تلتف إيران على العقوبات الدولية عبر تعدين عملة البيتكوين الرقمية، والتي تشكل فرصة للعاطلين من أجل الحصول على دخل يمكن تحويله إلى دولارات أميركية، غير أن غلبة الأنشطة غير الشرعية تؤدي لخسائر كبيرة في قطاع الكهرباء.
- يعمل الثلاثيني الإيراني بارسا عزيزي (اسم مستعار لعدم حصوله على ترخيص رسمي)، في تعدين عملة البيتكوين الرقمية منذ خسر في عام 2019 ورشة تصنيع الملابس التي كان يمتلكها في طهران، قائلا "تعرفت على الأمر بواسطة صديق ودفعتنا الظروف الاقتصادية الصعبة لامتهان الأمر".
وتجري عملية تعدين البيتكوين، عبر تنافس بين أجهزة كمبيوتر قوية على حل مسائل حسابية معقدة، وتوثيق التعاملات التي تتم بواسطة العملة الرقمية المشفرة من قبل المستخدمين الآخرين، وبعد التحقق من قيمة 1 ميغابايت من معاملات البيتكوين، يحق للمعدن كسب البيتكوين، كما يقول الخبير الرقمي محمد مهدي بهرامي المستشار الأول لشركة "بایونیرز" العاملة في مجال تقنية المعلومات، مضيفا لـ "العربي الجديد": "التعدين يحل عبر البرمجة ألغاز التشفير الصعبة، بواسطة أجهزة Miners تتحقق من مجموعات المدفوعات وتضيف تلك المعاملات إلى "blockchain" (قاعدة بيانات آمنة على الإنترنت)" وتتم مكافأة القائمين على ذلك بواسطة عملة البيتكوين، ويرتبط حجم المكافأة بعدد الأجهزة المستخدمة وقوتها".
يتبقى 2.250.681.3 عملة بيتكوين قابلة للتعدين على مستوى العالم
وتحتاج تلك العملية إلى جانب الحواسيب، الطاقة الكهربائية والإنترنت، وفق بهرامي، والذي يقول إن التعدين كان يتم سابقا عبر الحواسيب العادية، لكن اليوم يستخدم المستثمرون أجهزة خاصة تستهلك طاقة أقل وتعدّن العملة بوتيرة أسرع، مشيرا إلى تباين أسعارها بحسب سرعاتها.
ويوجد 18.749.318.75 عملة بيتكوين تم إنتاجها حتى 8 يوليو/تموز الماضي، ويتبقى 2.250.681.3 عملة ليتم تعدينها، ويوضح بهرامي أن العملية كانت مربحة جدا في البدايات قبل عقد من الزمن تقريبا، لكن تزايد عدد المستثمرين وتراجع عدد العملات المتبقية غير المعدنة كل 10 دقائق تقريبا، وهو زمن إنشاء 6.25 عملات بيتكوين، أدى إلى قلة الأرباح.
كيف تم ترخيص تعدين البيتكوين؟
اعترفت السلطات الإيرانية رسميًا بتعدين العملات المشفرة عام 2019. وأنشأت لاحقا نظاما للتراخيص يدفع بموجبه المعدنون رسوما أعلى مقابل استهلاك الكهرباء، على أن يتم بيع عملات البيتكوين إلى المصرف المركزي، وينبغي على المستثمر الحصول على تصريح مجاني من وزارة الصناعة والمناجم والتجارة، لكن بشرط امتلاك مكان عمل لديه فائض الكهرباء أكثر من 100 كيلوواط/ساعة، كما يقول عشرة معدنين التقاهم معد التحقيق والمستشار القانوني في السلطة القضائية حميد رضا إبراهيمي، والذي يضيف أن التعدين بدون تصريح، غير شرعي، لكن القانون لم يحدد عقوبة واضحة للمخالفين باستثناء مصادرة الأجهزة، قائلا: "الظاهرة من الأمور المستحدثة ولم يتم تأطيرها بقواعد قانونية واضحة، فقط ثمة قرارات وأنظمة داخلية متفرقة، أصدرتها عدة أجهزة ووزارت من بينها الشؤون الاقتصادية والبنك المركزي"، مشيرا إلى أن الحكومة الإيرانية غضت الطرف خلال السنوات الأخيرة عن التعدين غير الشرعي، عازيا السبب إلى المشاكل الاقتصادية والبطالة المتزايدة، لكن بعد ظهور أزمة الكهرباء في يونيو/حزيران الماضي "أصبحت تتعامل مع الأمر بغلظة وتصادر أجهزة التعدين المهربة وغير المرخصة".
