استمع إلى الملخص
- **أهمية الثورة الطلابية في بنغلادش**: الثورة الطلابية نجحت في خلع النظام باستخدام استراتيجيات فعالة مثل التواصل الاجتماعي وخطاب بسيط، مما صعّب على الحكومة وصمهم بالخيانة والإرهاب، وأبرزت أهمية عدم انتماء الثورات لحزب محدد.
- **دروس مستفادة من الثورة البنغالية**: الثورة البنغالية تُظهر أن الشعوب لا تعتاد القمع، وتؤكد ضرورة خطة انتقال ديمقراطي محكمة بين المعارضة والنخب الوطنية، وأهمية خلق مؤسسات تمنع نمو الاستبداد عبر انفتاح ووعي شعبي.
يحتل الخبر البنغالي حيزاً لا بأس به من نشرات الأخبار وتعليقات المتابعين العرب على مواقع التواصل الاجتماعي، بالرغم من الأولوية المتجددة للحرب على غزة، ومن بعدها تطورات الانتخابات الأميركية التي تؤثر على بيتي وبيتك، لكن فرار الشيخة حسينة واجد المفاجئ، بعد استقالتها من رئاسة وزراء البلد الذي حكمته بالحديد والنار لأكثر من عشرين عاماً، يقتضي البحث عما وراءها من دروس في ضوء ما مر به عالمنا العربي، قبل عقد ونصف من تحركات مشابهة، بدت في أولها بأن مؤداها سيصل بنا إلى "انفتاح ثقافي ووعي شعبي" كما يحدد المفكر العربي عزمي بشارة في ضبطه لمصطلح الثورة، ضمن كتابه القيّم "في الثورة والقابلية للثورة"، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات نهاية عام 2011.
في الأحوال العادية لا تدخل بنغلادش ولا أخبارها ضمن أجندة وسائط الإعلام العربية الرئيسية والتي لا تنظر سوى تحت قدميها، أي الدول المحيطة بنا، مع نقل أخبار المستعمر القديم في أوروبا والجديد في أميركا، متجاهلة توسيع مدى الرؤية والانفتاح على قصص مميزة في آسيا وأفريقيا، والمفارقة أنها تحظى باهتمام "سي أن أن" مثلاً وتخصص لها عدة برامج، إلا أن ما جرى هذه المرة فتح المجال لذلك، فهؤلاء فقراء يشبهوننا ويعانون من استبداد وفساد نظام مدعوم من الجيش، كما أننا نشترك معهم في الدين، فبنغلادش ثالث أكبر دولة على مستوى العالم من حيث عدد المسلمين بما يصل إلى 172 مليون نسمة (8% من شعبها هندوس ومسيحيون)، ويضاف إلى ذلك دول عربية عديدة يوجد فيها البنغال، منها دول الخليج التي شهدت فعاليات احتجاجية في قطر والإمارات تضامناً مع الطلاب المتظاهرين، كما سبق أن عمل البنغال ووفدوا إلى بلاد أخرى مثل مصر التي كانوا يلتحقون، حتى وقت قريب، بورش تصنيع الملابس في مدنها وقراها مثل سلمون القماش التابعة لمدينة المنصورة شمالي البلاد.
إذن مثل ما جرى في بلاد ما يعرف بـ"الربيع العربي"، نجحت ثورة الطلاب في خلع رأس النظام، وهو أمر جلل وليس سهلاً لأن الرئيس أو الرأس يقاوم حتى آخر قطرة دماء من الأتباع والثوار، وعلى استعداد لحرق البلد كما يقول مؤيدو الأسد في الحالة السورية، وبالفعل حاول أعضاء مليشيا حزب رابطة عوامي الذي ترأسه حسينة تكرار تلك الجرائم، ولمواجهة ذلك أكسب الثوار البنغال احتجاجاتهم زخماً متواصلاً بسبب البنية المنضبطة غير الحزبية أو المؤدلجة، وبالتالي صار صعباً على أطر النظام الحزبية والأمنية اختراقها وتخريبها. كما أن استراتيجيات مخاطبة المجتمع وتحديداً الشباب من خلال منصات التواصل الاجتماعي وصياغة خطاب بسيط وواضح ومنطقي يركز على الدفاع عن حقوقهم، عقّدت من جهود الحكومة لوصمهم بالخيانة والإرهاب.
ويكشف التجاوب المجتمعي الكبير مع دعوات الطلاب للمشاركة في الفعاليات الاحتجاجية أهمية ألا يكون حزب بعينه أو تيار محدد في واجهة الثورات الشعبية الناجحة من أجل إفشال محاولات النظام للتصويب على هذا الحزب أو ذاك التيار، وهو ما فعلته حسينة باتهام الطلاب أنهم واجهة لحزب منافستها الشيخة خالدة ضياء (الحزب الوطني البنغلادشي) والجماعة الإسلامية المعارضة، لكن خطابها التخويني المتشنج لم يفلح في النفاذ إلى عقول الشعب، خاصة أن الطلاب كانوا في الواجهة والتخطيط والتنفيذ ويمثلون البلد كله بمختلف فئاته الساخطة على التراجع الاقتصادي والفساد المستشري.
