يهرب غزيون عائدون إلى القطاع عقاقير مخدرة وأدوية غير مرخصة، يحصلون عليها عبر وصفات طبية يكتبها أطباء مصريون، ما أدى لانتشار مستحضرات تشكل خطورة على صحة المرضى، حتى أن بعضها ثبت تزييفه وخلوه من المادة الفعالة.
- قرر الثلاثيني الغزي محمود إبراهيم، أثناء وجوده في القاهرة، شراء كمية من الأدوية منخفضة السعر، لكن بدائلها أغلى أو يفتقدها القطاع المحاصر، على الرغم من صدور عدة تعميمات عن إدارة معبر رفح أولها في عام 2018 وأحدثها في 11 يوليو/ تموز الجاري، تحظر جلب المواطنين الأدوية المصرية بكميات تجارية.
واشترى إبراهيم الأدوية من صيدلية في القاهرة، عبر وصفات طبية (روشتات) كتبها له طبيب مصري، في مقابل 500 جنيه (32 دولارا أميركيا)، ولدى سفره، وضعها داخل أغراضه، وبالفعل تمكن من إدخالها عبر المعبر، ليجني 200 دولار أميركي نتيجة بيعه إياها في صيدليات بغزة، كما يقول لـ"العربي الجديد".
وبدأ انتشار الأدوية المصرية وسط الغزيين، مرضى وأطباء وصيادلة، منذ عام 2009، وجرى إدخالها في السابق بكميات كبيرة عبر الأنفاق التي بدأ إغلاقها في منتصف عام 2013، ومن وقتها وحتى اليوم تدخل الأدوية عبر معبر رفح، إضافة إلى كميات قليلة يتم تهريبها عبر البحر لأغراض تجارية، بحسب ما يوضحه الدكتور أيمن كردية، مدير دائرة الرقابة الدوائية في وزارة الصحة بغزة.
وتشمل قائمة أبرز الأدوية التي يتم إدخالها من مصر إلى غزة عقاقير علاج القولون مثل Colona، وSpasmodigestin وLibrax، وكذلك أدوية نفسية مثل Anafranil، ودواء Prozac، وكذلك أدوية لمعالجة مشكلات الكلى مثل دواء "UROSOLVINE"، ROABX، إضافة لبعض أنواع المضادات الحيوية، Moclav، وZINNAT، ومراهم معالجة التهيجات الجلدية لدى الأطفال، مثل "Kenacomb"، بحسب إفادة موزع الأدوية الدكتور همام عبيد، والدكتور علاء أبو سرية، وخمسة صيادلة التقاهم معد التحقيق، أكدوا أن الاتجار بالأدوية المصرية يدر أرباحا، تراوح بين 100% و120% من سعر شراء الأصناف التي لها بدائل محلية غالية، لكن الأرباح ترتفع في حال غياب العقار المحلي تماما، مثل دواء Amigraine المخصص لعلاج الصداع، ودواء concor plus المستخدم في علاج أمراض ضغط الدم، بحسب إفادة الصيادلة.
مخاطر كبيرة
وراء الأرباح الكبيرة للمهربين والصيادلة مخاطر عالية تهدد حياة الغزيين، إذ يهرب بعض المسافرين عقاقير لا تصرف دون روشتة طبية بسبب إمكانية إدمانها، مثل Tramadol، وLyrica، وحبوب مخدرة تسبب الهلوسة تسمى "روتانا"، عبر استغلال أزمة كورونا وحالة التباعد الاجتماعي التي أثرت على عمليات التفتيش الجسدي، وخاصة للنساء، ويبلغ سعر شراء شريط يضم 10 حبات من الأنواع السابقة في مصر ما بين 100 جنيه (7 دولارات أميركية)، وحتى 200 جنيه (14 دولارا)، لكنها تباع في غزة بمبالغ تراوح بين 100 دولار و150 دولارا للشريط.
وبالإضافة إلى المخاطر السابقة، لا تخضع الأدوية المهربة والعقاقير المختلفة لإجراءات النقل والتخزين السليمة، وفق ما رصده مدير دائرة الرقابة الدوائية، الذي أوضح أن سببين خطيرين يقفان وراء قرار وزارة الصحة بمنع تداول الأدوية المهربة من مصر، الأول اكتشاف أنواع عديدة من العقاقير المغشوشة قبل عدة سنوات، مثل "Panadol EXTRA"، والذي اتضح بعد فحوصات مخبرية أن نسبة المادة الفعالة فيه 0%، ومركباته عبارة عن نشا، إضافة لدواء قطرة عين يتكون من ماء وملح فقط، قائلا: "صنعت تلك الأدوية بطريقة غير رسمية"، إضافة إلى أن تلك العقاقير تهدد شركات وموزعي الأدوية الرسمية سواء المصنعة في فلسطين أو المستوردة، بسبب فارق السعر الكبير، وتفضيل بعض الصيادلة ترويجها لتحقيق مكاسب كبيرة.
