يوثق التحقيق كيف يتم استخدام غاز أعصاب من مجموعة "نوفيتشوك" والتي يعني اسمها بالروسية "الوافد الجديد"، في عمليات استهداف مروعة تحدث عن قرب للمعارضين الروس، عبر سمّ يفوق في خطره كل الأنواع الشبيهة بمقدار ثمانية أضعاف.
-دفعت نتائج فحوصات مستشفى شاريتيه الألماني، العالم الكيميائي الروسي، فلاديمير أوغليوف، إلى تغيير رأيه في واقعة تسميم مؤسس "صندوق مكافحة الفساد" المعارض أليكسي نافالني، إذ اعتقد في البداية، أنه لم يصب بغاز أعصاب من مجموعة "نوفيتشوك" والتي يعني اسمها بالروسية "الوافد الجديد"، إلا أن محاولة علاجه عبر مادة الأتروبين المضادة للسموم والتي أدت إلى تدهور حالته بدلا من تحسنها كالمعتاد، أكدت نظريته.
ويعد أوغليوف، أحد مطوري "نوفيتشوك" خلال عمله في المعهد الحكومي لبحوث الكيمياء العضوية والتكنولوجيا، والذي خدم به في الحقبة السوفييتية لأكثر من 15 عاما، كما يقول لـ"العربي الجديد"، مضيفا: "أثق في استنتاج الأطباء الألمان بنسبة 100 في المائة، وقد يكون ما استُخدم هو المثيل الصلب لمادة "إيه-242" (من المواد الفوسفورية العضوية من مجموعة "نوفيتشوك" المضافة إلى قائمة معاهدة حظر الأسلحة الكيميائية منذ نهاية عام 2019)، بعدما أضيفت إليه مادة أخرى سريعة المفعول مثل الكلوفيلين بهدف إخفاء الأعراض".
كيف يستخدم نوفيتشوك؟
من أجل تسميم الهدف باستخدام غاز "نوفيتشوك"، يحتاج منفذ العملية إلى استخدام قفازات بلاستيكية أو جلدية وكتم نفسه، والتخلص من الأنبوب والقفازين في أسرع وقت، كما يقول الكيمائي أوغليوف، مضيفا: "يبدو لي أنه تم وضع السم على ملابس نافالني أثناء غيابه عن غرفته الفندقية. يفسر ذلك حدوث ذروة الإصابة عندما كان على متن الطائرة، إذ إن حدوث مفعول الغاز عبر الجلد يستغرق وقتا طويلا يصل لبضع ساعات، بينما كان وضع السم في الشاي سيقضي عليه فورا".
ويوضح أنه إذا لمس أحدهم هذه البقعة من السم، فإن أعراض الإصابة ستظهر عليه بصورة مختلفة، وهو ما تؤكده إفادة، "صندوق مكافحة الفساد" بعيد تسميم نافالني، باكتشاف مادة مميتة في جسمه لا تشكل خطرا على حياته فحسب، وإنما أيضا على المحيطين به، وأنه كان عليهم جميعا ارتداء بدلات واقية، بالإضافة إلى أن أحد أفراد الشرطة كان يصرخ أنه يمكن أن تنتقل الإصابة من نافالني إلى شخص آخر.
وحول أسباب عدم اكتشاف مادة "نوفيتشوك" على أيدي أطباء مدينة أومسك الروسية التي هبطت فيها طائرة نافالني اضطراريا، يتابع: "لم تتوفر بين أيديهم وسائل خاصة لاكتشافها، بل كانوا يرسلون جميع العينات إلى موسكو، ثم كانوا ينطقون بتلك النتائج التي كان يتم إرسالها لهم. وماذا كان يمكنهم أن يقولوا وهم مطوقون بجيش من موظفي جهاز الأمن الفيدرالي؟".
ويؤيد المؤرخ الروسي الأميركي، يوري فيلشتينسكي، الذي ألف بضعة كتب في تاريخ العمليات الاستخباراتية، هو الآخر هذه الرواية، مستبعدا أن تكون مثل هذه العملية نفذت دون التنسيق مع الكرملين، ومرجحا أن مثل هذه العمليات تزيد من رعب "الأعداء".
