تروج موسكو حربها على أوكرانيا عبر دعاية ترتكز على رؤيتها التاريخية وما تسميه حدودها الحضارية، ضمن نظرية روسيا البوتينية الجديدة والتي لا تصنف نفسها وريثة للاتحاد السوفييتي، ولكنها تطمع في الجزء الأكبر من أراضيه.
- تلقى الناشط الروسي دانييل كين، مدير نقابة تحالف المعلمين (منظمة غير حكومية) في سانت بطرسبرغ، تأكيدات من مختلف الأقاليم حول توجيهات صدرت إلى المدارس والجامعات بتنظيم دروس خاصة وإعداد محاضرات حول السياق التاريخي للأزمة الأوكرانية وتبرير التدخل الروسي المباشر الذي بدأ في 24 فبراير/شباط الماضي.
يقول كين الذي حبس مؤخرا إداريا لمدة أسبوعين على خلفية مشاركته في فعالية مناهضة للحرب في سانت بطرسبورغ، لـ"العربي الجديد": "علمت من المدرسين بأن دروسا حول السياق التاريخي للأزمة الأوكرانية نظمت بالمدارس، ووصل الأمر إلى أن المديرين كانوا يحضرون، ما يعني صدور توجيهات لهم بالتعامل بجدية مع التكليف. تلقينا في منظمتنا إفادات مماثلة من عشرات المدن، ووردت أولى الأنباء عن تنظيم مثل هذه الدروس يومي 24 و25 فبراير/شباط الماضي من مقاطعة موسكو وجمهورية باشكيريا"، يضيف أنه رصد توجيهات مماثلة للجامعات مع ترك هامش أوسع من الحرية لإداراتها من أجل تحديد كيفية تنظيم عملية التوعية مقارنة مع المدارس.
محددات التوعية الجيوسياسية
تكشف وثيقة مسربة مكونة من 50 صفحة صادرة عن وزارة العلوم والتعليم العالي الروسية حصل "العربي الجديد" على نسخة منها، عن إعداد "سلسلة من المحاضرات الرامية إلى التوعية الجيوسياسية للطلاب وشرح الوقائع في ظروف العالم المتغير"، وتنقسم هذه المحاضرات إلى شقين رئيسيين أولهما حول قضايا الأمن المعلوماتي السيبراني وشبكات التواصل الاجتماعي، والثاني حول مكانة روسيا على الساحة العالمية وقوتها النووية وأبرز الشخصيات الثقافية والاختراعات العلمية الروسية، والنظام العالمي ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبدء روسيا والصين بتحدي الهيمنة الأميركية منذ بداية القرن الـ21، وتوسع حلف الناتو شرقا، والثورات الملونة في جورجيا وأوكرانيا وغيرهما من الجمهوريات السوفييتية السابقة وحتى تظاهرات "الربيع العربي"، والانقسام الثقافي في أوكرانيا، وغيرها من القضايا التاريخية والجيوسياسية الشائكة.
وفي الصفحة قبل الأخيرة من الوثيقة، يوضح معدوها مفهوم "الحدود الحضارية"، معتمدين وصف المفكر السياسي الأميركي، صاموئيل هنتينغتون، لأوكرانيا في كتاب "صراع الحضارات" (دون الإشارة الصريحة إليه)، بأنها "بلد منقسم ذو ثقافتين مختلفتين، يميل شطرها الغربي إلى العالم الأوروبي "الكاثوليكي"، والشرقي إلى الروسي "الأرثوذكسي"، مع إرفاق خريطتين توضيحيتين لاعتماد اللغة الروسية والتصويت للمرشحين الموالين لروسيا في جنوب شرق أوكرانيا، مقابل هيمنة اللغة الأوكرانية والتصويت للمرشحين الموالين لأوروبا في وسط أوكرانيا وغربها.
ويعلق كين على محتوى هذه الوثيقة، قائلا: "من الواضح أنه تم بذل جهود كبيرة لإعدادها، ويمكن وصفها بأنها ذات جودة عالية من جهة كشفها عن رؤية القيادة الروسية للعالم".
