لم تنخفض نسب الوفيات بسرطان الثدي بين الأردنيات منذ تأسيس برنامج حكومي لمكافحة المرض الذي يحتل المرتبة الأولى بين السرطانات الأكثر شيوعاً، ما يكشف أن إجراءات التوعية التي يركز عليها البرنامج محدودة الفاعلية.
-يصف الطبيب موسى الرياشات، رئيس جمعية أصدقاء مرضى السرطان في عمّان، الإجراءات المتخذة في سبيل تخفيض الوفيات بسرطان الثدي ومكافحته بـ"غير الكافية"، معللاً ذلك بعدم تسجيل انخفاض في عدد الوفيات بالمرض الذي يحتل المرتبة الأولى بين السرطانات الأكثر شيوعاً بين الأردنيين، خلال السنوات العشر الماضية، "وهذا يعدّ إخفاقاً في ظل وجود برنامج وطني موجه لتخفيض نسب الوفيات بهذا المرض، وهو البرنامج الأردني لمكافحة سرطان الثدي"، على حد قوله.
وتثبت إحصائيات السجل الوطني للسرطان التابع لوزارة الصحة الأردنية، أن نسبة الوفاة بسرطان الثدي بين السيدات المصابات سنويا تتراوح بين 10% إلى 12% من إجمالي الإصابات الجديدة المسجلة كل عام، وتصل نسبة الوفاة بين جميع النساء المصابات في شتى الأعوام إلى 24%، ولم تنخفض تلك النسب منذ عام 2008 وحتى 2016، وهو آخر عام تتوافر إحصائياته، وفقاً للدكتور عمر النمري، مدير السجل الوطني للسرطان، الذي أوضح أن تحليل البيانات يتطلب وقتاً طويلاً ويتأخر إعلانها.
وبلغ عدد الحالات المصابة بسرطان الثدي، 1174 حالة في عام 2014، وكانت 1145 حالة في 2015، بينما ارتفعت إلى 1263 حالة عام 2016، وفق بيانات السجل الوطني للسرطان.
وتُشخَّص سنوياً 1000 إلى 1200 سيدة بهذا المرض، بحسب مديرة البرنامج الأردني لمكافحة سرطان الثدي، الدكتورة ريم العجلوني، التي تشير إلى أن إجمالي نسبة سرطان الثدي مقارنة بسرطانات النساء يشكل 40%.
ما مهام البرنامج؟
عام 2007، أسست وزارة الصحة الأردنية برنامج مكافحة سرطان الثدي، بالشراكة مع مركز الحسين للسرطان (غير حكومي وغير ربحي)، وكان الهدف الأساسي من تأسيس البرنامج، تقديم خدمات الكشف المبكر عن سرطان الثدي، من أجل تخفيض معدلات الوفيات الناتجة من هذا المرض، من طريق الانتقال من تشخيصه في مراحله المتأخرة (الثالثة والرابعة)، إلى تشخيصه في مراحله المبكرة (صفر - الثانية)، إذ تكون فرص الشفاء ومعدل النجاة أعلى، وتكاليف العلاج أقل، كما جاء على الموقع الإلكتروني للبرنامج.
وبحسب النمري، فإن وزارة الصحة أطلقت البرنامج وفق بروتوكولات داخلية ودلائل إرشادية، ولا يوجد قانون أو نظام خاص به. ومن ضمن مهام البرنامج الأساسية، نشر الوعي بضرورة الفحص المبكر للثدي، وتحسين إمكانية توافر خدمات الكشف المبكر وإمكانية الوصول إليها في جميع أنحاء الأردن، ولا سيما المناطق النائية وغير المخدومة، وتحسين تعليم وتدريب مقدمي الرعاية الصحية، من أجل تحقيق الهدف بتخفيض نسب الوفيات بسرطان الثدي.
لكن تحقيق "العربي الجديد" يوثق أن العقبات التي تواجه السيدات اللواتي يستجبن للحملات التوعوية ويتوجهن لإجراء الفحص المبكر تشكل عوامل طاردة تحول دون تحقيق الهدف من نشر الوعي والتثقيف الصحي حول ضرورة الفحص، وأبرزها عدم مجانية الفحص، وارتفاع تكلفته في المؤسسات الصحية الخاصة، بالإضافة إلى إجراءات الفحص الطاردة في المشافي العامة، وضعف الخدمة في مناطق نائية، أو محافظات ذات كثافة سكانية عالية ومرافق محدودة.
إحجام عن الفحص
ترمي الحملات التوعوية التي ينفذها البرنامج الأردني لمكافحة سرطان الثدي بقيادة مركز الحسين للسرطان، وبالتعاون مع وزارة الصحة، إلى التثقيف بفحوصات الكشف المبكر وتشجيع السيدات بعد سنّ الأربعين على إجرائها سنوياً، وخاصة فحص الماموغرام (من أنواع صور الأشعة السينية)، إلى جانب الفحوصات المساعدة، كالفحص الذاتي شهرياً، وإجراء الفحص السريري عند الطبيب مرة سنوياً، بهدف اكتشاف المرض مبكراً، وفقاً للعجلوني، التي توضح أن البرنامج يكثف نشاطاته التوعوية في شهر أكتوبر/ تشرين الأول، شهر التوعية العالمي سنوياً بالمرض، لكن لا يعني ذلك أن نشاطات التوعية تتوقف على مدار العام، بل تبقى مستمرة، حسب قولها.
