يمرّ مهاجرون أفغان يهربون من أحوال متردية، بأهوال خلال رحلة محفوفة بالمخاطر تبدأ من بلادهم مرورا بإيران وصولا إلى تركيا بحثا عن استقرار في إسطنبول أو المواصلة باتجاه أوروبا، لكنهم قد يقعون ضحايا التعذيب والابتزاز.
- وقع العشريني الأفغاني عنايت إسماعيل عزيزي، في قبضة عناصر حرس الحدود الإيراني أثناء محاولته الهروب من الأوضاع المتردية في بلاده باتجاه تركيا وجهته النهائية.
وجرت وقائع محاولة عزيزي في سبتمبر/أيلول 2021، كما يقول ويستذكر بألم كيف تعرض للضرب والتعذيب خلال مدة احتجازه التي استمرت خمسة أيام قبل أن يتم ترحيله إلى أفغانستان، ما جعله يرفض تكرار المحاولة، وحتى لا يخسر 1600 دولار أميركي دفعها لمهرب في مدينة جلال أباد، عرض على شقيقه الأكبر محمد، الضابط السابق برتبة نقيب في الجيش الأفغاني، المحاولة بدلا منه، وهو ما تم بالفعل، إذ بدأ محمد رحلته إلى تركيا في يناير/كانون الثاني ووصل خلال فبراير/شباط الماضي بحسب روايته لـ"العربي الجديد"، قائلا: "من حسن حظي أن عناصر حرس الحدود التركي لم يسلموني في محاولة هروبي الأولى الفاشلة أيضا إلى حرس الحدود الإيراني بعدما أظهرت لهم بطاقتي العسكرية وكررت المحاولة ونجحت".
وفر ما بين 4000 و5000 شخص بشكل يومي على فترات مختلفة عبر الحدود غير الرسمية التي سلكها محمد، حسب توثيق المجلس النرويجي للاجئين، والذي يقدر عدد الأفغان الذين تمكنوا من الهروب إلى إيران منذ منتصف أغسطس/آب 2021 وحتى العاشر من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي بـ 300 ألف شخص، بينما أكد نائب وزير الخارجية في حكومة طالبان، الملا شير محمد عباس ستانيكزاي في كلمة له أمام قادة الحركة في فعالية بمناسبة ذكرى مقتل زعيم الحركة السابق الملا أختر منصور، نظمت في 22 مايو/أيار الماضي، أن 2000 شاب أفغاني كانوا يهربون إلى إيران يوميا، بسبب الوضع المعيشي في البلاد.
"ولا يزال العديد من الراغبين في الفرار يبحثون عن ممر آمن إلى خارج البلاد"، بحسب توثيق منظمة هيومن رايتس ووتش والتي ذكرت في تقرير نشرته في سبتمبر/أيلول 2021، بعنوان "ما الذي ينتظر الأفغان الهاربين من طالبان؟" أن "الكثير من الأفغان عرضة لخطر الاستهداف بسبب عملهم السابق أو ارتباطهم بقوات التحالف، والحكومة الأفغانية السابقة، وبرامج التنمية الدولية، ووسائل الإعلام، والمجتمع المدني، ومنظمات أخرى تعمل على تعزيز حقوق الإنسان"، وهو ما يؤكده النقيب السابق في الجيش محمد عزيزي، قائلا إنه "في الأشهر الأولى من سيطرة طالبان على البلاد (أغسطس الماضي) انتظرت لعل الأمور تتغير، لكن لم يحدث شيء"، ويردف:" لم أكن أتوقع أن سياسة طالبان حيالنا تكون بهذه القسوة".
