يتحايل تونسيون على المنظومة البنكية عبر تقديم كشوف أسعار وهمية من أجل نيل قرض تحسين المسكن والذي يسهل الحصول عليه ليتم إنفاقه في بنود استهلاكية، ما يساهم في رفع نسبة التضخم في البلاد وارتفاع الديون غير المستخلصة.
- تقرّ الأربعينية التونسية زهرة دردوري بإنفاقها مال القرض البنكي الذي حصلت عليه في عام 2013 تحت مسمى "تحسين السكن" بقيمة 20 ألف دينار (6470 دولارا)، من أجل سداد الكلفة العالية لأقساط مدارس أبنائها، وتضيف متحدثة لـ"العربي الجديد": "لا أنكر أنني تحايلت مثلما يفعل كثيرون بالحصول على كشوف وهمية لأسعار معدات بناء بمساعدة من صاحب محل، وتقدمت لإدارة المصرف التي وافقت على القرض في غضون شهر".
ويصنف قرض تحسين السكن باعتباره من السُلف الاستهلاكية التي تمنح للأفراد، ويتميز بسقف تمويل يراوح بين 25 ألف دينار (8088 دولارا)، و40 ألف دينار (12941 دينارا)، وتحدد قيمة دفعات السداد حسب الراتب الشهري للمقترض والذي يجب أن لا يقّل عن 1000 دينار (324 دولارا)، كما تحفز ميزة طول أجل السداد المحددة بخمسة أعوام مقارنة بثلاثة أعوام لأنواع القروض الأخرى العملاء على الحصول عليه، خاصة أن البنوك تقرر بشأن المعاملة غالبا خلال فترة قصيرة تصل إلى أسبوع، بحسب مصادر التحقيق والمعلومات المنشورة على المواقع الإلكترونية لثلاثة بنوك تمنح هذا النوع من القروض.
شروط سهلة تفتح باب التحايل
يتميّز قرض تحسين السكن بسهولة التقدم للحصول عليه ومن ثم تلقيه، إذ يكفي تقديم "كشف أسعار تقديري" مع بقية الوثائق الاعتيادية للحصول عليه، كما يمكن أن يكون القرض تكميليا لقرض سكني آخر حسب قدرة العميل على سداد الأقساط الشهرية، بحسب توضيح محمد النخيلي، مدير الشؤون القانونية في البنك التونسي الكويتي وعضو اللجنة القانونية القارة في المجلس البنكي والمالي (منظمة تونسية تُمثل أرباب العمل في قطاع البنوك)، قائلا "على طالب القرض أن يكون عميلا لدى البنك وليست له أي نزاعات مع المصارف في ما يتعلق بسداد أقساط قروض سابقة، كما يجب أن يكون صاحب دخل منتظم، ويجب إحالة طلب القرض إلى مدير المتقدم للحصول على القرض من أجل الموافقة عليه (يحصل الموظف على القرض بضمان الراتب)، بالإضافة إلى إرفاق كشوف أسعار تثبت اقتناء مواد بناء مثل الإسمنت والحديد ومواد الطلاء".
المصارف لا تطلب رهناً على العقار للقروض التي تقل عن 30 ألف دينار
وتجمع 6 حالات التقى بهم "العربي الجديد" وحصلوا على قرض تحسين السكن من بنوك مختلفة على سهولة نيله بعد تقديم كشوف أسعار تقديرية من محال بيع مواد بناء، لكن الأموال التي حصلوا عليها تم توجيهها إلى نفقات مختلفة لتسيير شؤون الحياة ولم تستثمر في تحسين مساكنهم، ومن بينهم المُدرّسة الثلاثينية سحر حشاني، والتي سعت للحصول على قرض تحسين المسكن لسداد تركة ثقيلة من الديون على أبيها بعد تورطه في قضية صكوك دون رصيد، موضحة في حديثها أن "القرض السكني كان الحل الأمثل أمامي لإنقاذ والدي الواقع بين فكي كماشة الإفلاس والحبس، ولم يتطلب منّي ذلك سوى الحصول على كشوف أسعار من محل لبيع معدات البناء من أحد الأصدقاء لإتمام الملف، وبما أنني صاحبة دخل منتظم وقدره 1500 دينار (485 دولارا)، وافق البنك على منحي قرضا بقيمة 30 ألف دينار (9706 دولارات)، عام 2019.
