تنتظر أسرة الشاب السوري حسن الشيخ المعتقل منذ 14 يوليو/حزيران 2020 في سجون هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا)، معرفة أي خبر عنه، إذ انقطعت أخباره منذ أن سمح لهم بزيارته في سرمدا، العام الماضي، بعدما علمت الوالدة أنه اعتقل من قبل جهاز الأمن العام (الذراع الأمني للهيئة)، في مدينة إدلب، وأنه كان مراقبا وكانت هناك محاولة سابقة لاعتقاله في مدينة سلقين لكنها فشلت، بينما كانت توجد حينها هي وأسرتها في مخيمات النزوح شمال حلب.
لم تتلق العائلة أي تبليغ رسمي من الجهة التي تحتجزه، كما تقول الأم التي كانت تتردد على إدلب للبحث عنه تاركة خلفها زوجها العاجز وأحفادها الذين يعيشون معها بعد استشهاد آبائهم، إذ "لم يتبق لها إلا حسن"، كما تقول الوالدة بحسرة وخوف على حياته.
حتى الآن، يقبع الشيخ في معتقله منتظرا تنفيذ حكم الإعدام، دون أن يحال إلى القضاء، كما رفض النائب العام (يتبع حكومة الإنقاذ المقربة من الهيئة)، توكيل محام له بذريعة أن تهمته الانتماء إلى التحالف الدولي، بحسب رواية والدته.
ويعد الشيخ واحدا من بين 2500 و3000 موقوفا محتجزين في سجون هيئة تحرير الشام وحكومة الإنقاذ وثق حالاتهم فريق رصد انتهاكات جبهة النصرة (فريق أنشأه عدد من الناشطين والصحافيين المهجرين من مناطق سيطرة تحرير الشام).
وتنتشر الاعتقالات والخطف على يد هيئة تحرير الشام والجماعات المسلحة الأخرى في شمال غرب سورية، كما توثق الإحاطة الإعلامية التي نشرتها المفوضية السامية لحقوق الإنسان، في 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، والتي رصدت "إعدام أفراد بسبب انتمائهم المزعوم لفصائل وجهات معارضة لهيئة تحرير الشام، أو بسبب مزاعم بالزنا أو السرقة أو القتل، وجميع أحكام الإعدام هذه دون إصدار حكم قضائي سابق، وهو ما يحظره القانون الدولي الإنساني، إذ ترقى عمليات الإعدام التي تُنَفّذ بما ينتهك هذا الحظر، إلى مستوى جرائم الحرب".
اعتقال دون تهم أو محاكمة
توجه هيئة تحرير الشام لمنتقديها الذين تحتجزهم والمعارضين لها من فصائل أخرى، تهماً فضفاضة، وتوقفهم لفترات دون أن تعلم أسرهم مصيرهم لتوكيل من يدافع عنهم، بحسب مدير فريق توثيق ورصد انتهاكات جبهة النصرة، الناشط عاصم زيدان، المقيم في مدينة أنطاكية، جنوب تركيا، مضيفاً أن معتقلي الرأي يتم احتجازهم من قبل الجهاز الأمني التابع للهيئة في سجون سرية، وبدون محاكمة علنية أو تهم واضحة، أو حتى الاعتراف باحتجازهم في كثير من الحالات، إذ يوجد في إدلب 25 سجنا مدنيا تحت إشراف حكومة الإنقاذ، و21 سجنا تديرها هيئة تحرير الشام، وتتجاوز الأعداد الحقيقية للمعتقلين ما تمكن الفريق من توثيقه، مشيرا إلى أن الكثير من حالات الاعتقال لم يُعرف عن وجود أصحابها في سجون تحرير الشام إلا بعد خروج معتقل يؤكد أنه شاهد أو التقى في مكان احتجازه أشخاصاً ويذكر أسماءهم ليقوم الفريق بتوثيق وجودهم في سجون التنظيم ويتواصل مع ذويهم لإخبارهم.
