تتفاقم ظاهرة تهريب الإنترنت في العراق والتي تتورط فيها شركات مرخصة بالرغم من محاولة الدولة مواجهتها بسبب خسائر كبيرة لقطاع الاتصالات، وسوء الخدمة التي تصل إلى المستهلكين والتلاعب في الأسعار وحقيقة السرعات.
- يصف المدير التنفيذي لشركة شمس تليكوم المزودة لخدمة الإنترنت في بغداد، بشار الزبيدي، أنشطة تهريب الإنترنت بـ"الوباء الذي ينخر قطاع الاتصالات العراقي"، مؤكدا أن شركات مرخصة مزودة للخدمة لا تكتفي بشراء السعات (كمية من البيانات لها سرعة نقل معينة خلال الثانية الواحدة) التي تبيعها للجمهور من وزارة الاتصالات التي يفترض أنها محتكرة للخدمة، لكنها تشتري أخرى مهربة من جهات غير مرخصة لإضافتها إلى السعات الرسمية حتى تحقق أرباحا عالية من بيعها للمشتركين كون الأسعار التي تفرضها الوزارة عالية.
و"تعود أسباب تفاقم الظاهرة المستمرة، رغم إعلان الحكومات العراقية عن سيطرتها عليها عدة مرات، إلى غياب بوابات النفاذ الدولية، والتأخر في تنفيذ مشروعها حتى أكتوبر/تشرين الأول عام 2022"، كما تؤكد النائبة السابقة هدى سجاد عضو لجنة الخدمات والإعمار بالبرلمان، موضحة أن مجلس النواب في عام 2019 أقر ضمن قانون الموازنة تخصيص أموال لإنشاء بوابات نفاذ وأحيلت إلى شركة لم تنفذها حينها، وبالتالي أسفر تأخر المشروع عن عدم السيطرة على السعات الداخلة للبلاد وهو ما يتم عبر تحليل البيانات وتحديد كمياتها وحجم المهربة خارج بوابات النفاذ الدولية، مقارنة بالداخلة من خلالها.
كيف يتم التهريب؟
"يجري تزويد المستخدمين بخدمة الإنترنت بشكل غير رسمي، وبالطبع ليس من خلال وزارة الاتصالات، ولكن من قبل أشخاص أو شركات غير مرخصة، تحصل على الإنترنت عبر عدة طرق منها إحداث ثقب في الكابل الضوئي وربطه بطريقة محترفة مع الأسلاك الشعيرية، أو عن طريق أبراج اتصالات غير شرعية تغطي مناطق محددة توضع في مناطق بعيدة، ويمررون الإنترنت من خلالها للمشتركين"، كما يقول أوس السعدي، المتخصص في المجال الرقمي ومدير منظمة التقنية من أجل السلام (غير ربحية) لـ"العربي الجديد"، مضيفا أن الأطراف المتورطة أفراد أو شركات يقومون بعملية التهريب بطريقة منظمة واحترافية.
ويمر الإنترنت المهرب بمسارات أبرزها إيران عبر محافظة ديالى شرق بغداد، والمسار الآخر من كردستان، إذ إن سعره في الإقليم أقل كلفة مقارنة بما تفرضه حكومة بغداد وعادة ما يهرب عبر محافظتي نينوى شمال غربي العراق وكركوك شمالا، حتى أن شركات مرخصة تقدم على شراء الإنترنت المهرب من كردستان، بحسب السعدي.
تهرب سعات الإنترنت من كردستان وإيران إلى العراق
وتؤكد على ما سبق، النائبة سجاد، مشيرة إلى امتلاك العراق ما يقارب 12 منفذا بريا ومنفذين بحريين، لكن المنافذ غير الرسمية والسرية ضعف ذلك، وهي ليست تحت سيطرة وزارة الاتصالات، معتبرة أن على الوزارة أن تمنع تهريب الإنترنت وتتعامل باتفاقيات مع الدول المجاورة لتعرف قيمة الإنترنت المهرب وحجم الحقيقي، ولفتت إلى أنها استجوبت وزير الاتصالات عام 2015 لدى حصولها على مستند يبين أن إيران زودت العراق بعشرة STM-1 (وحدة قياس لنقل لبيانات سرعتها 155 ميغابت في الثانية)، واحد منها عن طريق الوزارة والتسعة الباقية عن طريق التهريب، مؤكدة "أن هذا مثال واحد وبسيط على التهريب فقط من منفذ واحد، وهو من جهة إيران، أما عن كركوك وكردستان فحدّث ولا حرج"، وفي ذلك الوقت كان إيراد (الأرباح) STM1 الواحد مليون دولار سنويا، وهو ما يكشف عن حجم المبالغ التي تضيع على الوزارة بسبب تهريب الإنترنت.
