، كما يقول العميد المتقاعد عبد العزيز خالد، والذي عمل في سلاح المظلات والرئيس السابق لحزب التحالف الوطني السوداني، ويعزز فرضية وجود اختراقات بالجيش السوداني، مقطع مصور نشره الجيش عن محاكمة الجندي حكيم بابكر حامد رقم 662190193 (محكمة ميدان كبرى) في الفرقة 14 مشاة بمدينة كادوقلي في ولاية جنوب كردفان بتهمة التخابر مع العدو، ومده بالمعلومات عبر الهاتف خلال إحدى هجمات الجيش، وجرت إدانته والحكم عليه بالإعدام رميا بالرصاص بحسب المحاكمة التي جرت في الإدارة العامة للقضاء العسكري بمجمع النيابات العامة بالفرقة 14 مشاة، وفق ما جاء في المقطع الصادر بتاريخ 17 أكتوبر/تشرين الأول الماضي عن هيئة التوجيه المعنوي بالجيش السوداني.
كيف تؤثر الاختراقات على قدرات الجيش؟
يعمل الطابور الخامس على دعم العدو من خلال مده بالمعلومات وتحركات القوات وأي مهام أخرى وفق الحاجة، حسبما يقول العميد خالد، مضيفا: "مع سهولة الاتصال وتطبيقات التواصل الاجتماعي التي تتمتع بخاصية التشفير، أصبح من السهل تبادل المعلومات حول تحرك القوات ومساراتها، بهدف نصب الكمائن". ويشكل الطابور الخامس خطرا كبيرا على سير العمليات العسكرية، لأن توزيعهم داخل الوحدات العسكرية المخترقة غير معروف، بحسب العميد خالد.
و"يوجد مستوىً عالٍ من التشكّك داخل الجيش، خاصةً بعد سقوط قوافل عسكرية قادمة من الولايات لتقديم الدعم لقوات الجيش في الخرطوم"، كما يقول العقيد محجوب أحمد (اسم مستعار حفاظا على أمنه الشخصي)، مضيفا أنه اطلَع على تقرير صادر عن القوات المسلحة عقب شهر من بداية المعارك لحالة الرأي العام داخل الجيش، تناول حالة الشك، خاصةً من الرتب الصغيرة (نقيب وما دون) تجاه الرتب العليا (عميد وما فوق).
وزادت الشكوك بعد سقوط قافلة عسكرية كبيرة قادمة من ولاية جنوب كردفان جنوب السودان، في كمين على بعد 80 كيلومترا من عاصمة الولاية كادوقلي، وأدى هذا الأمر لتشتيت القوة، حسب تأكيد العقيد أحمد لـ"العربي الجديد".
ولمزيد من التقصي، تواصل مُعدّ التحقيق مع ضابط صف (رفض ذكر اسمه لمخاوف أمنية) كان ضمن هذه القوة، لمعرفة ماذا حدث معهم، فرد قائلا إنهم تحركوا من رئاسة الفرقة 14 مشاة في مدينة كادوقلي بعد اشتداد المعارك بالخرطوم، وكان مستوى التسليح والذخيرة منخفضاً، ويضيف لـ"العربي الجديد": "أخبرنا القائد بأننا سنجد الذخيرة في مدينة الأبيض وسط ولاية شمال كردفان، لأننا نريد الاحتفاظ بأكبر قدر منها هناك. لكننا تعرضنا لكمين خارج المدينة أدَّى لتشتيت القوة وتم إعادة تجميعها في مدينة الأبيض، لنتعرض لكمينٍ آخر في منطقة المويلح غرب مدينة أم درمان غرب الخرطوم"، وتابع ضابط الصف: "نتعرض لخسائر بسبب الخيانة"، وختم شهادته متسائلا: "كيف يُسمح للجنود بحمل الهواتف المحمولة إذ يمكن ببساطة أن تكشف تحركات الجيش للعدو؟".
وجرى نصب كمائن من قبل مليشيا الدعم السريع في شارع الإنقاذ المؤدي لمقر سلاح الإشارة، بالخرطوم بحري وبعدها لمنطقة القيادة العامة غرب النيل، بحسب العقيد أحمد، مؤكدا أن أكثر من أربع محاولات فشلت في إدخال قوات لسلاح الإشارة الواقع في منطقة بحري بالخرطوم، آخرها في 14 يوليو/تموز 2023، ويقول: "هناك شكوك كبيرة حول وجود طابور خامس، يمدّ العدو بالتحركات؛ ولجأت القيادة العسكرية لقطع الاتصال قبل تحرك أي قوات بجانب استخدام أجهزة تشويش".