وتستخدم هيئة تحرير الشام سجوناً صغيرة لتسهيل السيطرة عليها وضبطها، وتوجد فيها أعداد كبيرة، وفقا لزيدان، ونادرا ما تصل أخبارهم لذويهم، كما تؤكد والدة الشيخ، التي علمت عن طريق أسرة معتقل ثان أن ابنها وشبانا آخرين سينفذ فيهم حكم الإعدام دون أن يحالوا إلى القضاء.
وتعرض الصحافي سالم محسن (طلب تعريفه باسم مستعار للحفاظ على أمنه، إذ يقيم في مناطق تسيطر عليها تحرير الشام بإدلب)، للاعتقال دون محاكمة مرتين على يد عناصر من هيئة تحرير الشام، ويتذكر المرة الأولى ويصفها بقوله إنها كانت عملية خطف محكمة، حيث استوقفوه في أكتوبر/تشرين الأول عام 2020 على حاجز بالقرب من مدينة جسر الشغور وسألوه عن اسمه، ثم صادروا دراجته النارية بعد ضربه وتوجيه سيل من الشتائم إليه، وتم احتجازه لفترة في غرفة حديدية (يستخدمها عناصر الحاجز للراحة)، ثم نُقل إلى مكان مجهول، طلب منه عند دخوله نسيان اسمه وحفظ الرقم الذي سلموه إليه.
وبعد يوم من وجوده في زنزانة بمفرده، وانتشار خبر اعتقاله والمطالبة بالكشف عن مصيره، حقق معه شخص وهو معصوب العينين، ووجهت له تهم مثل العمل بالتهريب وزعموا وجود شكوى ضده، لكنه نفى ما وُجه إليه وأكد لهم أنه صحافي ويحمل بطاقة صادرة عن حكومة الإنقاذ، ليتم إخلاء سبيله.
وفي المرة الثانية كان سؤال صحافي وجهه محسن لمدير المخفر في قرية من قرى ريف جسر الشغور سببا في اعتقاله، لكن شخصا كفله ليتم إطلاق سراحه في اليوم الثاني، ولم تنته القصة عند ذلك، إذ تواصلوا معه بعد فترة وأخبروه بأن هناك إنذارا بحقه لعدم حضوره جلسة محكمة، مؤكدا أنه لم يتسلم أي تبليغ، لكن تم استدعاؤه لجلسة أخرى للمحكمة العسكرية في إدلب لأنه توجد دعوى ضده من قبل عناصر الشرطة.
ويصف محسن المحكمة العسكرية ويقول إنه لا يوجد فيها مدعون ولا حضور ولا جلسة مرافعة، "دخلت إلى غرفة يوجد فيها ثلاثة أشخاص أحدهم يدون الأقوال والثاني يوجه الأسئلة ويدير الجلسة وغالباً هو القاضي، والثالث مستمع يراقب ما يحدث"، واستمرت المحاكمة على مدار 8 جلسات امتدت لخمسة أشهر، حتى النطق بالحكم الذي نص على توقيع تعهد بعدم تعرض محسن لعمل الجهات الأمنية.
وتمنع حكومة الإنقاذ إدخال الهواتف المحمولة إلى قاعة المحكمة خوفاً من تصوير أي قاض أو تسجيل شيء من عملية المحاكمة، وبالتالي تغيب معايير القضاء العادل، مثل الشفافية والعلنية، وطالما هذه الشروط غير موجودة يبقى القضاء في مشكلة كبيرة، بحسب المحامي عصام الخطيب، الذي شغل عدة مناصب في السلك القضائي التابع لتحرير الشام وحكومة الإنقاذ قبل تركه العمل معهم في مايو/أيار عام 2019.