التاريخ في خدمة البوتينية
يصف الخبير في شؤون أوروبا الشرقية والوسطى والحاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسة، إيفان بريوبراجينسكي، التاريخ بـ "العمود الرئيسي لتبرير العملية العسكرية الروسية داخليا ودوليا"، وما يدعم وجهة نظره، قرار تعيين وزير الثقافة الروسي السابق، فلاديمير ميدينسكي، رئيسا لوفد التفاوض الروسي مع أوكرانيا، من أجل إيصال وجهة النظر الروسية إلى الرأي العالم الدولي.
ويتفق أليكسي موخين، مدير عام مركز المعلومات السياسية بموسكو (شركة استشارات متخصصة في التحليل السياسي والعلاقات العامة)، مع الرأي السابق جزئيا، إذ يرى أن النزاع الروسي الأوكراني الغربي التاريخي الراهن نابع عن سعي الغرب لإعادة النظر في نتائج الحرب العالمية الثانية رغم أن مؤتمر يالطا الذي انعقد في ختامها أسفر عن تحديد أوروبا الشرقية كمنطقة لنفوذ موسكو المباشر.
ويترأس ميدينسكي (51 عاما) والذي تولى حقيبة الثقافة في الحكومة الروسية بين أعوام 2012 و2020، الوفد الروسي في المفاوضات مع أوكرانيا، وهو اختيار يرجعه بريوبراجينسكي إلى كون ميدينسكي مروجا شخصيا لبوتين يستطيع نقل أفكاره وتقديراته إلى الرأي العام الدولي، إذ يعتقد بأن "الحضارة التاريخية الروسية" لا حدود لها، معتبرا أن تأسيس أوكرانيا في بداية الحقبة السوفييتية جاء نتيجة لما قال إنه "قرارات تكتيكية محددة لسياسيين بعينهم في ظروف محددة".
ويعلق بريوبراجينسكي على اختيار ميدينسكي تحديدا رئيسا للوفد، قائلا في حديث لـ"العربي الجديد" من العاصمة التشيكية براغ: "تستثمر موسكو المفاوضات كفرصة للخروج من العزلة الإعلامية وتوفير منصة لأحد أبرز مؤسسي الأيدولوجيا والدعاة للنظام الحاكم للتعبير علنا عن تقديرات بوتين وأفكاره حتى يتم تناقلها عبر الصحافة الأوكرانية والدولية. أضف إلى ذلك أن ميدينسكي لديه احتراف في مجال العلاقات العامة، مما يزيد من فاعلية دوره ككبير المفاوضين الروس".
أيديولوجيا "الأوراسية الروسية الجديدة" تقوم على التوسع
ويضيف: "يعتبره بوتين مروجا شخصيا، وهو من أنشأ نظرية روسيا البوتينية الجديدة التي لا تصنف نفسها كوريثة الاتحاد السوفييتي من جانب، ولكنها تطمع في الجزء الأكبر من الأراضي السوفييتية من جانب آخر"، ويبدو القرب الكبير بين بوتين وميدينسكي في إشادته بالمقدمة التاريخية المطولة التي أدلى بها الرئيس الروسي قبل إعلانه عن الاعتراف باستقلال "جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين" المعلنتين من طرف واحد شرق أوكرانيا، إذ وصفها بأنها تثبت استمرارية "الحضارة التاريخية الروسية" والتي لا حدود لها بحسب الرواية الجديدة للكريملين.
ويعمل ميدينسكي معاوناً للرئيس الروسي بعد استقالة حكومة رئيس الوزراء السابق دميتري مدفيديف في يناير/كانون الثاني 2020، وقبل بروز اسمه على الساحة الدولية بهذه القوة أثناء الأزمة الراهنة، رصد تقرير صدر عن المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية الذي يعرف نفسه كمؤسسة عالمية رائدة لدراسة قضايا الأمن الدولي والمخاطر السياسية والنزاعات العسكرية، بضع شخصيات أخرى كان لها دور محوري في تأسيس أيديولوجيا "العالم الروسي" و"الأوراسية الروسية الجديدة"، ومن بينها المستشار السابق للرئاسة الروسية، فلاديسلاف سوركوف، والذي تولى الملف الأوكراني في الكرملين حتى عام 2020، وروج أن روسيا عادت إلى حالة دولة عظمى "تزداد حجما وتجمع أراضي الشعوب".
