استمع إلى الملخص
- **أسباب الأخطاء التشخيصية**: تعود إلى تشابه أعراض الأمراض، تكاليف الإجراءات الصحية، وضغط شركات التأمين. عدم وجود بروتوكول واضح للتشخيص يزيد من احتمالية الأخطاء، حيث يعتمد الأطباء على مهاراتهم الشخصية.
- **التبعات القانونية والمالية**: يعاني المتضررون من صعوبة في إثبات الأخطاء الطبية قانونياً، مما يعقد الحصول على تعويضات. يموت سنوياً نحو 795 ألف أميركي أو يصابون بإعاقة دائمة بسبب التشخيص الخاطئ.
يوثق التحقيق أسباب نمو الأخطاء التشخيصية في نظام الرعاية الصحية الأميركي، لدرجة أن قرابة 800 ألف يموتون أو يصابون بإعاقة دائمة في كل عام، جراء محاولات تقليل التكلفة إلى الحد الأدنى المقبول من شركات التأمين.
- عانت العشرينية الأميركية من أصل سوري، ميرا الأسعد، خلال الشهر السادس من حملها، آلاماً عنيفة في البطن لم تعهدها من قبل، وتوجهت على أثرها إلى قسم الطوارئ في مستشفى إينوفا للنساء Inova women’s hospita بمدينة فيرفاكس، في ولاية فيرجينيا، وهناك أبلغها الأطباء بعد التشخيص الأولي وإجراء فحص بالموجات فوق الصوتية للجنين، أن الآلام سببها مضاعفات الحمل، وعليها الراحة التامة مع تناول مسكنات ليوم أو اثنين.
لم ينته الألم، بل حاولت الأسعد التعايش معه حتى بات أكثر حدّة، ومن ثم كانت تذهب إلى المستشفى مرات عديدة، كما تقول لـ"العربي الجديد"، موضحة أن الحالة تكررت معها ست مرات، والغريب أن الألم لم ينته بعد ولادة طفلها، ما أجبرها على الخضوع لفحوص أكثر دقة في إبريل/نيسان عام 2023، وهذه المرة جرى تشخيصها عبر الأشعة المقطعية وبالمنظار، وتبين وجود نزيف في المعدة يتطلب تدخلاً جراحياً عاجلاً لوقفه، وبالفعل وافقت على إجراء العملية، لكنهم اكتشفوا عقب شقّ بطنها عدم وجود أي نزيف، بل كانت الآلام نتيجة انفجار الزائدة الدودية، وهنا فقط عرف الأطباء السبب الرئيسي لمعاناتها.
وتمثل حالة الأسعد علامة على ما تصفه، منصة القمة العالمية للحكومات (تعمل على تقييم الأداء الحكومي وتستشرف مستقبله)، بـ "متاهة النظام الصحي الأميركي" التي لا تحظى بإعجاب أحد، وذكرت في ورقة منشورة عام 2017، بأنه بالرغم من مساهمة القطاع بحوالي 17% من الناتج المحلي الإجمالي، فإنه يعاني من مشكلات التكاليف المرتفعة، والجودة المتدنية، وتعويضات التأمين، والمدفوعات المشتركة المربكة حتى بالنسبة للخبراء، والفجوة المتزايدة بين الأغنياء والفقراء.
حجم الظاهرة وخطورتها
يقع 7.4 ملايين مريض سنوياً من أصل 130 مليون حالة تصل إلى أقسام الطوارئ، ضحية لأخطاء التشخيص بالمشافي الأميركية، ويعاني 2.6 مليون من بينهم آثاراً صحية سلبية، لكنهم أفضل حالاً من 370 ألفاً تنتكس حالتهم بسبب الآثار الأكثر خطورة، وفق ما تكشفه دراسة بعنوان: "الأخطاء التشخيصية في أقسام الطوارئ"، التي أجرتها وكالة الرعاية الصحية للبحث والجودة التابعة لوزارة الصحة والخدمات الإنسانية في عام 2022.
7.4 ملايين مريض يُشخصون بشكل خاطئ سنوياً
ويُعرّف الخطأ التشخيصي على أنه الوصول إلى نتيجة طبية غير صحيحة، وقد تؤدي إلى إيذاء المريض بدلاً من علاجه، وينتج عن تقييم الحالة بشكل غير دقيق، ويشمل كذلك إعطاء المريض أدوية غير مفيدة لحالته، أو تتعارض مع حالته الصحية، إذ إن الأدوية المخصصة لعلاج مشكلة ما ليست بالضرورة صالحة لكل المرضى الذين يعانون منها، وكذلك إجراء جراحة استناداً إلى تقييم تشخيص غير دقيق، وقد تقع الأخطاء أيضاً لدى الإخفاق في إيصال معلومة معينة للمريض أو لذويه أو لمن يقومون على رعايته مثل طاقم التمريض، بحسب توضيح سوزان إل، طبيبة الأورام في مستشفى جونز هوبكنز الجامعي.