الدرس الأهم والذي ينبغي أن نفكر به خاصة في لحظات اليأس التي نمر بنا منذ هزيمة الثورات العربية، هو أن الشعوب لا ولم ولن تعتاد القمع وتطبّع معه حتى لو طال الزمن، فقبل عدة شهور لم تكن حسينة تتوقع أي خطر يهدد بقاءها في الحكم، فالسيدة مرهوبة الجانب وقد فازت وهي في السادسة والسبعين من عمرها بولاية خامسة لتواصل مسيرتها في الحكم، عقب انتخابات تشريعية قاطعها حزب المعارضة الرئيسي ووصفها بأنها "صورية"، لكن من يكترث باتهاماتهم، قادتُهم في السجن والباقون خائفون من أحكام الإعدام التي استهدفت قادة الجماعة الإسلامية البنغالية، وهي واحدة من أكبر الأحزاب السياسية في بنغلادش وتعتبر ثامن أكبر جماعة في العالم الإسلامي، وكذلك الإخفاء القسري للمعارضين، حتى إنه خلال اليومين الماضيين تم الكشف عن مركز اعتقال سري في دكا يُدعى Aynaghar ومن بين من تم تحريرهم منه مخفيون منذ عام 2016، من بينهم نجل مير قاسم علي، عضو المكتب التنفيذي المركزي المسؤول عن الشؤون المالية في حزب الجماعة الإسلامية البنغالي، والذي أعدمته في عام 2016 محكمة الجرائم الدولية المثيرة للجدل التي أنشأها نظام حسينة، وكذلك عبد الله أمان عزمي، وهو جنرال سابق وابن غلام عزام، زعيم الجماعة الإسلامية السابق الذي حكمت عليه نفس المحكمة بالسجن مدى الحياة.
صحيح أن الثورة لم تبدأ وتعرّف نفسها كـ"ثورة"، وإنما احتجاجات مطلبية بسبب شبكات الزبائنية السياسية التي احتكرت الوظائف الحكومية ووزعتها على أتباع وأنصار حسينة، لكن قرارات رئيسة الوزراء هي التي حولتها إلى ذلك مع أنه كان يفترض في السيدة أن تتمتع بالحكنة والتسييس بعد طول بقاء في الحكم، إلا أنه لا يغني حذر من قدر، ولم تستوعب أن هؤلاء جزء من شعبها ولهم حقوق كأتباعها، ومن ثم حركت آلتها القمعية سجناً وقتلاً (وصل عدد ضحايا قوات الأمن ومليشيا الحزب الحاكم إلى 300 قتيل) لتنتقل الاحتجاجات إلى هدف جذري بإزاحتها، والفضل في ذلك لها، بعدما تسببت في نمو المظاهرات التي بدأت بشكل محدود لكن ردود فعلها زادت أعداد المحتجين ورقعة انتشارهم جغرافياً.
الطرف الأقوى في المعادلة والذي يفترض أن حسينة فرضت هيمنتها عليه منذ أعوام هو الجيش، إلا أن الأحداث تؤكد درساً هاماً، وهو أن تلك المؤسسة تتحمل تكلفة قرارات القمع التي يتخذها السياسيون إلى حدود وليس إلى ما لا نهاية، والجنرالات يتخذون قرارهم عندما يشعرون أن السياسي صار عبئاً على مكاسبهم التي يحتاج الحفاظ عليها بلداً هادئاً، كما أن الذهاب إلى أقصى الحدود في الديكتاتورية سيفقد أساليب الاستبداد في الضبط والسيطرة فعاليتها، وبالتالي لا بد من العودة إلى الوراء، وهنا على الطلاب باعتبارهم ممثلين للشعب أن يسرعوا في إدراك خطورة اللحظة الفارقة والتي لن تتكرر، ويبلوروا مع تكتل المعارضة والنخب الوطنية خطة انتقال ديمقراطي محكمة لأنه بمجرد فرار حسينة، بالتأكيد بدأت كل المؤسسات القديمة في التخطيط لاستعادة الحكم حفاظاً على مكتسباتها.
ومن أجل ذلك يجب التوصل إلى صيغة توافقية بين تكتل المعارضة سريعاً، حتى لا يستثمر الطامعون في الحكم خلافاتهم، سواء من أنصار النظام القديم أو المؤسسة العسكرية التي نظمت العديد من الانقلابات والتحركات المضادة والاغتيالات، وكذلك خطر داعش الذي يتربص بالبلاد، وسبق أن نفذ التنظيم اعتداءات وعمليات إرهابية يمكن أن تسمح الفوضى بعودتها، ويزيد من خطرها سعي النظام القديم إلى خلط الأوراق عبر استهداف الأقليتين الهندوسية والمسيحية، لذا لا بد من عدم السماح باستغلال حالة السيولة الأمنية ومنع الاعتداء عليهم وخسارتهم لوطنهم وخسارة وطنهم لهم، وقبل ذلك تشويه فعل ونتائج وصورة الثائرين داخلياً وخارجياً، خاصة أن هناك أحقاداً متراكمة، جراء دعم الهندوس تاريخياً حزب رابطة عوامي، والذي كان يصف نفسه بأنه علماني، في مقابل كتلة المعارضة التي تضم الإسلاميين.
حسينة وإن ذهبت لكن قصتها تستحق أن تروى ويتمعن فيها الحكام قبل المحكومين، خاصة أنها بدأت إصلاحية وجاءت للحكم عبر الديمقراطية لكنها انتهت قاتلة ومستبدة وديكتاتورية، وحتى لا يتكرر نموذجها مرة ثانية يحتاج الثائرون إلى خلق مؤسسات تمنع نمو الاستبداد وتئده في مهده عبر انفتاح ووعي شعبي.