انحسار بحيرات العراق... أنشطة بشرية تفاقم تأثير التغيرات المناخية
تنضب مياه بحيرات العراق جراء تداعيات التغير المناخي والتي تفاقمها أنشطة بشرية صناعية وزراعية، بالإضافة إلى تقليل إطلاقات المياه من دولتي الجوار إيران وتركيا، ما أثر على حياة الأهالي وأوضاعهم الاقتصادية المتردية.
- فقد الصياد العراقي محمد محمود، باب رزقه الوحيد بسبب جفاف بحيرة حمرين التي تحولت إلى أرض يابسة في مايو/أيار الماضي بسبب قلة الأمطار، ما أجبره هو وزملاءه على مغادرة قضاء حمرين في محافظة ديالى شرق البلاد بحثا عن رزقهم في بغداد.
وتتبع البحيرة سد حمرين الذي يقع على مجرى نهر الوند بديالى وتشكل الخزان الاستراتيجي للمياه بقدرة استيعابية تصل إلى مليارين و400 مليون متر مكعب، وسبق أن جفت في عام 2009، وتعد واحدة من 6 بحيرات من إجمالي 22 في العراق، تعرضت للجفاف بسبب التغيرات المناخية وتراجع هطول الأمطار وارتفاع درجات الحرارة وزيادة التبخر، بالإضافة إلى استنزاف مياه البحيرات عبر أنشطة بشرية وفق ما يوثقه تحقيق "العربي الجديد"، ويشمل الأمر البحيرات الصناعية التي تقام أمام السدود وتحول إليها وزارة الموارد المائية مياه الفيضانات، مثل حمرين، وأخرى طبيعية مثل بحيرة الحبانية في محافظة الأنبار، والرزازة ثاني أكبر بحيرة في العراق والمنقسمة بين كربلاء والأنبار، وساوة في المثنى، والثرثار وتقع في شمال غرب محافظة تكريت وشمال محافظة الأنبار، ودوكان في إقليم كردستان، كما يوضح لـ"العربي الجديد" عون ذياب، وزير الموارد المائية في حكومة محمد شياع السوداني.
لماذا تنحسر بحيرات العراق؟
يسهم انحسار الأمطار (انخفاض معدل الهطول) خلال عدة مواسم متتالية في انخفاض منسوب المياه في البحيرات بحسب إفادة الوزير ذياب وتقرير معدلات الأمطار الصادر عن الهيئة العامة للأنواء الجوية والرصد الزلزالي عام 2022 والذي حصلت عليه "العربي الجديد"، وجاء فيه أن "العراق مصنف ضمن المناطق الجافة وشبه الجافة، وأن معدلات الهطول في حالة تذبذب خلال الثلاثين عاما الماضية، وتباين سقوطها مرتفع جدا من عام لآخر، وتعتمد كمية الأمطار على موقع المنطقة وارتفاعها وكمية الرطوبة، وتتميز مناطق شمال شرق العراق "بأحداث شاذة" في ما يتعلق بسقوط الأمطار من حيث فترات العودة (تكرر سقوطها)، بينما تمتاز الوسطى والجنوبية والشمالية الغربية بالتوزيع الطبيعي للأمطار".
تراجع كبير في معدل الهطول المطري بالعراق خلال الأعوام الثلاثين الماضية
ويكشف التقرير "أن بغداد سجلت في عام 2021 أقل مجموع هطول خلال الثلاثين عاما الماضية، بمعدل 25.001 ملم، بينما في البصرة بلغ مجموع الأمطار الذي سجلته في ذات العام 31.2، وخانقين 67.2 ملم". وفي ديالى لم يتجاوز مجموع الأمطار العام الماضي 30 ملم بعد أن كانت تسجل 150 ملم سنويا، كما تكرر الانحسار المطري لثلاثة مواسم متتالية ما أدى إلى جفاف بحيرة حمرين، بحسب إفادة مهند المعموري مدير مديرية الموارد المائية في ديالى.
و"بسبب التراجع الحاد في كميات الأمطار بنسبة 30% عام 2021، بدأ منسوب المياه بالانخفاض في بحيرة ساوة الواقعة في صحراء السماوة بمحافظة المثنى جنوب البلاد تدريجيا إلى أن وصلت لمرحلة الجفاف شبه الكلي عام 2022، إذ تعتمد في تغذيتها على الأمطار وما يرشح من نهر الفرات، وتعد المياه الجوفية المصدر الأكبر المغذي للبحيرة"، بحسب ذياب.