يمد الطابور الخامس مليشيا الدعم السريع بمعلومات عن تحركات القوات
ونشرت قوات الدعم السريع بيانا في حسابها على موقع "إكس" المعروف سابقا بتويتر في الرابع عشر من يوليو 2023، أكدت فيه على أنهم "استولوا على 130 مركبة بكامل عتادها، منها 90 مركبة من قوات منطقة حطاب، والبقية من القوة المهاجمة من جهة حي الحلفايا بمدينة الخرطوم، إلى جانب الاستيلاء على عدد من الآليات العسكرية وأسر أفراد القوة منهم ضابط برتبة عميد ركن، وقتل آخرين، بينهم قائد القوة برتبة لواء وقائد ثان بذات الرتبة"، وفق البيان.
وتَحقَّق مُعدّ التحقيق عن سير المعارك في يوم 14 يوليو، ووجد أن الصفحة الرسمية للجيش السوداني على "فيسبوك"، نشرت بياناً عن المعارك، أشارت فيه إلى أن عملية تمشيط واسعة تمت في منطقة بحري، وأقرت بما وصفها البيان بـ"الخسائر"، ولكنها "لم تؤثر على مجرى العمليات"، وفق الصفحة.
ويرد الناطق باسم الجيش السوداني العقيد نبيل عبد الله، على ما سبق، قائلا لـ"العربي الجديد": "أنا ضابط قديم بالجيش وهذه ليست أسئلة وإنما أشياء أخرى لدينا لها اسم وفهم معروف". وفي تعليقه على محاكمة الجندي حكيم بابكر حامد، قال: "هذه المحاكمة تخص الجيش، ولا يحق الحديث عنها للصحافة".
خيانة تودي بحياة قائد عسكري كبير في "نيالا"
"كل المعلومات التي تخصّ الجيش متوفرة لدى قوات الدعم السريع، باستثناء الاستخبارات والقوات الخاصة والمدرعات والقواعد الجوية التي لم يستطع قائد الدعم السريع الوصول إليها أو تجنيد أشخاص ليعملوا لصالحه فيها"، كما يقول الضابط السابق بالجيش السوداني ملازم متقاعد أسعد التاي، الذي عمل في سلاح المهندسين، مضيفا لـ"العربي الجديد" أن هذه الوحدات تُسبِّب ضرراً كبيراً للدعم السريع في المعارك التي تدور في الخرطوم.
ويتعرض الجيش السوداني لخسائر بسبب الخيانات، حسب تأكيد العميد خالد، وهو ما حدث مع اللواء ركن ياسر فضل الله، قائد الفرقة 16 مشاة بمدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور غرب السودان، والذي قتل في مكتبه، بحسب الخبير العسكري اللواء متقاعد أمين إسماعيل (عمل في الجيش السوداني لمدة ثلاثين عامًا في مختلف الوحدات وقائد سابق لمنطقة النيل الأزرق العسكرية)، لكنه يقول لـ"العربي الجديد": "من المُبكّر تحليل ما حدث، وعلينا انتظار نتائج التحقيقات حول ملابسات الاغتيال".
لكن بيان نعي رئيس مجلس السيادة الانتقالي القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، لقائد الفرقة 16 مشاة في 21 أغسطس 2023، أكد أن سبب مقتله "الغدر والخيانة أثناء أدائه واجبه المقدس في الدفاع عن الوطن"، موضحا أن ياسر فضل الله التحق بالكلية الحربية في عام 1989، دفعة 39، وعمل منذ تخرجه بسلاح المدفعية متنقلا في وحداته المختلفة ومعلما وقائدا لمعهد المدفعية، إلى جانب عدد من تشكيلات ووحدات القوات المسلحة الأخرى، أبرزها إدارة شئون الضباط.