ومن وجهة نظر فنية وعملية، يُرجع اختصاصي أمراض الدم والأورام، الذي يعمل في عيادته الخاصة بمدينة الإسكندرية Alexandria بولاية فيرجينيا، دينس ديبرنسك، أسباب وقوع الطبيب في أخطاء التشخيص، إلى تشابه أعراض بعض الأمراض، مثل الالتهابات، ومنها الجيوب الأنفية والجلدية، وكذلك مرض Lyme الذي تسببه بكتيريا البوريليا، ومرض الذئبة الحمراء lupus الذي يؤثر الالتهاب الناجم عنه بالعديد من أجهزة الجسم، لكن احتمالية وقوع الطبيب في تشخيص خاطئ تتضاءل مع تطور المعرفة والخبرة، والتقدم في تقنيات التشخيص، كما يقول ناصحاً زملاءه بالحصول على رأي آخر إذا كانت حالة المريض تحتاج لعلاج طويل ومكلف، على حد قوله، تجنباً للوقوع في الخطأ.
ويترتب على ما سبق اختيار الطبيب لوصفات طبية خاطئة قد تهدد حياة المريض وفق ما لاحظه الصيدلي كريج كافاديس، والذي يدير صيدلية في العاصمة، مشيراً إلى رفضه صرف دواء لمريضة، رغم أن الوصفة كانت موقعة من طبيبة، لكنها أخطأت في كتابة اسم الدواء الذي تتناوله المريضة منذ أعوام لتنظيم ضغط الدم، كما أوصت لها بجرعة خاطئة، ما أثار مخاوفه من وقوع خطأ تشخيصي، ليطلب من المريضة جلب وصفة أخرى.
البحث عن المال
يفاقم عدم وضع بروتوكول واضح ومحدد للتشخيص من الوقوع في الأخطاء، وهي مسؤولية الجهات الطبية الرسمية، إذ إن المتبع في الفحص هو الاعتماد على مهارات الطبيب التي يكتسبها من دراسته وخبرته، ومعظم الأطباء يطبقون أسلوباً يسمى A differential diagnosis، ويتمثل باستبعاد مسببات المرض الذي يكون علاجه أكثر كلفة أولاً، والبدء بتتبع الأعراض التي لا تتطلب إجراءات طبية أو فحوصاً عالية التكلفة، بحسب ما تجمع عليه مصادر التحقيق، ومن بينهم البروفيسور وجراح العظام طوني تنوري، رئيس قسم جراحة العمود الفقري في مركز بوسطن الطبي، الذي يوضح لـ"العربي الجديد" كيف تلعب تكاليف الإجراءات الصحية دوراً في التشخيص الخاطئ، إذ يبدأ الأطباء في كثير من الحالات بإجراء تقييم سريري شامل، وأخذ التاريخ الطبي للمريض، قبل اللجوء إلى اختبارات أكثر تكلفة، وغالباً ما يجري اتباع هذا النهج لتحسين "موارد الرعاية الصحية وتجنب التكاليف غير الضرورية"، خاصة إن رفضت شركات التأمين الصحي الموافقة على تغطية الفحوصات عالية القيمة، واشتراطها البدء بإجراء فحوصات قليلة التكلفة، وهنا يضطر الأطباء لاستخدام خبراتهم السريرية، وإجراء تقييمات أولية، بناءً على الأعراض التي يمكن ملاحظتها وتاريخ المريض، وفي حال أثار التقييم الأولي مخاوف أو ظل التشخيص غير واضح، يمكن للطبيب أن يوصي بإجراء اختبارات أكثر دقة، وإن كانت مكلفة، قائلاً إن هذا النهج يساعد على ضمان استخدام الموارد الطبية بكفاءة.
التقييم السابق يتطابق مع النتائج التي توصلت إليها ورقة بحثية منشورة على الموقع الإلكتروني لجامعة جونز هوبكنز، في 4 مايو/أيار 2016، بعنوان: الأخطاء الطبية هي السبب الرئيسي الثالث للوفاة في الولايات المتحدة، وخلصت إلى أن "الأخطاء الطبية لا تقع لأن الأطباء سيئون، بل إن معظم الأخطاء متعلقة بالنظام ككل، بما في ذلك سوء تنسيق الرعاية الصحية، وشركات التأمين، وغيرها من البروتوكولات، بالإضافة إلى الاختلاف غير المبرر في أنماط عمل الأطباء، وغالباً لا يخضع عملهم إلى المراقبة والمساءلة".
795 ألف أميركي ضحية التشخيص الخاطئ
يتحمّل المريض تبعات التشخيص الخاطئ، ومنها تأخير العلاج، وتطور حالته للأسوأ، وقد يصل الأمر إلى مراحل أخطر بإجراء جراحة لا داعي لها، أو إعطاء أدوية غير ضرورية يكون لها تبعات سلبية على نفسية المريض، وعلى وضعه الصحي، إلى جانب تأثير ذلك في نظام الرعاية الصحية بأكمله، كونه يسبب ضغطاً على الموارد المادية والبشرية، وفق ما لاحظته الطبيبة سوزان إل.
