الهلاك في الصحراء الكبرى... نهاية الرحلة وسط طرق الهجرة غير النظامية
يوثق التحقيق مسارات الرحلة الشاقة والخطرة التي يسلكها مهاجرون عبر الصحراء الأفريقية الكبرى، والتي تودي بحياة البعض ليختفوا وسط رمالها، في ظل تقاعس الحكومة التشادية عن وضع حد للهجرة غير الشرعية عبر تلك المسارات.
- أشرفت الكاميرونية إيرنيس مبوك، على الهلاك خلال رحلتها عبر الصحراء الكبرى التي تحتل الجزء الأكبر من شمال أفريقيا، في طريقها من بلادها إلى تشاد التي مرت بها سعياً لتحقيق حلمها بالوصول إلى ليبيا، ومن ثم أوروبا برفقة 11 مهاجراً غير نظامي أمضوا 48 ساعة في سيارة تعطلت بهم دون مياه شرب كافية، ما دفع ثلاثة منهم إلى السير على الأقدام بحثاً عن النجاة، فيما بقي البعض الآخر إلى جانب السيارة، كما تقول العشرينية مبوك، مضيفة أنها لم تصدق إمكانية عودتها إلى الحياة إلا بعد قدوم سيارة أنقذتهم، بينما وجدوا أحد المختفين الثلاثة جثة هامدة على بعد ثلاثة كيلومترات من مكان السيارة.
نُقل المتوفى إلى مدينة فايا لارجو عاصمة إقليم بوركو شماليّ تشاد، ودفن هناك بعد إبلاغ أهله بما حدث، فيما واصلت مبوك رحلتها إلى ليبيا، وهناك اعتقلتها عصابة تهريب، ولم يفرج عنها إلا بعدما دفع أهلها فدية، ما جعلها تقرر العودة إلى مدينة سلال salal شماليّ تشاد التي سبق أن غادرتها في يونيو/ حزيران 2021، كما قالت لـ"العربي الجديد".
و"تعد أفريقيا ثاني أكثر المناطق فتكاً بالأشخاص المتنقلين (بعد البحر الأبيض المتوسط)، وغالباً ما يجري تسيير الهجرة غير النظامية على طول الطريق الجنوبي للقارة من خلال شبكة معقدة من المهربين والمُتاجِرين الذين ينخرطون في عمليات تهريب أو اتجار خطيرة ومتورطين في أنشطة عدوانية لتجنب اكتشافهم من قبل السلطات، ما يعرّض حياة المهاجرين للخطر"، بحسب ما أكدته الأمم المتحدة على موقعها الرسمي في 13 ديسمبر/كانون الأول 2022، موضحة أن مشروع المهاجرين المفقودين التابع للمنظمة الدولية للهجرة وثق حالات وفاة واختفاء أكثر من 5600 شخص عبر الصحراء الكبرى منذ عام 2014، مع تسجيل 149 حالة وفاة حتى 13 ديسمبر/ كانون الأول 2022، بينما سُجِّلَت 110 حالات وفاة مهاجرين داخل تشاد خلال الفترة من 2014 حتى منتصف 2021".
مسارات الهلاك
"اكتشفت جثث 27 مهاجراً، بينهم أربعة أطفال، في الصحراء التشادية منتصف 2021. وغادر المهاجرون بلدة موسورو (تقع على بعد 300 كيلومتر شمال شرقيّ أنجمينا على الطريق المؤدي إلى فايا لارجو)، على متن شاحنة صغيرة، يُعتقد أنها ضلت طريقها في عمق الصحراء، وتعطلت بسبب مشاكل ميكانيكية وتوفي المهاجرون بعد ذلك من العطش"، بحسب بيانات المنظمة الدولية للهجرة.
وفاة واختفاء أكثر من 5600 مهاجر عبر الصحراء الكبرى
ويعبر المهاجرون ثلاث محطات عبر الصحراء الكبرى في طريقهم إلى شمال أفريقيا ومنها إلى أوروبا، وهي مدينة أغاديس بوابة صحراء النيجر من الشمال، التي تُعَدّ أكثر منطقة يهلك سالكوها، ومدينة فايا لارجو، ومدينة سبها وسط ليبيا، كما يوضح محمد يوسف حبري، المسؤول الإقليمي للمنظمة الدولية للهجرة في إقليم بوركو، مؤكداً لـ"العربي الجديد" أن طريق الهجرة بين أغاديس وسبها (المسافة بينهما 2395 كيلومتراً) تُعَدّ من أكثر الطرق المعروفة في الصحراء التي يعبرها المهاجرون، وتستغرق الرحلة أربعين ساعة في طريق خطرة تقضي على المهاجرين بسبب تيه كثير من السائقين أو تعطل السيارة أو شحّ المياه.