وتعاني الشركات الوطنية ووكلاء الأدوية المستوردة من الأصناف المهربة، بحسب موزع الأدوية أبو سرية، الذي قال إن صيدليات غزة تشبعت بالأدوية المهربة والتي لها بدائل، مثل علاجات القولون، والضغط، والأدوية النفسية والمضادات الحيوية، وانخفضت مبيعات منتجاتنا.
وصفات طبية مزورة
يقول ثلاثة ممن نجحوا في تهريب الأدوية إنهم اشتروا وصفات طبية مختومة وموقعة من أطباء ومراكز طبية مصرية، مقابل مبالغ تراوحت ما بين 300 جنيه و500 جنيه، وهو ما يرصده الدكتور كردية، موضحاً أن دائرة الرقابة الدوائية وبعد تكرار اكتشاف وصفات طبية مزورة، دربت الأطباء على طرق التحقق من صحة الروشتات، وهناك مجموعة أسماء لأطباء مصريين ومراكز طبية محددة يلجأ إليها المتورطون.
وعبر إفادات مسافرين قادمين إلى القطاع، رصد معد التحقيق أربع صيدليات في القاهرة و5 عيادات خاصة يديرها أطباء يعملون في مشفيي معهد ناصر وفلسطين، يتداول المهربون أسمائهم، مؤكدين سهولة الحصول على وصفات طبية من خلالهم.
يبيع أطباء مصريون وصفات طبية مزورة لمهربي الأدوية
وبسبب تفشي الظاهرة، يؤكد كردية ومصدر أمني يعمل في معبر رفح، رفض ذكر اسمه لكونه غير مخول بالتصريحات الإعلامية، أن كل من يتم كشف وجود دواء بحوزته يتم إحالته لطبيب يعمل في المعبر، وبدوره يطلب تقارير ووصفات طبية تثبت حالة المريض وحاجته للعقار، خاصة العائدين من رحلات علاج، حينها يسمح له بمرور كمية تكفي استخدامه الشخصي بما لا يزيد عن ثلاثة أشهر في حال كان المرض مزمناً، ولشهر واحد إذا كان المرض عادياً، وإذا اكتشف الطبيب عدم وجود وصفات طبية، أو عمليات تزييف، تتم مصادرة الدواء، وقد يخضع حامله للتحقيق بتهمة التهريب، وهو ما يعمل المهربون على مواجهته من خلال عرض 100 شيكل على المسافرين العائدين في مقابل حمل كميات صغيرة من الدواء المهرب لتوزيع ما بحوزتهم على عدد أكبر، وفق شهادة المسافرة آية جميل، التي عرض عليها أحدهم الأمر، بالقرب من حواجز الجيش المصري في سيناء، لكنها رفضت، بينما وقع ثلاثة آخرون (سيدتان ورجل) ضحية الموافقة، إذ ضبطت حبوب مخدرة بحوزتهم في الجانب المصري من المعبر وتم توقيفهم.
تجارة نشطة
أجرى معد التحقيق جولة شملت 12 صيدلية في القطاع، جميعها باعت في السابق أو تبيع حالياً أدوية مصرية، لكنها لا توضع على الأرفف، ويطلب بعض الصيادلة من الزبائن العودة بعد ساعة أو أقل لاستلامها، وهو ما يؤكده الصيدلي إبراهيم (طلب تعريفه بهذا الاسم للموافقة على الحديث)، مضيفا: "وجدنا أنفسنا مجبرين على بيع الدواء المصري لأرباحه العالية، ولأن الأطباء يصفونه لمرضاهم، وبعض الناس يصممون عليه لاعتقادهم بأنه الأفضل رغم وجود بدائل، مثل مضادات للأميبا، وكذلك الأدوية النفسية، وعلاجات القولون العصبي".