وتتكون الفرقة 16 مشاة (جرى تعيين حسين جودات قائدا للفرقة بعد مقتل فضل الله) من ثلاثة ألوية عسكرية يصل تعدادها إلى 10 آلاف جندي، بحسب تأكيد محمد بدوي الباحث بالمركز الإفريقي لدراسات العدالة والسلام (مستقل)، والذي توقع سقوط نيالا بيد قوات الدعم السريع، قبل سيطرتها فعليا عليها في 29 أكتوبر الماضي، قائلا لـ"العربي الجديد": "السيطرة على نيالا ورقة رابحة في معادلة الحرب بين قوات الدعم السريع والجيش، كونها تقع وسط الحاضنة الاجتماعية للدعم السريع وبوابة انطلاق إلى الولايات الأخرى وإلى أفريقيا الوسطى التي توجد بها مليشيات فاغنر المقرَّبة من الدعم السريع"، ويوجد في نيالا مطار دولي يمكن أن يستقبل رحلات دولية بما يتيح للدعم السريع الحصول على السلاح، وفق بدوي.
العائدون إلى الجيش
عاد 475 ضابطا منتدبا في قوات الدعم السريع، إلى وحداتهم العسكرية في الجيش، عقب قرار القائد العام للجيش السوداني في منتصف إبريل/نيسان 2023 بإنهاء نقل وانتداب وإلحاق جميع ضباط القوات المسلحة العاملين بقوات الدعم السريع، حسب تأكيد العميد المتقاعد إدريس مختار لـ"العربي الجديد"، مؤكدا أن 5 رفضوا العودة للجيش، لواء ركن عثمان محمد حامد محمد، ولواء ركن حسن محجوب الفاضل عبد الحميد، وعميد ركن عمر حمدان أحمد حماد، وعميد ركن أبشر جبريل بلايل، وهو ما دفع الفريق البرهان إلى إصدار قرار في 14 مايو/أيار 2023، بإحالة أسماء الضباط الأربعة للتقاعد، حسب مختار.
ويعد اللواء ركن عثمان حامد محمد من الضباط المُمَيزين في الدفعة 38 كلية حربية، وانتدب لجهاز الأمن، ثم لقوات الدعم السريع بعد خلافاتٍ مع قادته في الجيش، فوجد في ذلك فرصة للانتقام، كما يقول العميد مختار، مضيفا أن عثمان حامد محمد يعمل رئيساً لدائرة العمليات بقوات الدعم السريع، وهو من أهم المناصب المؤثرة، ويدير العمليات من غرفتها المركزية بجانب اللواء ركن عبد الحميد (دفعة 39 كلية حربية)، وهو مدير مكتب قائد قوات الدعم السريع، الفريق محمد حمدان دقلو حميدتي.
ويعد العميد ركن حماد (الدفعة 43 بالقوات المسلحة السودانية) والذي ينحدر من مدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور، من أكثر الضباط ولاءً للدعم السريع، ويعمل في دائرة الرُتَب، بجانب قيادته لوفد التفاوض بمدينة جدة، وفق مختار، مشيرا إلى أن العميد ركن بلايل كان قائداً ميدانيَّاً في إقليم دارفور.
وبالإضافة إلى ما سبق رفض اللواء عصام فضيل العودة للجيش، ويصف المقدّم بحري متقاعد عمر أرباب، الرافضين للعودة إلى الجيش بـ"الطابور الخامس"، معيدا أسباب بعضهم إلى كونها شخصية، والبعض الآخر كان لديهم خلافات مع قادة الجيش، وسبب انتدابهم للدعم السريع هو إبعادهم عن الجيش، فضلا عن الارتباطات الإثنية والقبلية، بجانب تأثير العلاقات الشخصية التي نَشَأت في سنوات الانتداب ضمن قوات الدعم السريع.
ويعلق الخبير القانوني المحامي سمير شيخ إدريس، المتحدث باسم محامي الطوارئ (مجموعة عمل طوعي سودانية لرصد وتوثيق الانتهاكات والدفاع عن حقوق الانسان وتقديم العون القانوني للضحايا) على رفض الضباط العودة إلى الجيش، قائلا لـ"العربي الجديد": "كل الضباط والجنود يخضعون لقانون القوات المسلحة لسنة 2007 الذي يُنَظِّم عملهم منذ التعيين وحتى ترك الخدمة، سواءً كان طوعاً أو انتداباً، وهذا القانون يُحّدد أنواعاً متعددة من الجرائم، منها مسألة الفرار من الخدمة، والانضمام إلى العدو، ومخالفة الأوامر والانقلاب على النظام الدستوري"، مضيفا أن الباب الثالث من القانون نص في المادة 142 على عقوبات لمن يخالف الأوامر التي تصدر من قادته؛ تصل إلى عشر سنوات سجناً لمن يخالف الأوامر، وتصل إلى الإعدام إذا كان الفعل يُقصَد منه التأثير في سير العمليات، أو عدم نجاح القوة أو تعريضها للخطر" ويتابع: "هذا قد ينطبق على الضباط الرافضين للعودة إلى الجيش".