وحظرت إدارة الجمارك الإيرانية استيراد أجهزة التعدين قبل شهر يوليو/تموز 2019، إذ كانت تدخل البلاد عبر التهريب، ويحق للسلطات ضبطها، لكن بعد ذلك التاريخ، سمحت بالاستيراد وفق تصريح يحصل عليه المستثمر من وزارة الصناعة. ويتابع إبراهيمي أنه "وفق قرار صادر عن مجلس الوزراء بتاريخ 31 يوليو 2019 فإن بيع وشراء البيتكوين والاحتفاظ به واستيراد أجهزة التعدين لا يندرج تحت الأفعال الجرمية، لكن إذا كان استيراد جهاز البيتكوين محظورا وفق مقررات جمركية أو استيرادها كان عبر التهريب أو اندرج نشاط أجهزة التعدين تحت عناوين أخرى مثل التخريب فحينئذ سيكون موضوع مادة 687 من قانون العقوبات، والتي تستهدف المستفيدين بشكل غير شرعي من الماء والكهرباء والهاتف والصرف الصحي والغاز".
وتفرض المادة بحسب إبراهيمي، عقوبة السجن من 3 إلى 10 سنوات، غير أن السلطة القضائية لم تطبقها على المعدنيين وتصادر فقط أجهزة التعدين غير المرخصة.
الالتفاف على العقوبات
تجري عمليات تعدين للبيتكوين في مراكز كبيرة من قبل أجهزة ومؤسسات إيرانية، في سعي للالتفاف على العقوبات الأميركية، كما يقول رئيس الإدارة العامة للخدمات الحديثة للصيرفة الإلكترونية (حكومية)، إيرج يوسفي، مشيرا إلى أن إنتاج عملة البيتكوين في إيران تتراوح نسبته بين 4.5% و8% وهو ما تؤكده بيانات شركة "إيليبتيك" لتحليلات سلسلة الكتل وموقع BitOoda المعلوماتي بينما تصل النسبة إلى 10% وفقا لمؤشر "كامبريدج بيتكوين" المعني باستهلاك الكهرباء في عمليات التعدين، مشيرا إلى أن "إيران تأتي في المركز الثالث عالميا في تعدين عملة البيتكوين بعوائد سنوية تقدر بمليار دولار في ظل تقديرات تشير إلى إنتاج قرابة 20 ألف بيتكوين في العام".
عمليات تعدين للبيتكوين تتم في مراكز كبيرة من قبل مؤسسات إيرانية
ويضيف أن كثيرا من الشركات الإيرانية بسبب حظر القطاع المالي والمصرفي الإيراني وكذلك عوائق التحويلات المالية بسبب العقوبات الأميركية، تستورد السلع عبر العملات الرقمية وفي مقدمتها البيتكوين، لافتا إلى أن "هذه الطريقة تصعب مراقبتها من قبل الولايات المتحدة ولا يمكنها السيطرة عليها".
وتعد إيران من بين البلدان الأرخص في أسعار الكهرباء، وهو ما يغري الإيرانيين لتعدين البيتكوين، كما يوضح الخبير الرقمي بهرامي، قائلا معدل تعرفة كيلوواط/ساعة من الكهرباء المنزلية يبلغ 80 تومانا (005. دولار)، ومعدل تعرفة الاستهلاك الصناعي يبلغ 300 تومان (1.25 سنات). مع ذلك، يؤكد بهرامي أن كثيرا من المستثمرين يعدنون من خلال الكهرباء المسروقة، وهو ما وثقه معد التحقيق، إذ إن 9 شبابا من المعدنين الذين قابلهم يسرقون الكهرباء عبر مد الكابل دون تمريره على جهاز العداد أو من خلال مده من داخل البيت إلى المصدر الخارجي في حال كان قريبا.
وتكلف سرقات الكهرباء الاقتصاد الإيراني 20 مليار تومان (833 مليون دولار سنويا) بحسب بهرامي، والذي قال إن الحكومة حددت قيمة الكهرباء المستخدمة في عمليات التعدين، بثلاثة أضعاف تعرفة تصدير الكهرباء للكيلوواط/ساعة لتصبح ألف تومان (4.15 سنتات).
مواجهة البطالة
استطلع معد التحقيق آراء 10 معدنين شباب ينتمون إلى أربع محافظات، طهران وهمدان وكردستان وأذربيجان الغربية، بينهم 9 يعملون بطريق غير شرعي، وحالة واحدة تمتلك التصريح الرسمي. كما أن 4 منهم يعملون في بيوتهم وخمسة في مزارع ومحال صناعية تقع خارج المدن، في حين أنشأ الحاصل على الترخيص مركزا فيه 100 جهاز تعدين.