كيف تعمل شبكات السماسرة والمهربين؟
تبدأ مسارات رحلة هروب الأفغان من إقليم أوزجان جنوبي أفغانستان (مجاور لإيران وباكستان)، ومن ثم إقليم بلوشستان الباكستاني، ومنه إلى منطقة شاكي على الحدود الباكستانية الإيرانية، ثم إلى مدينة زاهدان، مركز محافظة سيستان جنوبي شرق إيران والعبور إلى منطقة كرمان ومنها إلى منطقة يزد وسط إيران، وصولا إلى أصفهان، ثم طهران، ليتحركوا بعدها إلى منطقة ماكو ومنها إلى الحدود التركية في منطقة دوغبايزيد، ثم محافظة آغري شرق تركيا، ومنها إلى محافظة أرضروم (شمال شرق)، ثم الوصول إلى محافظة سيواس، ومحافظة قيصريه وسط تركيا، ثم أنقره، وصولا إلى إسطنبول، وفق تأكيد خمسة من الهاربين إلى تركيا، ومنهم محمد الذي قال إنه "في كل منطقة نصل إليها نرتدي زيا محليا حتى لا ينكشف أمرنا".
خلال أربعة أشهر، هرب 300 ألف أفغاني من البلاد
ما سبق يؤكده محمد إسماعيل والذي هرب عبر ذات الطريق، موضحا أن لدى وصول المهاجرين إلى بلوشستان الباكستانية يتم نقلهم عبر الشاحنات إلى منطقة زهدان على الحدود الإيرانية، وبعد الوصول يستريحون في إحدى المزارع الخاصة بالسماسرة وفي الليل يتحركون لعبور الحدود الإيرانية، مضيفا: "عادة ما يتم إخفاء الهاربين في أماكن مثل السراديب أو المزارع ومنازل خالية وبعيدة".
ويتسلم المهربون المال عبر إيداع المبلغ لدى صراف معروف لدى الهارب والمهرب، وفي حال وصول الهارب إلى تركيا وجهته النهائية يتسلم المهرب المبلغ، وفق الضابط محمد، مؤكدا أن السمسار لا يحصل على أي مبلغ إلى أن تنجح الرحلة.
وينشط مهربون وسماسرة في مدن كابول، وجلال أباد شرق أفغانستان، ومزار شريف شمالا، وهرات الحدودية مع إيران من اتجاه الغرب في تهريب الأفغان إلى تركيا، وفق ما وثقه معد التحقيق عبر إفادات خمسة أفغان هربوا من بلدهم. ويتم التنسيق بين شبكة المهربين والسماسرة في مناطق العبور إلى تركيا، بحسب إقرار أحد المهربين القاطنين في مدينة كابول ويدعى عبد الوهاب إمام الدين (اسم مستعار للموافقة على الحديث)، والذي قال لـ"العربي الجديد" :" لدينا شبكة قوية من السماسرة في أفغانستان وباكستان وإيران وتركيا، ونعطي لكل فريق من الهاربين رمز (أحمد 15، وحاجي 55) لكي يسهل تعرفهم على مهربين على صلة بنا في كل منطقة يصلون إليها". ويتلقى الهاربون عقب الوصول تعليمات من المهربين حول أماكن تواجد فرق الرصد والمراقبة التابعة لحرس الحدود وما هي الطرق والتوقيتات المناسبة لعبورهم بشكل جماعي حتى لا يقع أحدهم بيد قوات حرس الحدود الإيرانية أو التركية، حسب توضيح إمام الدين لـ"العربي الجديد".
استغلال الهاربين
يأسف نائب الناطق باسم حركة طالبان وعضو اللجنة الثقافية، بلال كريمي، لخروج أفغان من بلدهم، قائلا في تعليقه حول الظاهرة التي يعترف بوجودها: "خروج أي أفغاني من بلاده وعدم نيته العودة أمر مقلق"، ويضيف: "نعمل جاهدين على إعادة من خرجوا من البلاد، وإتاحة فرصة العمل داخل البلاد كي لا يغادر الكادر المتعلم".