و"على الرغم من وجود طرق متعددة، فإن غالبية المهاجرين يدخلون المغرب العربي من طريق البر من أغاديس في النيجر التي تقع على مفترق طرق تجارية تاريخي، وتمتد في عمق غرب ووسط أفريقيا ومن أغاديس تتفرع طرق الهجرة باتجاه واحة سبها في ليبيا ونحو تمنراست في جنوب الجزائر"، وفق ما يوثقه موقع معهد سياسات الهجرة (مؤسسة أميركية مستقلة تأسست في عام 2001).
وتواصل معد التحقيق مع أحد المهربين التشاديين ويدعى عثمان عبد الرحمن، لمعرفة مسار الرحلة عبر الصحراء الكبرى، متظاهراً بأنه يريد الهجرة، فرد بعدم وجود مسار محدد، وأردف قائلاً: "أنا أعرف الطريق، وهناك آبار تدل عليه في قرى أهلنا التيدا (قبائل موجودة في تشاد وليبيا والنيجر وإثيوبيا)".
وحول تفادي مخاطر الطريق، قال لـ"العربي الجديد": "سافرت عشرات المرات ولم أجد في طريقي جندياً يعيدك إلى المدينة". وهو ما يؤكده التشادي محمد علي خليل (اسم مستعار لمخاوف أمنية)، وهو سمسار يعمل لمهربين، قائلاً لـ"العربي الجديد" إن 80% من حالات الموت في الصحراء سببها أعطال ميكانيكية بالسيارات التي تُقلّ مهاجرين.
لكن الصحافي إبراهيم مانزو ديالو، من مدينة أغاديس، يروي لـ"العربي الجديد" عبر تجربة أخيه الأصغر أن السائقين يكذبون ويحتقرون المهاجرين، إذ يتركونهم أحياناً في وسط الصحراء، فيموتون عطشاً وتأتي الشمس على جثثهم حتى تتحلل، ولا يمكن التعرف إليهم، لكن من حسن حظ أخيه إنقاذه مع آخرين بعدما مرت سيارة في مكان وقوفهم.
ما قاله ديالو، تعززه رواية التشادي جريمي باتونغام، الذي تُرك بالصحراء مع 24 مهاجراً بعد تعلل سائق السيارة بتعرضها لعطل، وعندما نزلوا منها تحرك السائق مسرعاً، ليتركهم لمصيرهم في الصحراء، حسب قوله لـ"العربي الجديد"، مضيفاً: "لحسن الحظ، كان بيننا رجل من مدينة نوكو شماليّ تشاد، سبق أن سافر بهذا الطريق. حثنا على السير على الأقدام في اتجاه الغرب، لأن هناك طرقاً كثيرة حول المكان تؤدي إلى بلدة زوار، ومشينا على الأقدام 8 ساعات، وبعدها مرت سيارة متجهة إلى بلدة زوار، قدمت لنا الماء ثم اتصلوا بسيارة أخرى تقلهم إلى بغيتهم".
حينها تمكن باتونغام من الوصول إلى منطقة كوري بقودي (منطقة تشادية تقع على الحدود مع ليبيا) في 18 فبراير/ شباط 2022، بعد رحلة مضنية استغرقت أسبوعين من مدينة سارة جنوبيّ تشاد، حيث تعيش أسرته، لكنه عاد إلى مدينته بعد 8 أشهر، إذ اصطدم بواقع صعب هناك ولم يجد أمامه غير العمل في حفر مناجم الذهب، مقابل 43 ألف فرنك وسط أفريقي (70 دولاراً أميركياً)، وهو مبلغ قليل في مقابل معاناتهم، كما يقول، مضيفاً لـ"العربي الجديد": "تعلمت الدرس، ولن أذهب إلى هناك مرة أخرى".
مخاطرة محدقة بالمهاجرين
ينتمي مهربو البشر عبر الصحراء الكبرى إلى قبائل وإثنيات عديدة، منهم قبائل القرعان التي تعرف مسالك الصحراء جيداً، وفق ما يقوله محمد مصطفى كفو، وهو سمسار يعمل مع مهربين، وتابع في إفادته لـ"العربي الجديد": "هذا هو مصدر رزقنا، رحلة واحدة ناجحة تجعل صاحب السيارة يكسب 700 دولار. وهذا مبلغ كبير في ظل عدم وجود عمل". ويضيف السمسار الذي ينحدر من مدينة ماو عاصمة إقليم كانم شمال شرقيّ تشاد: "علينا أن نعيل أسرنا بطريقة أو أخرى".
وينتمي العديد من المهربين والسماسرة في النيجر إلى قبائل الطوارق، إذ يعتبرون أكثر سكان مدينة أغاديس النيجيرية، بحسب محمد جيلو (من الطوارق)، وهو سائق سيارة تُقلّ مهاجرين عبر الصحراء الكبرى، قائلاً: "هؤلاء يعرفون مسالك الصحراء"، ويضيف بتحدٍّ: "يجب أن نحافظ على مصدر رزقنا".