ويشكل الفارق الكبير بين سعري عملتي الجنيه (15.64)، والشيكل (3.25)، في مقابل الدولار، عاملا هاما يشجع مهربي الدواء المصري، خاصة بعض الأصناف المدعومة حكوميا، كما يقول كردية وعبيد، بالإضافة إلى أن بعض أنواع الأدوية سعر بدائلها غال، وهو ما يجعل من تهريبها صفقة رابحة، مثل "أميجران" و"كولونا" و"أنافرانيل"، وهو ما يؤكده نائب رئيس نقابة الصيادلة علي الهبيل، مقراً بمتاجرة صيادلة بالأدوية المهربة والمحظورة والمغشوشة وغير المرخصة.
يهرب مسافرون عقاقير مخدرة مثل الترامادول وحبوب ليريك
وبلغت نسبة الأدوية المصرية غير المسجلة في القطاع والموجودة على أرفف الصيدليات 40% من إجمالي المبيعات قبل عامين، لكنها بدأت بالانخفاض، وأصبحت تباع في الخفاء، وفق الإدارة العامة للصيدلة بوزارة الصحة، والتي أصدرت عبر دائرة الرقابة الدوائية التابعة لها تعميما لصيدليات القطاع، وعددها 800 صيدلية، في الأول من يناير/ كانون الثاني 2019، بمنع بيع الأدوية غير المدرجة على القائمة الدوائية المعتمدة من الوزارة والتي تشمل 3 آلاف صنف، ومن بينها الأدوية المصرية المهربة.
وتُنظم جولات تفتيشية على الصيدليات لمراقبة تنفيذ التعميم ومصادرة الأدوية الممنوعة، إضافة لمصادرة كميات أكبر من مسافرين في المعبر، وفق كردية. وأسفرت أحدث الجولات، في الرابع من يوليو الجاري، عن ضبط مخزن سري تابع لصيدلية بمدينة غزة، بداخله أدوية مهربة، وأخرى مراقبة (مخدرة)، بحسب رئيس لجنة الرقابة والتفتيش الدكتور رأفت أبو رضوان.
وبلغ عدد الصيدليات التي تلقت إنذارات أو أغلقت لوجود أدوية مصرية غير قانونية فيها، 250 صيدلية خلال عام 2019، في حين انخفض العدد إلى النصف خلال عام 2020، بسبب إغلاق المعبر لفترات طويلة، في ظل أزمة كورونا، بحسب المصادر السابقة.
وتقدر الكميات المصادرة شهريا من الصيدليات والمعبر ما بين 100 كيلوغرام و200 كيلوغرام من مختلف أنواع الأدوية، وهو ما رصده معد التحقيق داخل مخزن ممتلئ بقسم الصيدلية في وزارة الصحة، بينما توجد كميات أكبر في مخازن المعبر، كما يقول كردية، مشيرا إلى أن الأدوية المهربة المضبوطة لا يتم فحصها وتعتبر راسبة، لذلك تتلف حسب الأصول، وانطلاقا من نص المادة 68 من قانون الصحة العامة الفلسطيني رقم 20 لعام 2004 التي تؤكد على أن العقار الطبي أو المستحضر الصيدلاني يعتبر غير صالح للاستعمال إذا لم يطابق مواصفات التصنيع والتخزين الجيدين وتأكيد الجودة، في حين تؤكد المادة 65 على ضرورة أن تكون العقاقير الطبية المتداولة مسجلة في الدستور الدوائي المعتمد من وزارة الصحة.
ولمواجهة تفشي عمليات التهريب عبر لف الدواء على الجسد، تستعين إدارة معبر رفح، بالشرطة النسائية لتفتيش مسافرات تثار حولهن شكوك، لكن منى محمود تمكنت من التعامل مع الأمر، ونجحت في نقل كمية من الحبوب الدوائية، إلى تاجر منحها 200 دولار، ودفع تزايد التهريب عبر البحر بسبب إغلاق الأنفاق، الشرطة البحرية إلى تشديد رقابتها لمواجهة محاولات وعمليات التهريب عبر مراكب الصيد، وفق إفادة المصدر الأمني، بينما قررت وزارة الصحة، في ظل الإقبال على الأدوية المصرية، السماح باستيرادها وإخضاعها للرقابة بكافة مستوياتها بداية من النقل إلى فحص الفعالية، وبالفعل حصلت شركات على توكيلات لأنواع مثل كونجستال Congestal، كما يقول كردية، موضحا أن عدد الأنواع المرخصة وصل إلى 60 مستحضرا.