السمسار لا يحصل على أي مبلغ إلى أن تنجح الرحلة
لكن الوقائع على الأرض تشير إلى أمر آخر، إذ يؤكد تقرير "لن نسامح أشخاصا مثلكم... إعدامات وإخفاءات قسرية في أفغانستان في ظل حكم طالبان"، الصادر عن منظمة هيومن رايتس ووتش في 30 نوفمبر 2021، أن طالبان استطاعت الوصول إلى سجلات التوظيف التي تركتها الحكومة السابقة، فاستعملتها لتتعرف على أشخاص بهدف توقيفهم وإعدامهم". و"جمعت هيومن رايتس ووتش معلومات موثوقة حول 100 عملية قتل في ولايات غزني وهلمند وقندهار وقندوز وحدها".
و"تسمح عناصر من قوات طالبان للهاربين بعبور الحدود إلى باكستان مقابل دفع كل هارب مليونا ونصف مليون ريال إيراني (36 دولارا)"، وفق تأكيد ثلاثة هاربين، وهم محمد إسماعيل، وسمسور سيد مهران (31 عاما) من ولاية ننغرهار، ومحمد عاطف شريف الله (26 عاما) والذي هاجر من إقليم وردك. ويقول سمسور: "أثناء عبورنا الحدود الأفغانية في الخامس من مارس/آذار الماضي كان عناصر من حرس الحدود التابع لطالبان يجمعون المال من هاربين على متن السيارات، وإذا امتنع أي هارب عن دفع المال لا يسمح للسيارة التي تقلهم بالعبور".
لكن كريمي ينفي أن عناصر من طالبان يحصلون على أموال من الهاربين نظير السماح لهم باجتياز الحدود الأفغانية، مؤكدا أن الظاهرة ليست موجودة ولا أساس لها من الصحة، بينما يؤكد الناطق باسم وزارة المهاجرين، عبد المطلب حقاني لـ"العربي الجديد" أن قوات طالبان ملتزمة بتعليمات الحكومة ولا يمكنها أخذ المال من الهاربين لأنها لا تشجع على الظاهرة أساسا، مشيرا إلى أن أفغانستان تتمتع بحدود طويلة وليست لدى طالبان قوة كافية للرقابة عليها بشكل كامل، وتابع: "نعمل حاليا على إعداد القوة الحدودية وسيتم احتواء الظاهرة".
تعذيب وابتزاز
يواجه الهاربون مشاكل جمة خلال رحلتهم المحفوفة بالمخاطر، ابتداء من الشاحنات التي يخصصها المهربون لهم، إذ قد تحمل الشاحنة الواحدة حوالي 40 شخصا وهو ضعف حمولتها الحقيقية، ومن يسقط منهم يرمى فيها مرة ثانية دون الالتفات إلى إصابته، مرورا بوقوع بعضهم في قبضة عصابات تساومهم على دفع المال وتبتز ذويهم مقابل الإفراج عنهم، وانتهاء بالقبض على بعضهم على يد حرس الحدود الإيراني، وهو ما أكدته مصادر متطابقة لـ"العربي الجديد"، ومن بينهم محمد فهيم والذي هرب من ولاية لوكر وسط أفغانستان في فبراير/شباط 2022، ليواجه خلال رحلته أهوالا كثيرة، مضيفا بحزن: "تعرضنا للتعذيب على يد قوات حرس الحدود الإيرانية، حتى لا نعبر من حدودهم مرة أخرى ونكون عبرة لغيرنا إذا فكروا بالعبور".
ويروي فهيم ما حدث لهم قائلا: "بدأت المعاناة عند عبورنا الحدود سيرا على الأقدام، إذ أطلقت قوات حرس الحدود الإيراني النار باتجاهنا، ما أدى إلى مقتل شخص وإصابة آخر، فيما تمكنت أنا وآخرون من الهرب وواصلنا الرحلة سيرا على الأقدام حسب تعليمات السماسرة، حتى وصلنا إلى طهران. وبعد يومين قضيناهما في مصنع مهجور، تحركنا إلى الحدود التركية مرورا بالمناطق الجبلية الوعرة، تجنبا للجدار الفاصل الذي يجري العمل فيه بطول 156 كيلومتراً على القسم الشمالي من حدودها المشتركة مع إيران والتي تبلغ حوالي 534 كيلومتراً. في تلك الرحلة المحفوفة بالمخاطر، عبر فهيم ليلا الحدود التركية مع 250 شخصا، بينهم 80 امرأة قبل أن تعترضهم القوات التركية وتقبض على 150 شخصا، فيما تمكن البقية من العبور، لكن عند وصول فهيم و13 أخرين إلى مدينة تطوان (Tatvan) الواقعة على الساحل الغربي لبحيرة وان شرق منطقة الأناضول، وقع في قبضة عناصر الأمن التركي، وهناك تعرض للضرب بأعقاب البنادق، حسبما يقول، مضيفا: "بقيت في سجن بمدينة تطوان لمدة خمسة أيام كان الواحد منا يحصل على سندويتش والقليل من الماء خلال يوم كامل".