وتزايد نشاط التعدين، بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها إيران خلال العقد الأخير جراء تصاعد الصراع مع الغرب بسبب الملف النووي الإيراني، وما تبعه من عقوبات أميركية ودولية وأوروبية، وفق ما يقوله الخبير الاقتصادي يوسفي، ويؤكده عمل جميع المعدنين المستطلعة آراؤهم منذ ست سنوات، وبينهم 6 معدنين يعملون منذ ثلاث سنوات بعد الأزمة الاقتصادية الخانقة، وخاصة بعد خسارة الريال الإيراني نحو 600 في المائة من قيمته، خلال السنوات الثماني الماضية، ما سبب ارتفاعا هائلا مستمرا في أسعار السلع والخدمات وتضخما تجاوز اليوم عتبة 50 في المائة، كما يقول يوسفي، مضيفا: "تراجع الريال المستمر يشجع الشباب على التعدين لعوائده التي يسهل تحويلها إلى الدولار الأميركي، وبالتالي سد الهوة بين التضخم المتفاقم والتراجع المتزايد للقوة الشرائية للعملة المحلية".
وتتوقف عوائد التعدين على عدد الأجهزة المستخدمة ونوعيتها، ويتراوح الدخل الشهري للشباب العشرة بين 100 دولار وألف دولار. ويقول 30 في المائة من المستطلعة آراؤهم، إنهم كانوا عاطلين عن العمل قبل التعدين، في حين قال البقية إنهم كانت لديهم وظائف مؤقتة، لكن دخلهم لم يكن يغطي احتياجاتهم الأساسية، ويوضح الخبير يوسفي لـ"العربي الجديد" أن نسبة البطالة بين من تفوق أعمارهم 15 عاما بلغت 9.6 في المائة خلال العام الإيراني الماضي (21 مارس 2020 إلى 21 مارس 2021) وفق بيانات مركز الإحصاء الإيراني، لكنه يؤكد أن "الشواهد تشير إلى أن الرقم الحقيقي يصل إلى مرتين ونصف ضعف الرقم الرسمي".
ويكشف يوسفي عن أن "البطالة بين الشباب ممن تتراوح أعمارهم بين 15 عاما و24 عاما نسبتها 23.7 في المائة"، لافتا إلى أنه من 600 ألف شاب وحتى 700 ألف إيراني يدخلون سوق العمل سنويا، بينما تشح الفرص المتوفرة.
ويستثمر 12 مليون إيراني أموالهم في مجال العملات الرقمية، وفق بحث أجرته شركة "إيليا" الاستشارية في مجال الأعمال، كما يقول يوسفي، مضيفا أنه لا يوجد عدد محدد للمعدنين في ظل عمل البعض بشكل شرعي والأكثرية لا يمتلكون ترخيصا.
اللافت أن 8 من المعدنين المستطلعة آراؤهم لديهم شهادات جامعية، 6 منهم حاصلون على درجة البكالوريوس، وشخص واحد يحمل الماجستير وآخر يحمل الدكتوراه، فضلا عن أن الشخصين المتبقيين يحملان شهادة الثانوية العامة، وهنا يشير الخبير يوسفي إلى بيانات مركز الإحصاء الإيراني الصادرة خلال يوليو/تموز الماضي، والتي تؤكد أن 40 في المائة من العاطين عن العمل حاصلون على شهادات جامعية.
"وتدفع الظروف الراهنة في إيران الكثير من الخريجين العاطلين عن العمل إلى هذه المهنة"، كما يقول المستثمر في تعدين البيتكوين طالب خليل زادة (اسم مستعار بناء على طلبه) الحاصل على الدكتوراه في الفيزياء لـ"العربي الجديد"، مضيفا أن "كثيرا من الناس يسألونني لماذا أزاول هذه المهنة وأنا حاصل على الدكتوراه، فأرد عليهم بأننا نعيش في إيران". معتبرا أن التعدين "ليس وظيفة دائمة، وإنما فرصة يمكن اغتنامها".
ويؤكد المعدنون أن سهولة العمل تغري عديدين بالالتحاق به، إذ يقتصر دور المعدن على صيانة الأجهزة التي تعمل على مدار الساعة بالتيار الكهربائي والإنترنت، و"المستثمر لا يفعل شيئا سوى التأكد يوميا من أن الأجهزة تعمل باستمرار، وإذا حصل عطل يصلحه بنفسه أو من خلال الاستعانة بالفنيين"، كما يقول المستثمر زاهد درودي (اسم مستعار لعدم امتلاكه ترخيصا) من مدينة همدان غربي إيران لـ"العربي الجديد"، بالإضافة إلى ذلك، كبر حجم العائد مقارنة مع الأعمال المرهقة وعدم حاجته إلى تخصص وخبرات والارتفاع المتزايد لأسعار العملات الرقمية، كما يقول صاحب مصنع جنوب العاصمة طهران، رفض الكشف عن هويته، إذ يقوم بالتعدين بشكل غير قانوني داخل منشأته.