ولتوثيق رد الهيئة على الاحتجاز بلا توجيه تهم وتنفيذ إعدامات بلا إحالة إلى القضاء، تواصل "العربي الجديد" مع مسؤول العلاقات العامة في حكومة الإنقاذ ملهم الأحمد، الذي استقبل الأسئلة من "العربي الجديد" ثم أحجم عن الرد رغم التواصل معه أكثر من مرة، كما أن حكومة الإنقاذ نشرت تعميما يحظر التصريح لوسائل الإعلام دون إذن مسبق من رئاسة الحكومة.
أحكام لا تستند للقانون
يكشف عصام الخطيب، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن تطبيق القانون غائب تماماً عن محاكم شمال سورية، ما يسمح للفصائل بالتلاعب بالأحكام، سواء في مناطق تحرير الشام أو الجيش الوطني على حد سواء، ويفترض أن القضاء في إدلب ومناطق الهيئة يعتمد على الشريعة الإسلامية، وفي مناطق سيطرة الجيش الوطني على القانون السوري الذي كان معمولا به قبل 2011، "أما على الأرض فلا يوجد لا شريعة ولا قانون"، وفقا لما شهد عليه الخطيب قبل ترك عمله، مؤكداً أن المحاكم الموجودة تحكم لصالح القوي، والجهات العسكرية هي التي تتحكم بالأمر، وهو ما دفعه لترك العمل في القضاء.
ويضرب الخطيب مثالا بقضية الشيخ قائلاً إن رفض المدعي العام أو القاضي توكيل محام له يؤكد أن الأمر "كيفي بالمطلق"، مشيراً إلى قبول حكومة الإنقاذ توكيل محام للدفاع والمرافعة في قضايا الأحوال الشخصية والخلافات بين المدنيين، لكن رغم ذلك يبقى المحامي غير قادر على العمل بشكل قانوني لغياب الخلفية القانونية ضمن منظومة راسخة تحدد حقوق وواجبات كل طرف مشارك في عملية التقاضي، إذ يتمتع القاضي بسلطة مطلقة ويمكن أن يطرد المحامي وحتى يمكنه عدم قبوله من البداية، من دون إمكانية الاعتراض.
ما سبق يؤكده غزوان قرنفل، مدير "تجمع المحامين السوريين"، وهي منظمة حقوقية مقربة من المعارضة السورية ومرخصة في تركيا، قائلاً إنه لا يمكن الحديث عن مؤسسات قضائية مستقلة في مناطق شمال غرب سورية، رغم وجود المحاكم التي تفصل في بعض القضايا الهامشية لكن القضايا الأساسية التي تتعلق بالانتهاكات التي ترتكبها الفصائل العسكرية المسيطرة على الأرض فهي فوق إمكانية تلك المحاكم، مضيفاً أن السلطة الحقيقية في المنطقة هي لحملة السلاح والفصائل، فلكل منهم جهازه الأمني الخاص به، ولا أحد منهم يرضخ للقضاء أو يعترف به.
ولا يختلف وضع القضاء كثيراً بين مناطق سيطرة الجيش الوطني ومناطق سيطرة هيئة تحرير الشام التي يخضع القضاء في مناطقها لتعليمات الصف الأول من قيادة التنظيم، مع العلم أنه في مناطق سيطرة تحرير الشام لا يوجد قانون معتمد في عمليات المحاكمة، فكل قضية يحكم بها القاضي وفق فهمه للدين الذي يعتبر مصدر التشريع ومصدر الحكم، بحسب قرنفل.
ويمكن لمسؤولي الهيئة إجبار أي قاض على إصدار الحكم الذي يريدونه ولو كان غير عادل، لأن المنظومة تعمل لصالح تقوية نفوذها وليس للحفاظ على حقوق المتقاضين، وفق قرنفل.