حالات الاستهداف المؤكدة
بحسب المعلومات المتوفرة في المصادر الروسية المفتوحة، فإن "نوفيتشوك" غاز أعصاب فوسفوري عضوي قاتل سوفييتي المنشأ، تم توثيق استخدامه سلاحاً لأول مرة في واقعة اغتيال المصرفي إيفان كيفيليدي الذي كان يدير منظمة الأعمال "الدائرة المستديرة لبزنس روسيا" ويسعى لدخول عالم السياسة، في عام 1995، ثم العملية الفاشلة لاغتيال العميل المزدوج الروسي البريطاني، سيرغي سكريبال، في عام 2018، ووصولا إلى المحاولة الأخيرة لتسميم نافالني في 20 أغسطس/آب الماضي أثناء سفره من مدينة تومسك الواقعة في سيبيريا إلى موسكو، والتي لا يستبعد أوغليوف، نظريا، احتمال أن تكون قد نُفذت بواسطة أحد المقربين من المعارض السياسي، معتبرا أن شخصا ما قد يكون وضع السم على شيء ما، ثم سلمه لنافالني.
وجرت أعمال تطوير هذا الغاز الذي تفوق درجة سميته أي غاز سام آخر بمقدار ثمانية أضعاف، في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي في إطار برنامج سوفييتي لتطوير سلاح كيميائي نوعي. وعلى الرغم من السرية المفروضة على هذا الغاز، إلا أن المعلومات عنه تسربت إلى الغرب بعد تفكك الاتحاد السوفييتي في التسعينيات.
ويشير العالم الكيميائي أوغليوف إلى أن الولايات المتحدة عملت بعد تفكك الاتحاد السوفييتي جاهدة على الاستعانة بالخبراء السوفييت لتطوير برنامجهم الكيميائي العسكري، وأنه نفسه تلقى عرضا صريحا كهذا من السفارة الأميركية في موسكو، مقللا في الوقت نفسه من واقعية احتمال تسرب عينات من "نوفيتشوك" إلى السوق السوداء، مضيفا: "هذا الاحتمال غير مرجح رغم أنه سبق لأحد الخبراء أن قام ببيع سموم عسكرية في السوق السوداء، ولكنه تم اكتشافه حين باع السم لمسممي كيفيليدي في عام 1995، لكن تم سجنه لمدة عام فقط مع وقف التنفيذ!".
أمر من الكرملين
على الرغم من نفي الكرملين مرارا أي ضلوع للقيادة السياسية الروسية في عملية تسميم نافالني، شأنه في ذلك شأن سكريبال، إلا أن المؤرخ فيلشتينسكي، يرجح أن قرار تنفيذ العملية اتخذ على أعلى مستوى، معتبرا أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لم يعد يتصرف كرئيس دولة، وإنما كضابط أمن يسعى لتبرئة نفسه مما جرى.
وحول تصوره لكيفية التخطيط لتسميم نافالني، يقول فيلشتينسكي في حديث لـ"العربي الجديد": "أولا، يتم اتخاذ قرار اغتيال نافالني على أعلى مستوى، أي على مستوى بوتين. ثم تبدأ الأجهزة الخاصة بتدبير العملية، وتخصص ميزانية لها، ويجري تحديد كيفية التصفية. هناك خيارات كثيرة، لكن من الواضح أنه تم حسم الخيار لصالح التسميم".
وحول أسباب اختيار غاز "نوفيتشوك" تحديدا، يضيف: "أنواع السموم ليست كثيرة... ولكننا صراحة لا نعلم عددها، لأن ذلك من الأسرار الكبرى لجهاز الأمن الفيدرالي.
لم يتم حسم الخيار لصالح "نوفيتشوك" لأنه يمكن استخدامه في أي مناسبة، بل لأنه قد تم اعتماده يوما كوسيلة ناجحة لتصفية كيفيليدي وسكريبال. يعني ذلك أنه قد تم إصدار شهادة اعتماده، ولا يحتاج للمرور عبر أي إجراءات بيروقراطية لاستخدامه مرة أخرى".