ما سبق، تسبب في خلق اتجار في بيع وشراء الكشوف الوهمية من قبل أصحاب محال بيع مواد البناء، وهو أمر مخالف للقانون، وفق ما يؤكده سفيان الوريمي، أستاذ المحاسبة في المدرسة العليا للعلوم الاقتصادية والتجارية وعضو هيئة الخبراء المحاسبين (تجمع نقابي) في تونس.
وتراوح أسعار الكشوف بين 50 و60 دينارا (16 و19 دولارا) لطالبي القروض الصغيرة التي لا تتجاوز 20 ألفا، بينما تصل أسعار الكشوف التي سيقدمها العملاء للحصول على قروض بقيمة 40 ألفا إلى 300 دينار (97 دولارا)، وبعضهم يبيعها مقابل 500 دينار (162 دولارا)، بحسب ما يكشفه تاجر معدات البناء علاء يونس (اسم مستعار تجنبا للملاحقة القانونية)، مشيرا إلى أن معظم الناس يطلبون فواتير مضخمة لإقناع البنك برفع قيمة قرض تحسين السكن قدر الإمكان".
وتمكنت معدّة التحقيق، في 19 إبريل/ نيسان 2023، من الحصول على كشف أسعار من محل لبيع مواد البناء مقابل 60 دينارا، كما جالت ميدانيا على عدد من محال أدوات البناء الذين أكدوا استعدادهم لبيع كشوف أسعار وهمية تتضمن مجموعة من السلع اللازمة لعملية تحسين السكن، ولا تخضع الأموال التي يحصل عليها أصحاب محال مواد البناء من بيع الكشوف الوهمية للتصريحات الجبائية عن الدخل ولا للمتابعة الضريبية، ما يعني أن هذه الأموال تكدّس في قطاع مواز، وفق ما يوضحه الوريمي.
مخاطر اقتصادية
بلغت قيمة القروض السكنية الممنوحة إلى عملاء البنوك في تونس 12.141 مليون دينار (3.93 ملايين دولار)، عام 2021، وتشكل ما نسبته 45% من إجمالي قروض الأفراد التي بلغت 26.806 مليون دينار (8.67 ملايين دولار)، والتي تضم أيضاً نوعاً ثانياً هو قروض الاستهلاك بقيمة 14.665 مليون دينار (4.74 ملايين دولار)، وفي عام 2020، كان إجمالي قروض الأفراد 25.658 مليون دينار (3.300 ملايين دولار)، بينما بلغت قيمة القروض السكنية 11.819 مليون دينار (3.823 ملايين دولار)، وقروض الاستهلاك 13.839 مليون دينار (4.477 ملايين دولار)، بحسب تقرير البنك المركزي التونسي لعام 2021، الصادر في يونيو/ حزيران 2022.
ويعد الإقبال الكثيف على الحصول على القروض أحد أسباب ارتفاع نسبة التضخم في البلاد والتي بلغت 9.6% في مايو/أيار الماضي، وهي نسبة عالية وخطيرة، وفق بيانات معهد الإحصاء الوطني (حكومي)، للثلث الأول من عام 2023 والمنشورة على موقعه.
ونتيجة المخاطر الاقتصادية الناجمة عن تراكم قروض الاستهلاك، لجأ البنك المركزي إلى تقليص آجال سداد قروض تحسين السكن من 7 أعوام إلى 5 أعوام منذ عام 2014. وبلغ حجم الديون غير المستخلصة وقروض الأفراد محل النزاع 1.107 مليار دينار (358 مليون دولار)، عام 2020، وارتفعت إلى 1.215 مليار دينار (393 مليون دولار)، عام 2021، بحسب التقرير السابق، و"هو رقم كبير مقارنة مع حجم المبالغ الممنوحة ومرجح ارتفاعه أكثر"، وفق عبد اللطيف بن هدية، رئيس المرصد التونسي للخدمات المالية (منظمة جمعياتية تنجز تقارير ودراسات في المجال المصرفي)، معتبرا أن هذا الإجراء "مكّن البنك المركزي من الحد من نسبة التضخم والسيطرة على نسق قروض الأفراد من أجل تحسين صلابة الأداء البنكي بصفة طفيفة، عبر رفع متواتر لنسبة الفائدة وتقييد إجراءات الحصول على القروض، فضلا عن تراجع القدرة الشرائية للتونسيين والتي أثرت على قدرتهم على الاقتراض".