وعلى الرغم من أهمية تكوين الوعي على أهمية الفحص المبكر لمحاربة المرض، لكن الأمر يحتاج إلى تهيئة البيئة التي تساعد السيدات على ترجمة وعيهن إلى أفعال، وفقاً للرياشات الذي يؤكد أن 60% من الأردنيات أصبح لديهن الوعي بأهمية إجراء الفحص المبكر، لكنهن لا يقمن بالفحص.
هذا ما تكشفه نتائج مسح السكان والصحة الأسرية لعامي 2017 و2018 بأن 21% فقط من النساء المتزوجات في الأردن أجرين فحوصاً ذاتية أو متخصصة لسرطان الثدي، خلال الأشهر الـ12 السابقة على المسح، فيما خضعت 9% منهن فقط لتصوير ماموغرام.
وتتطابق نتائج المسح مع استطلاع رأي غير قياسي أجرته معدة التحقيق، شمل 100 سيدة، وكانت إجابة 76 سيدة من اللواتي شملتهنّ العينة، بأنهن لم يجرين أي فحص شعاعي للثدي (ألتراساوند أو ماموغرام)، بينما بلغ عدد من أجرينه 24 سيدة فقط، 15 منهن أجرينه في مركز أو مشفى خاص، و9 سيدات في مشفى حكومي.
كلفة باهظة
أجابت 77 سيدة شاركن في الاستطلاع بأنهن لم يجرين الفحص، 15% منهن لم يقمن به لأسباب مادية، فهنّ لا يمتلكن تأميناً صحياً، و41% منهنّ لم يجرين الفحص لعدم وجود أعراض، وكان السبب لدى 13% أن المشافي التي يتوافر فيها الفحص بعيدة عن مكان إقامتهن.
وتتراوح تكلفة الفحص في مراكز الأشعة والمشافي الخاصة بين 35 إلى 40 ديناراً (50 و57 دولاراً)، وفق ما وثقته معدة التحقيق في 6 من تلك المشافي والمراكز، وتجري بعضها خصومات رمزية في أثناء حملة التوعية في أكتوبر من كل عام، وهو ما تعتبره العجلوني ثمرة تشبيك البرنامج الأردني مع المؤسسات الصحية المختلفة، وحثها على تشجيع السيدات على فحص الماموغرام.
وما زالت محدودية القدرة المالية تشكل عائقاً رئيسياً أمام إجراء الفحص، وهو ما لم يسمح للأربعينية أمينة نور المقيمة في العقبة جنوبيّ الأردن، بتغطية تكاليف الماموغرام، قائلة: "ليش أضل أدفع طالما ما عندي أعراض غريبة، وخاصة ما عندي تأمين صحي؟".
وتشير العجلوني إلى وجود عيادتين متنقلتين تابعتين للبرنامج، تستقران لمدة 6 أشهر في مناطق غير مخدومة بالفحوص الإشعاعية، وخاصة الماموغرام، وتقدم خدماتها مجاناً للسيدات في المناطق الأقل حظاً من غير المؤمنات فقط، أما التي تمتلك تأميناً صحياً، فعليها التوجه إلى مشفى يؤمن لها الفحص، وقد يكون أقرب مشفى في محافظة أخرى، ما يحتم عليها الانتقال لمسافة طويلة وانتظار دور أطول، وفقاً لما وضحته نور.
إجراءات طاردة في المشافي العامة
تتوافر وحدات الماموغرام في 26 مشفىً و8 مراكز صحية تابعة لوزارة الصحة الأردنية، وفقاً للعجلوني، مؤكدة أن الفحص السريري، والماموغرام والألتراساوند (فحص بواسطة الأمواج فوق الصوتية) متاحة فيها مجاناً للمؤمَّنات، وغير المؤمَّنات يحصلن على الفحص مقابل 5.5 دنانير (8.46 دولارات)، بالإضافة إلى مبلغ دينارين (2,82 دولار) كشفية للعيادة التي تجري التحويل على قسم الأشعة.
لكن إجراءات الفحص الطويلة طاردة لطالبي الخدمة في المشافي العامة، بسبب المواعيد البعيدة التي تحصل عليها السيدة لإجراء الفحص، وفقاً لما وثقته مُعدّة التحقيق في تجربتها لإجراء الفحص الوقائي في مشفى الجامعة الأردنية في عمان، إذ حصلت على موعد في العيادات الخارجية التابعة للمشفى عقب 20 يوماً من طلبها، ثم أحيلت على قسم الأشعة في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، الذي حدد لها موعداً لإجراء ألتراساوند للثدي في 27 إبريل/ نيسان 2020.