وبعد الإفراج عن فهيم ورفاقه وعودتهم باتجاه الأراضي الإيرانية، اعترضتهم عصابة من الخاطفين مكونة من 12 شخصا، وكبلتهم بسلاسل حديدية قبل نقلهم بسيارة إلى منزل في منطقة لا يعرفون اسمها، هناك ظلوا يضربونهم ويسجلون أصواتهم لإرسالها إلى ذويهم حتى يدفعوا فدى مقابل الافراج عنهم، وفق فهيم، والذي قال إن كل أسرة دفعت عبر الصرافين 2000 دولار، قبل أن تنقلهم العصابة إلى ساحة الحرية في مدخل مدينة طهران وهناك ألقت الشرطة الإيرانية القبض عليهم وتابع: "تعرضنا للضرب المبرح على مدى ثلاثة أيام قبل أن يتم ترحيلنا إلى بلدنا".
لكن فهيم ورفاقه كانوا محظوظين مقارنة بنور خالق الذي انقطع الاتصال به بعد تجاوزه للحدود الإيرانية، كما يقول ابن عمه صفي الله لـ"العربي الجديد"، بينما يؤكد الملا ستانكزاي أن الهاربين يعرّضون أنفسهم لمخاطر كبيرة، مطالبا حركة طالبان بوضع حد لهذه الظاهرة، ويقول كريمي، إن الخارجية الأفغانية على تواصل دائم مع الجانب الإيراني من أجل تحسين حالة الأفغان في إيران بشكل عام.
ويعيش 780 ألف لاجئ أفغاني في إيران، وفق بيانات صادرة في أكتوبر/تشرين الأول 2020 عبر مكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في إيران، بينما يعيش في تركيا 116 ألفا و403 طلاب لجوء أفغان بحسب بيانات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، الصادرة في فبراير 2021.
البحث عن الفردوس الأوروبي
ينوي إسماعيل، وشريف الله، ومهران بعد وصولهم إلى تركيا في منتصف شهر مارس/آذار الماضي مع 700 شخص، العبور إلى أوروبا كما يؤكدون، وهو ما يعد هدفا لبعض الهاربين فيما يفضل البعض البقاء في تركيا للعمل في المصانع وورشات العمل، ومن بين هؤلاء محمد خان ومحمد عزيزي الذي لم يتمكن حتى اليوم من جمع المال حتى يدفعه إلى المهرب الذي سينقله إلى أوروبا، موضحا أنه يعمل في مصنع للقماش بمدينة إسطنبول مقابل 145 دولارا شهريا، بعدما كان يتقاضى راتبا شهريا عن عمله السابق في وزارة الدفاع الأفغانية 40 ألف أفغانية (449 دولارا).
ويفضل أصحاب المصانع في تركيا استخدام الأفغان، لتحملهم العمل الشاق لساعات طوال، مقابل أجور زهيدة تتراوح بين 91 و152 دولارا شهريا، فضلا عن عدم امتلاك المهاجرين غير الشرعيين أوراقا ثبوتية، بحسب عزيزي، والذي يقول إن أصحاب المصانع يستغلون ذلك في حال وقوع الخلاف مع العمال غير القادرين على اللجوء إلى الشرطة.