كما تطرق التقرير إلى شخصية المفكر الروسي، ألكسندر دوغين، الذي توقع في أحد أعماله "إنشاء الإمبراطورية الأوراسية الجديدة على مبدأ العدو المشترك، أي رفض الأطلنطية وعدم السماح بهيمنة القيم الليبرالية".
الرد الأوكراني على الرواية الروسية
رصد معد التحقيق عبر أرشيف صحيفة "فزغلياد" الإلكترونية الموالية للكرملين مجموعة من المقالات والحوارات حول تاريخ أوكرانيا تشكك في استقلاليتها التاريخية كدولة حتى قبل الغزو. ويقر أليكسي موخين، بأن المواجهة الروسية الأوكرانية الغربية الراهنة ليست سياسية وعسكرية واقتصادية فحسب، وإنما أيضا تاريخية. ويقول موخين في حديث لـ"العربي الجديد": "بالطبع، هذا بالدرجة الأولى نزاع تاريخي، إذ تسعى الدول الغربية لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وكأن مؤتمر يالطا لم ينعقد".
ويتساءل باستغراب: "هل يريدون إلغاء نتائج الحرب العالمية الثانية؟". ويقلل من أهمية المزاعم الغربية بأن النظام العالمي قد تغير بعد هزيمة موسكو في "الحرب الباردة" وتفكك الاتحاد السوفييتي، مضيفا: "لم ينعقد في ختام "الحرب الباردة" مؤتمر يالطا آخر حتى يثبت نتائجها، ولذلك نعيش وفق النظام العالمي القائم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وتأسيس الأمم المتحدة".
لكن الإعلامي الأوكراني، فيتالي بورتنيكوف يشكك في دقة براهين بوتين لتبرير غزو أوكرانيا واستعماله لرؤيته لحقائق التاريخ، مستبعدا عودة الاتحاد السوفييتي نظرا لعدم توفر أيديولوجيا الحزب الشيوعي التي كانت توحده.
ويقول بورتنيكوف في إفادته لـ"العربي الجديد": "في خطابه المؤرخ بـ21 فبراير/شباط، أطلع بوتين المشاهدين بشكل مفصل على تاريخ إقامة الاتحاد السوفييتي والخلاف بين زعيم ثورة البلاشفة، فلاديمير لينين، وجوزيف ستالين، حيث أراد الأخير إضفاء البعد ذاتي الحكم على جمهوريات الاتحاد السوفييتي، على عكس لينين الذي دافع عن فكرة الجمهوريات المستقلة ضمن تشكيلة الاتحاد السوفييتي". ومع ذلك، يعتبر أن بوتين يخادع، مضيفا: "كان لينين وبعده ستالين على ثقة في أن حزب البلاشفة الموحد سيكون هو السلطة في جميع الجمهوريات السوفييتية وحتى روسيا نفسها، وكان هذا هو الرابط الذي أتاح إعادة توحيد الأراضي المشتتة لإمبراطورية قياصرة آل رومانوف".
وثيقة مسربة تكشف عن محددات الدعاية الروسية بشأن حرب أوكرانيا
ويرى أن بوتين يسير على خطى لينين، قائلا: "يريد بوتين استعادة ما لا يمكن استعادته، أي اتحاد سوفييتي بلا حزب شيوعي، وربما يسير على خطى لينين دون أن يدرك ذلك، إذ قام لينين نفسه أولا بتصفية خصومه داخل روسيا ثم بالدول التي أخضعها مع تسليم السلطة للموظفين الحزبيين وليس حتى للنخب الموالية. ولكن هؤلاء الموظفين لم يكونوا "مسلحين" بالولاء للقادة فحسب، وإنما أيضا بالأيديولوجيا".
ويتساءل "لماذا يعتبر بوتين أنه سيحول أوكرانيا إلى دولة تشبه روسيا أو بيلاروسيا بعد إلقاء القنابل عليها وترويعها ونزع سلاحها؟"، مرجعا هذه الثقة المفرطة لدى بوتين إلى اعتقاده أنه يمكن تسوية أي مشكلات بـ"استخدام للقوة مدعوم بحجج منطقية"، وخلص إلى أن العملية الخاصة لـ"ترميم" الاتحاد السوفييتي لن تؤدي إلا إلى انهيار النظام الاستبدادي الروسي نفسه"، وفق توقعاته.