لكن رئيس مؤسسة عراق المستقبل للدراسات الاقتصادية، المهندس منار العبيدي، يرجع تفاقم عمليات التهريب، إلى لجوء وزارة الاتصالات لرفع أسعار الإنترنت لتسديد رواتب موظفيها البالغ عددهم 18 ألف موظف، كونها مؤسسة ذات تمويل ذاتي ولا تمتلك منفذا تمويليا آخر سوى زيادة أسعار الإنترنت، أما السبب الثاني الذي يشجع على التهريب فهو اعتبار الترددات والموجودات الخاصة بتقديم الخدمة ملكا للحكومة في بغداد وتدخل ضمن عملية تحديد سعر الخدمة، بينما في كردستان، وزارة الاتصالات مصروفاتها غير مرتفعة مقارنة بالوزارة المركزية لذلك يكون السعر قليلا ما يشجع عملية التهريب من كردستان إلى العراق.
تورط موظفين حكوميين في التهريب
تكشف وثيقة حصل عليها "العربي الجديد"، صادرة عن وزارة الاتصالات العراقية في 4 يناير/كانون الثاني 2023، موجهة إلى 13 شركة مرخصة كمجهزين لخدمة الإنترنت "WiFi" الواصلة إلى المنازل، عن تورط شركات في بيع الإنترنت لأخرى غير مرخصة، إذ توعز الوزارة بحسب ما جاء في نص الكتاب "بتحسين خدمة الإنترنت وتخفيض أسعارها في السوق، وتلزمهم بعدم بيع سرعات الإنترنت إلى أي شركة غير مرخصة وغير متعاقدة مع الشركة العامة للاتصالات والمعلوماتية"، والتي تقدر عددها بـ 100 شركة.
ويقول المتحدث السابق لوزارة الاتصالات رعد المشهداني أن عمليات تهريب سعات الإنترنت تكافحها الحكومة العراقية باستمرار، إذ أعلنت في يونيو/حزيران 2021 عن عملية أمنية سميت بالصدمة، ضد المهربين استمرت لعدة شهور اشترك بها جهاز المخابرات والأمن الوطني ووزارتا الدفاع والداخلية، وتمكنت هذه العملية من استعادة ما يقارب 4 مليارات دينار (305 ملايين دولار أميركي) ضائعة ودخولها إلى موازنة الوزارة بسبب التهريب عن طريق محافظات كركوك ونينوى وديالى.
تباع الإنترنت للمشتركين بأكثر من 50 ضعف سعرها الحقيقي
ويكشف المشهداني أن عمليات التهريب تورط بها موظفون بالإضافة الى شركات "وتم إحالة الملف إلى القضاء الذي أثبت تورط عاملين حكوميين مع أصحاب الشركات والأبراج الخاصة بتهريب الإنترنت"، واكتفى الوزير السابق أركان الشيباني بالتأكيد على "أن الملف أحيل إلى القضاء" وامتنع عن إعطاء أي تفاصيل أخرى في رده على "العربي الجديد".
ولا زالت الوزارة تلاحق المهربين بمتابعة الفريق المكلف بمكافحة تهريب سعات الإنترنت، والذي تمكن من ضبط عملية تهريب للسعات في محافظة ديالى قضاء خانقين في 27 مارس/آذار 2023، ووفقاً لأمر قضائي فقد تم التحفظ على المتهم وإيداعه التوقيف تمهيداً لاستكمال الإجراءات، بحسب ما نشرته دائرة العلاقات الخارجية والإعلام في الوزارة عبر صفحتها الرسمية على فيسبوك. ويوضح المتحدث باسم وزارة الاتصالات عمر عبد الرزاق لـ"العربي الجديد" أن الفريق يضم أعضاء من جهاز الأمن الوطني وجهاز المخابرات وهيئة الإعلام والاتصالات، ويركز عملياته في المحافظات الثلاث التي يتم التهريب من خلالها، وعن مصير من يتم إلقاء القبض عليهم، رد بأن "الأمر يخص الجهات الأمنية".
تردي الخدمة
يواجه الطالب في كلية الهندسة علي الموسوي، صعوبة في تحميل مواده المنهجية وإتمام متطلبات دراسته عبر الإنترنت والذي تبلغ قيمة اشتراكه 30 ألف دينار شهريا (24 دولارا)، واصفا سرعته بـ"السلحفاة" إذ ينتظر حتى منتصف الليل كي يقل الضغط من قبل المستخدمين الآخرين على الشبكة ويتاح له سرعة أكبر.
وتنسحب حالة الإنترنت التي تحدث عنها الموسوي على العديد من المستخدمين في العراق، إذ إن سرعة الإنترنت التي تظهر للمستهلكين "وهمية وفقا لقياسات التجهيز والتشغيل"، بحسب ما يكشفه مركز الإعلام الرقمي (منظمة غير حكومية) في رده على "العربي الجديد"، موضحا أن قيمة استيراد الإنترنت ونقلها للمواطنين شاملة كل التكاليف 41 دولارا للميغا الواحدة في حين تباع للمشتركين بأكثر من 50 ضعف سعرها الحقيقي.