ويرفض المؤرخ الروسي اعتبار عملية تسميم سكريبال فاشلة من جهة تحقيق هدف ترويع المنشقين، قائلا: "لم ير أحد سكريبال بعد عملية التسميم. وإذا ظل على قيد الحياة راقدا على السرير وكأنه نبات، فهذا أسوأ كثيرا من الاغتيال. هذا ليس نجاحا فحسب، بل نجاح فاق كل التوقعات! تخيلوا رعب "الأعداء" الآن".
كما يشكك فيلشتينسكي في صحة براهين الكرملين الذي يسعى لتبرئة نفسه من واقعة نافالني، مضيفا: "عند إجابته عن أسئلة حول نافالني (يقصد في اتصال مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون)، لا يذكر بوتين أن حقيقة التسميم، حتى إذا لم يكن الكرملين يقف وراءها، حادثة مأساوية ومزعجة، بل يقول إنه ليست هناك أدلة على أن نافالني سمم. يبدو ذلك وكأن بوتين نسي أنه ليس ضابط "كي جي بي" تكمن مهمته في تقليص الخسائر الناجمة عن عملية نفذها جهاز الأمن الفيدرالي. يتصرف رئيس روسيا وكأنه ضابط أمن ذو رتبة متدنية يتستر على عملية تصفية نافالني. يأتي ذلك مؤشرا جديدا للتخطيط للعملية في الكرملين بالتنسيق مع بوتين".
خودوركوفسكي رقم 2
يعتبر المدير العام لمركز المعلومات السياسية بموسكو، أليكسي موخين، أن الاتهامات التي وجهها نافالني من ألمانيا إلى بوتين شخصيا بالوقوف وراء تسميمه، لا تستند إلى أي أدلة وتقضي بذلك على أي مستقبل سياسي للناشط المعارض.
ويقول موخين في حديث لـ"العربي الجديد": "بتوجيهه اتهامات إلى بوتين دون تقديم أدلة، قطع نافالني أمام نفسه طريق العودة إلى الحياة السياسية في روسيا. وأصبح أمامه خياران الآن، إما العودة والعيش متواضعا في روسيا وإما البقاء في الخارج والتحول إلى "خودوركوفسكي رقم 2" ومزاولة نشاطه المعارض من هناك".
وميخائيل خودوركوفسكي هو المالك السابق لشركة "يوكوس" الروسية النفطية العملاقة وسجن في روسيا لمدة عشر سنوات، وغادر إلى بريطانيا بعد الإفراج عنه، ثم أطلق قناة على موقع "يوتيوب" يقود بواسطتها حملة معارضة للكرملين.
وبدوره، يشكك رئيس قسم العلوم السياسية والاجتماعية في جامعة "بليخانوف" الاقتصادية الروسية بموسكو، أندريه كوشكين، هو الآخر في دقة الرواية الألمانية بأن نافالني سمم بواسطة "نوفيتشوك". ويقول كوشكين في حديث لـ"العربي الجديد": "يرفض الغرب بشكل جماعي إجراء تحقيق مشترك في الواقعة، بينما يستند السياسيون الألمان إلى سرية مختبر الجيش الألماني "بوندسفير".
يهدف ذلك إلى خلق أجواء مواتية لمنع استكمال مشروع "السيل الشمالي-2" لنقل الغاز الروسي إلى ألمانيا مباشرة عبر بحر البلطيق وإجبار الدول الأوروبية على شراء الغاز الطبيعي المسال أميركي المنشأ رغم كلفته العالية". وفي معرض إجابته عن سؤال حول دوافع ألمانيا لإفساد العلاقات مع روسيا رغم الشراكة الاقتصادية المتكاملة بين البلدين، يضيف: "صحيح أن ألمانيا بلد صديق لروسيا، ولكن فيها حضورا لقوى معادية تدافع عن مصالح واشنطن، فتم افتعال مسرحية غاز الأعصاب "نوفيتشوك" لاتهام الدولة الروسية. أثق في أن المصالح التجارية ستهيمن في نهاية المطاف، ولكن الجناح الموالي للولايات المتحدة يتفوق حتى الآن".