وكان والد الطبيبة ضحية التشخيص الخاطئ، وتقول لـ"العربي الجديد": "وصف طبيبه الدواء بعد تشخيصه بمرض Disuse syndrome أي ضمور العضلات، بينما كان يعاني في الحقيقة من مرض الشلل الرعاش المعروف بداء باركنسون، وهو اضطراب في الجهاز العصبي نتيجة تدهور خلايا الدماغ المسؤولة عن إنتاج الدوبامين، وكلا المرضين يسببان تيبساً في العضلات وبطئاً في الحركة"، ونتيجة ذلك تناول والدها أدوية خاطئة لعدة أشهر، ما تسبب بزيادة ارتعاش يديه، وفقدانه الاتزان الحركي.
وقد يكون التشخيص غير الدقيق سبباً في فشل التدخل الجراحي المعتمد عليه، كما يوضح طبيب الأورام إيڤن ساييد، والذي يدير عيادته الخاصة في مقاطعة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا، موضحاً الأمر بقوله إن التشخيص السريري يقدر الحالة المرضية في بعض الحالات بصورة معينة، ولدى إجراء الجراحة يتضح أن الوضع أسوأ مما تبين أثناء التشخيص بناء على الأشعة أو تقديرات الطبيب، لذلك يعتمد نجاح الجراحة على مهارة الجراح والطاقم المساعد والرعاية بعد العملية ومدى استجابة المريض للجراحة والأدوية.
ويموت سنوياً نحو 795 ألف أميركي، أو يصابون بإعاقة دائمة، جراء أخطاء التشخيص، وتصدرت الجلطات الدماغية قائمة الأمراض التي تدخل ضمن هذا التصنيف، وتؤدي إلى أضرار جسيمة. كما أن ثلاثاً من كل أربع حالات تشخيص خاطئة تحدث لأشخاص يعانون مما يسمى "الثلاثة الكبار"، وهو مصطلح يشير إلى الجلطات القلبية والالتهابات والسرطان. وعلى وجه التحديد، فإن الأمراض الأكثر شيوعاً التي تؤدي إلى الوفاة أو العجز، بسبب التشخيص الخاطئ، هي الالتهاب الرئوي، والجلطات، وسرطان الرئة، بحسب دراسة تأثير الأضرار الجسيمة الناجمة عن الخطأ التشخيصي في الولايات المتحدة بالصحة العامة، التي أعدها فريق مشترك من مركز معهد جونز هوبكنز أرمسترونغ للتميز ومؤسسة إدارة المخاطر التابعة لجامعة هارفارد، ونشرت في مجلة BMJ Quality & Safety (تتبع مؤسسة The Health Foundation) بتاريخ 21 يوليو/تموز 2023.
هل يحصل المتضرر على حقوقه؟
استشارت الأسعد محاميها لمقاضاة المشفى، جراء التشخيص الخاطئ المتكرر لحالتها، لكنه رفض وتذرع بصعوبة إثبات الأمر. ومن وجهة نظر قانونية، يوضح المحامي تريسي جوني، الذي يعمل في مكتبه بمدينة دالاس جنوب البلاد، أن :"آثار الأخطاء الطبية، سواء كانت تشخيصات خاطئة، أو إهمالاً في العلاج، وكذلك إعطاء وصفات علاجية خاطئة، قد تكون ظاهرة للعيان، لكن يصعب إثباتها من الناحية القانونية، ففي حالة الأسعد يمنع البروتوكول الطبي تعرّض الحوامل لأشعة رنين أو أشعة مقطعية حفاظاً على صحه الأم والجنين، كما أن العديد من الأطباء يرفضون إبداء الرأي في عمل زملائهم عندما يتعلق الأمر بسيدة حامل، نظراً لصعوبة تشخيص الأمراض في منطقة البطن وصعوبة رؤية أعضاء الجهاز الهضمي بالأشعة التلفزيونية فقط، ناهيك عن أن الكثير من أعراض أمراض الجهاز الهضمي تبدو وكأنها آلام ناتجة عن الحمل"، وبسبب تلك النقاط صار يرفض العديد من قضايا الإهمال الطبي، خاصة في حالة السيدات الحوامل.
795 ألف أميركي يموتون أو يصابون بإعاقة دائمة بسبب الخطأ التشخيصي
كما أن إثبات خطأ التشخيص أو الإهمال يحتاج إلى "عملية معقدة ودقيقة لجمع أدلة كثيرة، قد لا تتأتى إلا بأمر محكمة، والاستعانة بأطباء ذوي خبرة طويلة"، وفق خبرة المحامي جوزيف ناردو، المتخصص في قضايا الإهمال الطبي، والذي يدير مكتبه الخاص في مدينة نيويورك، موضحاً أن توقيت الإجراء الطبي في هذه القضايا مهم أيضاً، لأنه مع التقدم العلمي قد نجد أن ما جرى قبل عدة سنوات بات يصنف باعتباره أمراً خاطئاً أو إجراء غير متبع في الوقت الحاضر، كذلك يختلف الأمر من ولاية لأخرى.