بينما يقول صالح يسكو، سائق يعمل في تهريب البشر من مدينته فايا لارجو، لـ"العربي الجديد": "أعامل الزبائن جيداً، لأني أكسب 400 ألف فرنك (600 دولار) إذا نجحت الرحلة، أما في حال وقوعك في قبضة جنود في نقطة عسكرية فسيضعون عليك غرامات ويعيدونك من حيث أتيت، ويصادرون السيارة".
لكن العشريني التشادي الخليل محمد جبرين، والذي غادر من منطقة البطحة وسط تشاد عبر مسار مدينة موسورو، في ديسمبر 2020 قبل أن يصل مع 20 مهاجراً إلى بلدة زوار شماليّ تشاد، وبعدها زواركي على الحدود التشادية الليبية، يؤكد عدم اكتراث السائقين بما يحدث للمهاجرين وسط الصحراء، إذ تعرضت السيارة التي تقلهم لعطل ميكانيكي وسط الصحراء، وفق روايته لـ"العربي الجديد"، قائلاً: "تواصل السائق عبر جوال ثريا مع سائق آخر، لكنه وصل بعد 56 ساعة، ونحن في حالة صعبة جداً نتيجة البرد الشديد"، ويتابع بألم: "فقدنا خلال تلك الرحلة امرأة وطفلاً".
وغالبا ما يتم دفن من يتوفى من المهاجرين في الصحراء، وفق ما وثقه معد التحقيق عبر إفادات أربعة مهاجرين نجوا من الهلاك، مؤكدين أن دوريات للجيش تخرج من حين لآخر وتمشط عدة مناطق في الصحراء، وغالبا ما تعثر بالصدفة على تائهين وموتى، وتقوم بإبلاغ أهل المتوفّى، كما فعلت مع التشادية مريم جبريل، التي أبلغتها السلطات بالعثور على جثة زوجها محمد حكي، في الصحراء، حسب روايتها لـ"العربي الجديد"، قائلة:"غادر زوجي المنزل في السابع عشر من فبراير 2021 باتجاه منطقة كوري بوقودي، حيث مناجم الذهب، التي عمل بها. وأخبرني أنه عائد، لكنه لم يصل".
وعثر على جثة حكي مع 7 جثث لمهاجرين على بعد 150 كيلومترا من مدينة فايا لارجو، بعد أيام من وفاتهم، وفق جبريل، التي أخبرتها سلطات بلدها أنها عثرت على بطاقته الوطنية في جيب سرواله ومن خلالها تعرفوا على هويته".
من يتحمل المسؤولية؟
"تغلق الحكومة التشادية عيونها أمام ما يحدث للمهاجرين من مخاطر تودي بحياة البعض"، كما يقول ديالو، لكن دافيد جقاندوم، مسؤول الشباب في الرابطة التشادية لحقوق الإنسان (منظمة مجتمع مدني تأسست عام 1991)، يحمّل السائقين مسؤولية ما يحدث للمهاجرين التشاديين في الصحراء الكبرى، لأنهم يسافرون بسيارات قديمة وغير قادرة على تجاوز الصحراء، ويحمّل الحكومة مسؤولية عدم ملاحقة مهربي البشر عبر تلك المسالك الخطرة.
ويرد الأمين الدودو الخاطري، سفير تشاد في مصر سابقاً، وأستاذ القانون الدستوري في جامعة أنجمينا، قائلاً لـ"العربي الجديد" إنّ طرق الصحراء كثيرة، والحكومة لا تمتلك الإمكانات لمراقبة المسافات الكبيرة في الصحراء، كذلك إن سائقي السيارات التي تقلّ مهاجرين يدعون أنهم ذاهبون إلى مدينة فايا لارجو.
لكن أريستوفان نقرقون Aristophane Ngargoune، المسؤول الإعلامي لمكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في تشاد، يقول لـ"العربي الجديد": "على الحكومة القيام بمسؤولية مساعدة المهاجرين والبحث عن التائهين وتوفير آبار في عمق الصحراء، إن أرادوا إنقاذ البشر"، مضيفاً أن منظمته تعتني بمليون مهاجر في تشاد، ويرسلون فرقاً لتقوم بمهام البحث في حال إبلاغهم بتيه سيارة أو مجموعة في صحراء تشاد، إذ أنقذوا 127 شخصاً عبر 13 رحلة إنقاذ من بين 14 رحلة قاموا بها خلال الفترة من مارس/ آذار 2021 حتى سبتمبر/ أيلول 2022، لكنه يؤكد أن الأمر بحاجة إلى دعم كبير للقيام بالعمل كما يجب، قائلاً: "الوضع فاق حدنا. لكننا نبذل جهدنا".
مليون مهاجر تعتني بهم المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في تشاد
وفي ظل عجز الحكومة عن مراقبة الصحراء، يقترح حبري، على الحكومة التشادية إيجاد حلول اقتصادية، للحد من هجرة الشباب عبر مسالك الصحراء، قائلا لـ"العربي الجديد": "توفير فرص عمل للشباب يمنعهم من خوض مسارات الهجرة الخطرة عبر الصحراء".