انضمام ضباط وأفراد لقوات الدعم السريع
عمل قائد الدعم السريع بعد زيادة نفوذه عقب ثورة ديسمبر/كانون الأول 2019، على استمالة عدد من الضباط لضمان ولائهم، وفق تأكيد اللواء ركن الدكتور خليل الصائم، المدرس في كلية القادة والأركان، مضيفا لـ"العربي الجديد" أن تقريراً من الاستخبارات قُدِّم لقائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان حول الأمر، و"لكنه لم يتخذ أيّة إجراءات".
استمال قائد الدعم السريع قيادات وضباطا عقب ثورة ديسمبر بعد تزايد نفوذه
و"انضم إلى قوات الدعم السريع خلال يومين 907 عسكريين، بينهم 3 ضباط، أبرزهم اللواء محمد علوي كوكو رئيس هيئة الاستخبارات العسكرية والتفتيش الأسبق في الجيش السوداني"، وفق ما نشره حساب قوات الدعم السريع على موقع "إكس" في 19 أكتوبر 2023، موضحا أن "المنضمين من الفرقة 15 مشاة بالجنينة والفرقة العاشرة أبو جبيهة بولاية جنوب كردفان ومن قوات الشرطة بمحلية القوز في جنوب كردفان".
ومن الضباط الذين انضموا لقوات الدعم السريع، النقيب سفيان بريمة، الذي ظهر في فيديو في مايو الماضي وهو يُعلن انشقاقه من الجيش السوداني، معيدا سبب ذلك لظلم قادته، وأصبح لاحقاً من أبرز واجهات مليشيات الدعم السريع، بحسب تأكيد العميد مختار، قائلا: "شاهدت فيديو للنقيب بريمة، وهو يدرب جنوداً على استخدام مدافع مضادَّة للطائرات استولى عليها الدعم السريع من الجيش السوداني، مستفيداً من خبرته باعتباره كان يعمل في سلاح الدفاع الجوي".
وحول تأثير الطابور الخامس على سير المعارك، يقول المقدم أرباب، إن وجود ضباط برتب عالية من القوات المسلحة يقاتلون في صفوف الدعم السريع يؤثر على سير المعارك، ولكن ليس بشكل كبير، لأن المليشيا اكتسبت مهارات قتالية عالية خلال حرب دارفور، والدليل أنها ما تزال صامدة في المعارك، مضيفاً: "قد يكون الطابور الخامس مؤثراً بشكل أكبر إذا زادت وتيرة الانشقاقات في الجيش".
إجراءات للحد من الظاهرة
للحدّ من تأثير الاختراق داخل القوات المسلحة، يؤكد مصدر عسكري برتبة عقيد (رفض ذكر اسمه لأنه غير مخوّل بالحديث لوسائل الإعلام) على إجراءات محاسبية بدأت؛ حيث وُضِعَ 12 ضابطاً من مختلف الرتب تحت الإيقاف والتحقيق بسبب شكوك في اتصالات بالدعم السريع للانضمام إليه أو تسريب معلومات حساسة.
ويواجه الجيش السوداني الاختراقات وسط صفوفه من خلال جمع المعلومات من قبل الاستخبارات العسكرية حول الشخص المشكوك فيه، وفي حالة السلم يُرَاقَب منزله وتحركاته كافة، وفق العميد خالد، لكنه يشير إلى صعوبة ذلك في حالة الحرب، بسبب وجودهم في منطقة العمليات العسكرية، ولكن يمكن مراقبة هاتفه، وأحيانا تعمل القيادة على استخدام المستهدف في تمرير معلومات خاطئة للعدو، وقد يصل الأمر في بعض الحالات للقبض عليه ومحاكمته كما حدث مع جندي الفرقة 14 مشاة لردع من تسول له نفسه الأمر، لكنه يقول إن حالة ضعف الثقة قد تحرك القيادة لاتخاذ إجراءات تعمق الانشقاقات، مضيفا أن أغلب المنشقين ينحدرون من إقليم دارفور أو كردفان، وهو أمر بالغ الخطورة.