في حين يتذرع مسؤول رفيع المستوى في جهاز القضاء في مناطق سيطرة الجيش الوطني، طلب التحفظ على اسمه، بأن المحاكم دورها إصدار الأحكام وليس تطبيقها على الأرض، وهنا تكمن المشكلة، حسب تعبيره، في ظل انتشار السلاح وعدم انصياع الفصائل للمحاكم، مقارناً بين القضاء في مناطق حكومة الإنقاذ والحكومة السورية المؤقتة بقوله إنه في مناطق حكومة الإنقاذ السلطة هي التي تدير المحاكم، أي "مشايخ تحرير الشام"، وهم ليسوا مختصين وقراراتهم يمكن أن تكون غير عادلة ولكنها تطبق لأن التنظيم ينفذ القرارات التي تصدر من المحاكم، مضيفا "بالنسبة للمناطق التي نعمل بها، في جميع المحاكم لدينا قضاة اختصاصيون وأصحاب تجارب وقانون واضح، ورغم الطلب من الفصائل التعاون في تنفيذ قرارات القضاء إلا أن هذا ما يعرقل عملنا بالدرجة الأولى، فالفصائل ترى نفسها أقوى من المحاكم ولا تتعامل معها، بل تسيّر أمورها بقانونها الخاص، وكل فصيل حسب ما يراه مناسباً".
القضاة في قبضة العساكر
تصدر الأحكام القضائية عن المحاكم التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام دون أسماء حقيقية للقضاة أو لرؤساء المحاكم، بل تحمل كنية "القاضي أبو خالد" أو "أبو محمود" وهذا غير قانوني، بحسب الخطيب، لكن "حكومة الإنقاذ تعمل لخدمة مصالحها من دون النظر إلى قانونية وشرعية ما تقوم به"، وهو ما يؤكده الصحافي محسن، الذي حوكم لدى حكومة الإنقاذ بأنه لا يعرف اسم القاضي الذي حاكمه ولم يسمح له بالحصول على نسخة من الحكم، بل أبلغوه الحكم عن طريق الهاتف، وفي اليوم التالي وقع عليه وانتهت المحكمة على هذا الشكل.
وقد استلم "المشايخ" الذين كانوا يعملون مع تحرير الشام كقضاة وفي مجلس الشورى قبل تشكيل حكومة الإنقاذ مناصب رؤساء محاكم بالاضافة لاستلامهم محاكم الاستئناف والتمييز، وفق الخطيب، الذي انفصل عن هذه المنظومة وانتقل للعيش في مناطق الجيش الوطني بريف محافظة حلب.
وعن استقلالية القضاة أنفسهم، والتي لا تنفصل عن استقلالية المؤسسة ذاتها، فهم لا يتمتعون بالاستقلالية الكافية، وخاصة أن كل ديوان عدالة أو نيابة أو مؤسسة يتم فرز كادر مخصص لها يديرها ويتخذ القرارات، حتى أن بعض القضايا الأمنية والسياسية يبت فيها الكادر بشكل مباشر متجاوزا القاضي أو سير القضية الطبيعي، كما يشعر القضاة داخل المحاكم بالتهديد، بحسب ما عايشه الخطيب.
أما القضاة الذين رفضوا العمل مع هيئة تحرير الشام فقد تعرضوا للأذى والخطف والابتزاز، وفقا لمصادر التحقيق، وهو ما حدث مع القاضي سابقا في مناطق النظام خالد السالم (اسم مستعار حفاظا على حياته)، والذي انشق ومجموعة من القضاة وبقي في إدلب، وبسبب عدم استجابته للعمل مع هيئة تحرير الشام، قام عناصر يرجح أنهم تابعون لها بخطفه في إدلب والتي كانت تخضع للهيئة بالكامل، وتعرض للتعذيب وطلبوا منه تصوير فيديو يقول فيه إنه انشق عن النظام بالتنسيق مع قياداته لخلق فوضى في مناطق المعارضة، وبعد رفضه، طلبوا من أسرته 50 ألف دولار كفدية لإطلاق سراحه، وفعلا جمعت عائلته المبلغ ودفعته فأطلقوا سراحه، وقدم شكوى للمحكمة في منطقته، وظل يتابعهم 6 أشهر دون جدوى، بذريعة أنهم لم يصلوا للمتهمين بهدف قتل القضية، وفقا لروايته لـ"العربي الجديد".