استغلال البنوك لحاجة العميل
يؤكد بن هدية على أن "المصارف لا تطلب رهنا على العقار للقروض التي تقل عن 30 ألف دينار (9706 دولارات)، إذ تطلب الرهن لقروض البناء الكبيرة التي تتجاوز عادة 50 ألف دينار (16176 دولارا)، لذلك وجه عدد كبير من العملاء هذه القروض لتغطية نفقات أخرى بسبب سهولة الحصول عليها وغياب المتابعة والمراقبة من طرف البنك".
ويؤكد التقرير السنوي العام الثاني والثلاثون الصادر عن محكمة المحاسبات (حكومية تختصّ بمراقبة حسن التصرف في المال العام)، في 12 فبراير/ شباط 2021، على أن البنوك لا تقوم بدراسة ملفات القروض كما ينبغي، كما هو الحال في قروض التطوير العقاري، فهي لم تتقيّد بالإجراءات المعتمدة في إسناد وصرف تلك القروض، وخاصة قروض التمويل المسبق، إذ لا تتم دراسة مطالب القروض على أساس القوائم الماليّة والمعطيات الكميّة والكيفيّة الواجب اعتمادها حسب منشورات البنك المركزي، ولا يجري طلب الضّمانات الكافية قبل صرف القروض، بالإضافة إلى غياب المتابعة اللّاحقة للتأكد من حسن تنفيذ المشاريع المموّلة واستشراف مخاطر عدم الخلاص (السداد).
محكمة الحسابات: البنوك لا تدرس ملفات القروض كما ينبغي
ويرفض المجلس البنكي والمالي في رده المكتوب على "العربي الجديد" هذه النتائج، مؤكدا أن "القروض السكنية تخضع لرقابة البنك في مراحل إنجاز الأشغال وذلك عبر اعتماد تقارير الخبراء المعتمدين قبل تنزيل مبلغ القرض بحساب العميل، بل إن عملية الدفع غالبا ما تتم على ثلاث مراحل حسب تقدم الأشغال"، مشيرا إلى ضرورة التفرقة بين قروض البناء والتهيئة وبين قروض تحسين المسكن قصيرة المدى التي لا تستوجب إلا تقديم فواتير، وكل هذه الإجراءات بناء على تعليمات من البنك المركزي التونسي ولا يسع البنوك سوى تطبيقها حرفيا".
لكن أشواق بن حسين، أستاذة الاقتصاد القياسي في كلية العلوم الاقتصادية والتصرف بتونس (جامعة حكومية)، ترى أن "البنوك تغض الطرف عن التعليمات السابقة لكونها مستفيدة من قروض تحسين السكن، رغم أنها تضّر الاقتصاد برفع نسبة التضخم، وترهن دخل المواطن للبنوك من خلال سنوات السداد الطويلة ورفع نسب الفائدة"، وهو ما مر به الصحافي الثلاثيني محمد يوسفي، الذي يعمل في القطاع الخاص، إذ حصل على قرض تحسين المسكن بقيمة 25 ألف دينار عام 2020، بعد تقديم كشف أسعار وهمي لمواد بناء، بينما كان هدفه من الحصول على قرض هو شراء سيارة، والاستفادة من سنوات السداد الطويلة، لكنه واجه تجربة مريرة، وفق روايته لـ"العربي الجديد"، مشيرا إلى أن البنك بعدما قدم له كل الإغراءات لتشجيعه على أخذ القرض، فوجئ بحجم الاقتطاعات التي بدأ في دفعها منذ الدقيقة الأولى، إذ تم اقتطاع 500 دينار (162 دولارا)، ضريبة على دراسة الملف و200 دينار (65 دولارا)، حصة التأمين، بالإضافة إلى تصاعد نسبة الفائدة منذ عام 2020 وحتى اليوم.