وتقرّ العجلوني بالتحديات الكبيرة التي تواجه مكافحة سرطان الثدي، أبرزها الضغط الكبير على مشافي وزارة الصحة التي تُعَدّ أكبر مزود لخدمة الماموغرام، قائلة: "نحن نعلم بذلك، لكن نحاول تذليل العقبات في حدود المستطاع".
الماموغرام ضرورة
على الرغم من أهمية إجراء الفحص الذاتي، والفحص السريري عند الطبيب سنوياً لرصد أي تغييرات أو أورام في الثدي بشكل مبكر، إلا أن الفحص الذاتي أو السريري لا يكون مجدياً في حال كانت أورام الثدي صغيرة أو عميقة، ما يفرض ضرورة إجراء فحص الماموغرام مرة سنوياً للسيدات اللواتي بلغن الأربعين، بحسب تأكيد العضو المؤسس في البرنامج الأردني الدكتورة يسار قتيبة، مديرة وحدة الكشف المبكر في مركز الحسين للسرطان.
وهو ما حدث مع ميس برماوي، التي تخضع للعلاج منذ أغسطس/آب 2016، بعد أن تم تشخيصها بسرطان الثدي في يونيو/حزيران من العام ذاته، وبيان فايز، التي اضطرت لاستئصال الثدي بالكامل بسبب وصول الورم إلى مرحلة متقدمة لدى اكتشافه عام 2016، واستمرت على العلاج حتى شفيت منه، واللافت أن كلتيهما كانتا ملتزمتين بالفحص الذاتي بشكل دوري، لكنهما لم تلحظا أي تغييرات، ولم تجريا الماموغرام إلا في مرحلة ظهور الأعراض، حينها كان الورم في المرحلة الثالثة.
وتؤكد قتيبة أن مئات السيدات يصبن بسرطان الثدي دون ظهور أي أعراض حتى مراحل متأخرة، ما يجعل الماموغرام ضرورياً للوصول إلى نسب وفيات أقل بالمرض، ولا تنفي هي الأخرى وجود ضغط على الفحوصات في مشافي وزارة الصحة، وحصول السيدات على مواعيد بعيدة لإجرائه، مؤكدة أن الوقت يحدث فرقا إن كان لدى السيدة ورم في مراحله الأولى، فيترتب على تأجيل الماموغرام تطور الحالة، لكن الضغط الهائل على خدمات وزارة الصحة يؤدي إلى منح المريضات فعليا الأولوية لإجراء الفحوص الدورية. وتضيف: "حتى وإن كانت المواعيد بعيدة والإجراءات طويلة نشجع السيدة على جعل فحصها دوريا بعد أول مرة، لتكراره كل عام".
الافتقار إلى استراتيجية لمكافحة المرض
يرى الأمين العام للمجلس الطبي الأردني (إدارة مستقلة لتطوير الخدمات الصحية) ومدير إدارة المستشفيات بوزارة الصحة سابقاً، الدكتور مصطفى برماوي، أن مكافحة سرطان الثدي تنجح بوضع استراتيجية وطنية لمكافحة السرطان بكل أنواعه على مستوى المملكة، ورصد الموازنة اللازمة لها، مؤكداً أن توفير فحص الماموغرام للسيدات كافة، سيكون أول خطوة فعلية على طريق تخفيض نسبة الوفاة بسبب هذا المرض نتيجة الاكتشاف المتأخر.
ويوافقه الرياشات بالقول إن الأصل أن تجعل الحكومة الألتراساوند والماموغرام فحصين ملزمين عند عمر معيَّن، تماماً مثل فحوص الزواج، مع تكفلها بتوفير التسهيلات اللازمة لذلك، وجعل الفحص دورياً، وهكذا يصبح بالإمكان السيطرة على المرض.
ويرد النمري بأن توفير الفحص المجاني كان هدفاً منذ تأسيس البرنامج الأردني لمكافحة سرطان الثدي، لكن هذا لم يتحقّق حتى الآن، بسبب العوائق المالية. فوزارة الصحة تخصص ما لايقل عن 250 ألف دينار (352 ألف دولار) سنوياً للبرنامج، إلى جانب ما يحصل عليه من التبرعات والهبات. لكن الوزارة وفريق البرنامج حصلا على بعض المكتسبات في هذا المجال، كتخفيض سعر الماموغرام في مشافي وزارة الصحة، وشموله بالتأمين، والحصول على الدعم من بعض الأطباء والقطاع الخاص، وخاصة خلال شهر التوعية بحسب النمري.
وتحيل العجلوني المسؤولية على صاحب القرار، معتبرة أن الوضع الأمثل أن يكون الفحص مجانياً لكل السيدات، لكن الوصول إلى هذا الهدف بحاجة إلى تيسير فحوص الأمراض غير السارية وإتاحتها للجميع، وأن تعطى الرعاية الوقائية الأولوية، حتى لا نصل إلى مرحلة تكون فيها جميع الحالات الراقدة في المشافي متقدمة وتحتاج إلى تدخلات طبية مكلفة ومتعددة، بسبب الاكتشاف المتأخر للمرض، كما هو الحال القائم.