وحول جفاف بحيرة الرزازة، يوضح الوزير أنها بحيرة طبيعية مغلقة تدخل المياه لها في حالة فيضان نهر الفرات أو في حال ارتفاع منسوب المياه في بحيرة الحبانية بشكل كبير خلال موسم الوفرة المائية، ولا تخرج بسبب طبيعة المنطقة التي لا تسمح بتحويل المياه وإعادتها مجددا إلى النهر، لهذا تعتبر منطقة خزن ميت، ومنذ أكثر من 10 سنوات لم تدخل أي مياه إلى البحيرة، نتيجة شحّ الأمطار، ما أثر على الأسماك الموجودة فيها، بيد أن الوزارة اتخذت إجراءات لتغذيتها بالمياه، عن طريق تحويل مياه البزل الزراعي (الزائدة عن حاجة النبات بعد ريّه) في المحافظة إليها، لكن كمية المياه قليلة جدا بالنسبة إلى حجم البحيرة، إذ لا تغذيها سوى بـ 20 مترا مكعبا في الثانية، كما يقول علي فاضل مدير قسم الإعلام في مديرية الموارد المائية في كربلاء.
الأنشطة البشرية تدمر البحيرات
يضاف إلى ما سبق من عوامل انحسار بحيرات العراق ما يترتب على الأنشطة البشرية ومن ذلك تقليل إطلاقات المياه من إيران إلى العراق إذ قطعت 40 رافدا بينما أنشأت تركيا السدود على حدودها مع العراق ما أدى إلى نقص كبير لمياه المسطحات المائية، ومن أبرز البحيرات المتأثرة حمرين بعدما أدى نقص المياه الواردة من نهر الوند الإيراني وسد دربنديخان في إقليم كردستان الذي يعتمد على نهر الوند في تغذيته أيضا، إلى فقدان البحيرة 80% من المياه التي تستطيع استيعابها كما يوضح ثائر عبيد، أستاذ علوم الجو والبيئة في الجامعة المستنصرية.
الأنشطة الصناعية تستنزف المياه الجوفية التي تغذي بحيرات العراق
ومن ناحية أخرى، كان للنشاطين الزراعي والصناعي أثر كبير كما هو الحال بالنسبة لحمرين التي استمرت كمية المياه فيها بالانخفاض نظرا للسحب منها بغرض الريّ وخاصة بساتين البرتقال التي تشتهر بها ديالى بحسب مهند المعموري، وينسحب الحال على بحيرتي ساوة، وكذلك الرزازة التي أسهم استنزاف المياه الجوفية القريبة منها في جفافها بعد حفر 1000 بئر ارتوازية تستخدم للزراعة في كربلاء، وفق بيانات وزارة الموارد المائية.
أما بحيرة ساوة المغلقة والتي لا يصب فيها أي نهر وتغذيها المياه الجوفية، فإن المزارعين، بحسب ذياب، حصلوا على موافقات من المحافظة لحفر الآبار، وقامت وزارة الموارد المائية بإيقاف هذا التجاوز، بينما ينفي عبد الوهاب فليح، نائب محافظ المثنى للشوؤن الزراعية، منح المحافظة أي رخص استثمارية لحفر آبار إرتوازية محيلا مسؤولية جفافها إلى معملي الملح والإسمنت (تمتلكهما وزارة الصناعة والمعادن وتحيلهما للاستثمار)، قائلا إن المحافظة رفعت دعوى قضائية ضد وزارة الصناعة ومعمل الملح بتاريخ 26 يناير/كانون الثاني عام 2017 أمام محكمة التمييز الاتحادية بسبب الاستنزاف الجائر لمياه البحيرة، لكن المحافظة خسرت بسبب صلاحية الوزارة السيادية.