ويوضح المركز في رده على "العربي الجديد" أن مصطلح سرعة الإنترنت الوهمية يدلل على قيام الشركات بتركيب أجهزة لتخزين البيانات "cache" على شبكتها الخاصة، وعند طلب المستخدم ملفا ما كان قد طلبه مستخدم آخر في وقت سابق، تستدعيه الشركة من أجهزة الكاش الخاصة بها وليس من خوادم الإنترنت "Server" والتي تضم الملفات فعليا، ويجري هذا غالبا عبر مجهزي خدمات الإنترنت الرئيسيين.
و"تلجأ الشركات المزودة للإنترنت في العراق إلى أساليب وطرق تقنية توهم المشتركين عبرها بأن السرعة عالية المستوى من خلال زيادة خوادم الكاش CDN، وهذه تعمل على توفير زيادة الطلب على السعات الدولية، وتعطي المستخدم القدرة للحصول على الفيديوهات والصور والملفات المتداولة في بلده دون الحاجة إلى الوصول لبلد الموقع الأصلي مرورا بسعات الإنترنت الدولية التي تحصل عليها الشركات بأسعار عالية، ويتم ذلك عبر حفظ خوادم الكاش للوسائط أو البيانات التي يكثر الطلب عليها وتجعلها قريبة محلياً لإعادتها لباقي المشتركين، وهنا تتضح الإنترنت الحقيقية من الخوادم المساعدة أو ما يسمى الكاش الوهمي"، بحسب توضيح المتخصص في تقنية المعلومات مؤمل الجبوري، الناطق باسم مركز الإعلام الرقمي ومدير العمليات فيه سابقا.
وعقب تحقيق أجراه فريق تابع للمركز مختص في مجال الاتصالات والإنترنت تم تشكيله لهذا الغرض، توصل إلى أن العراق يستورد الإنترنت بسعر يتراوح بين 500 و775 دولارا لـ STM، أي ما يعادل مبلغا يترواح بين 3 و6 دولارات للميغا الواحدة، وفقا لنوع المنفذ الذي يتم الاستيراد عن طريقه إن كان بحريا أم بريا، وهذه الأسعار تضاف لها أجور نقل داخل العراق لإيصالها إلى مركز اتصالات المأمون (بدالة تنتقل منها البيانات لخدمة دوائر الدولة والمواطنين) في بغداد بقيمة تقريبية تصل إلى 5000 دولار لــ STM الواحد (48 دولارا للميغا الواحدة)، وهو ما يسمى بالنقل الدولي، فضلا عن 1500 دولار لنقلها إلى المحافظات العراقية (10 دولارات لكل ميغا) وهو ما يدعى بقيمة النقل المحلي، ويشير المركز إلى أن فريقه حصل على وثائق حول هذا الأمر بصعوبة، لأن غالبية الشركات تعمد إلى حجب الأسعار حتى عن موظفيها، إلا في مستويات معينة، ومن المؤسف أن وزارة الاتصالات وجهت بالتخفيض أكثر من مرة ولكن عمليا لا يوجد تطبيق لهذا القرار، فالشركات تمكنت وبكل بساطة من الالتفاف على القرار عبر تعديل الفئات وتغيير الأسعار.
ويكشف كتاب صادر عن الوزارة في 25 يونيو/حزيران 2019 حصل عليه "العربي الجديد"، بعض إجراءاتها الهادفة الحد من التهريب عبر تخفيض سعر cross connection من 7000 دولار إلى 5000 دولار، كما قررت دعم مشروع شبكات النفاذ الضوئي (توفر متطلبات الصوت والصورة وكافة خدمات الاتصالات) المنفذة من قبل الشركة العامة للاتصالات والمعلوماتية، وهي إحدى تشكيلات الوزارة، بعدما لوحظ عزوف المواطنين عن هذه الخدمة بسبب الأسعار المرتفعة، وفتح منفذ طريبيل الحدودي لإدخال خدمات الإنترنت من أجل الحيلولة دون انقطاع عبر تعاون الشركات الأردنية والعراقية من أجل تمرير السعات عبر منافذ عمان البرية والبحرية وصولا إلى بغداد.
ولا يقف التحايل على المستخدمين عند حدود ما سبق، بل تقوم الشركات المزودة للخدمة بإعطاء أفضلية وأسبقية للطلبات الخاصة بفحص سرعة الإنترنت، وبالتالي تعطي المستخدم بيانات سرعات عالية لا يمكن الاستفادة منها في المواقع أو الطلبات الأخرى، وهو ما يؤكده الجبوري قائلا إن "هذه الحيل تقوم بها الشركات لتضلل المستخدم في معرفة سرعة الإنترنت التي عادة ما يقوم المشترك بقياسها عبر تطبيقات فحص السرعة".
وهذه التطبيقات هي ذاتها تقوم الشركات المجهزة برفعها الى الخوادم الداخلية (الكاش) لذلك لا تقوم بفحص سرعة الاتصال الدولي الحقيقية بل تعطي مقياسا عاليا ولا يمثل حقيقة سرعة الإنترنت، لهذا ينصح الجبوري المستخدم بتغيير خوادم الإنترنت ليتمكن من تخطي الكاش والوصول إلى المركز الرئيسي للموقع وهنا تتضح السرعة الحقيقية.