وعقب جفاف ساوة التام، وجه النائب في البرلمان العراقي أحمد طه الربيعي، في 11 مايو/أيار 2022 سؤالا برلمانيا إلى وزير الموارد المائية السابق مهدي الحمداني، يحمل الرقم 298، حول سبب جفافها نتيجة للاستغلال المتعسف للمياه الجوفية من قبل المستثمرين في بادية السماوة، بالإضافة إلى استهلاك مفرط لمياه البحيرة من أجل إنتاج الملح بواسطة الشركة المستثمرة لمعمل ملح السماوة (خاصة) الواقع على بعد 6 كيلومترات و400 متر عن البحيرة، إذ حفرت الشركة خنادق لجمع المياه ونقلها الى 40 حوض تجفيف، يتم ملؤها بالمياه لتجف ثم يكرر ذلك عدة مرات تحت أشعة الشمس والحرارة ليتراكم الملح الجاف في القاع، وهذه الأحواض أنشأتها الشركة منذ عام 2012، وتوسعت في أعوام 2014 و2015 و2016، وحفرت آبارا ارتوازية يتجاوز عددها 10 آبار، لإنتاج الملح الصخري (معدن الهالايت) الذي تتم إذابته عن طريق مياه الآبار الارتوازية القريبة والتي تسحب من مخزون البحيرة، ومنذ ذلك الوقت، بدأت البحيرة تتراجع سريعا بتناسب طردي مع توسع حجم معمل ملح السماوة"، بحسب ما جاء في الاستجواب الذي حصلت عليه "العربي الجديد".
ويتسبب حفر البئر الإرتوازية ونصب مضخات بأعماق تصل إلى 40 مترا لبلوغ المياه الجوفية في خفض ضغط المياه الظاهرة من عيون بحيرة ساوة إلى السطح ما يؤدي الى انخفاض مناسيبها، وترد وزارة الصناعة على "العربي الجديد" بأنها أوقفت ما كان مخططا لمعمل الملح من زيادة الطاقة الإنتاجية إلى 500 ألف طن في العام، وأوقفت حفر الآبار امتثالا لتوصيات اللجنة المشتركة بين محافظة المثنى ووزارتي الموارد المائية والصناعة، عقب جفاف البحيرة، مبينة أن المعمل سيعود للعمل بطاقة 300 ألف طن سنويا، وسيجري تعويض حاجة البلاد من الملح بزيادة طاقة مملحة البصرة.
آثار الجفاف
تعد ديالى من المحافظات الزراعية في العراق، وتضم 140 ألف دونم من البساتين التي تأثرت بجفاف بحيرة حمرين بشكل كبير، كما يقول مدير مديرية الموارد المائية في المحافظة، موضحا أن المحافظة للسنة الثانية على التوالي تخرج من الخطة الزراعية للوزارة، وتعتمد حاليا على نهر دجلة فقط والذي لا تغطي مياهه سوى مساحات قليلة جدا من الأراضي، ما أسفر عن تقلص المساحات المزروعة إلى 10 آلاف دونم عام 2022.
وفي محافظة المثنى، كانت بحيرة ساوة هي وجهة المزارعين الوحيدة لري بساتينهم قبل أن تجف، بخاصة في مواسم الجفاف منذ عام 2019، إذ كانت هيئة المياه الجوفية التابعة للمحافظة تنظم عملية سحب المياه للسقي، وتعطي أبعاد الحفر للآبار الإرتوازية من أجل سحب المياه وفق الخطط الزراعية للمحافظة كما يوضح عبد الوهاب فليح، لكن جفاف البحيرة دفع المحافظة إلى فرض قيود على قطاع الزراعة، بسبب قلة المصادر المائية.
وتشكل البحيرات مقاصد للاستجمام والسياحة الداخلية لغرض السباحة، مثل الرزازة، كما أنها تعتبر مصدرا مهما لصيد الأسماك، بالتالي أدى جفافها إلى ارتفاع كبير في أسعار الأسماك، فبعدما كان سعر كيلو سمك الشانك الذي ينتشر استهلاكه بين العراقيين يتراوح بين 4 و5 آلاف دينار عراقي (بين 3 و3.45 دولارات أميركية) أصبح 10 آلاف دينار (7 دولارات)، أي أنه تضاعف، كما يقول علي الميالي، نائب محافظ كربلاء، مشيرا إلى أن الصيد في الرزازة على وجه الخصوص "كان له رونق مختلف عن باقي البحيرات قبل أن يسبب الجفاف نفوق الأسماك واختفاء الطيور المهاجرة".