من عتليت إلى سدي تيمان... هل من نهاية للنسيان؟

28 نوفمبر 2024
تشابهات عديدة بين ما جرى في عتليت وما يحدث في سدي تيمان (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تتناول رواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ قضية النسيان الجماعي لجرائم الاحتلال الإسرائيلي ضد الأسرى المصريين والفلسطينيين، مسلطة الضوء على التعذيب والقتل الذي تلاشى من الذاكرة الجمعية.
- حادثة العثور على رفات جندي مصري في سيناء تبرز الجرائم الإسرائيلية ضد الأسرى عام 1967، مع توثيق انتهاكات مشابهة في مواقع أخرى، مما يعكس معاناة الأسرى المصريين والفلسطينيين.
- رغم اتفاقية السلام، لم تتابع الحكومة المصرية قضايا الأسرى بجدية، مما أدى إلى جهل الأجيال الجديدة بالصراع وحقوقهم، مؤكدة أهمية توثيق معاناة الأسرى.

آفة حارتنا النسيان كما قال الأديب الكبير نجيب محفوظ في روايته "أولاد حارتنا"، وقد يتفهم المرء ضعف الذاكرة في أحوال وقضايا هامشية لا قيمة لها، لكن الدماء لا تنسى، فما بالك إذا كانت لأسرى مصريين قتلتهم إسرائيل ونكلت بأجسادهم وجثثهم في مشاهد تكاد أن تختفي من ذاكرة المصريين الجمعية؟ ولم يعدها حتى ما جرى للفلسطينين في معتقلات مثل سدي تيمان الذي يحتجز فيه الجيش الإسرائيلي والأجهزة الأمنية أسرى قطاع غزة منذ بداية الحرب منكلاً بهم تعذيباً وقتلاً، وحرماناً من أبسط الاحتياجات الأساسية المكفولة للأسير بموجب القانون الدولي الإنساني.

لا يعرف الأحفاد شيئاً عن الأجداد، حتى إنك لتجد من يحدثك عن عدم اهتمامه بالصراع العربي الإسرائيلي وإن لا علاقه له به، ولو فتشت وراءه ستكتشف أن له جداً أو قريباً أسرته أو قتلته دولة الاحتلال، والسبب أننا مقطوعو السياق إلى درجة أن الدماء صارت ماء عند البعض، بينما الاحتلال تاريخياً لا ينسى أي أسير حياً كان أو ميتاً، ولعل قضية رون آراد الطيار الذي أسر في لبنان عام 1986 وصار مصيره مجهولاً خير دليل على ذلك الدأب وراء أي معلومة قد تمكنهم من الوصول إلى جثمانه، مثل ما حدث مع رفات الجندي الإسرائيلي خاري بوميل الذي تم العثور عليه بعدما فقد في معركة السلطان يعقوب في الحرب على لبنان في عام 1982، والتي دارت بين الجيشين السوري والإسرائيلي، وقتل فيها 30 جندياً إسرائيلياً، بينما بقي مصير 3 إسرائيليين غير معروف، ومنهم بوميل الذي أعادته دولة الاحتلال إليها في 3 إبريل/نيسان 2019، فماذا يجري على المقلب الآخر؟

في شهر يوليو/تموز الماضي عثر فريق مؤسسة سيناء الحقوقية المصرية على رفات جندي مصري يدعى فوزي محمد عبد المولى، في مدينة الحسنة شمال سيناء، وهو موقع لا يبعد كثيراً عن مكان مذبحة قام بها الجيش الإسرائيلي ضد جنود مصريين أسروا في عام 1967، كما تقول المؤسسة نقلاً عن روايات يتداولها أهالي منطقة الحسنة عبر الأجيال، إذ أطلق السكان المحليون على المكان اسم "تبة المذبح" أو "عجرة (المكان المرتفع) المذبح"، للدلالة على العدد الكبير للجنود الأسرى الذين قتلهم الاحتلال في تلك المنطقة وتقدر الروايات المحلية أعدادهم بـ 700 جندي على الأقل، قتلوا أثناء محاولتهم الانسحاب غرباً نحو قناة السويس.

هذا الموقع ليس وحيداً، بل يوجد غيره الكثير، كما وثق صحافي التحقيقات البارز يسري فودة قبل أعوام في عمل رائع من جزأين، الطريق إلى عتليت 1 و2، وعتليت بلدة في شمال فلسطين على شاطئ البحر الأبيض المتوسط جنوب مدينة حيفا، وفيها معسكر احتجز وعذب وقتل فيه المصريون. وكذلك من أهم الأعمال المكتوبة التي سجلت تلك الجرائم رواية "خطوات على الأرض المحبوسة"، للقاص والروائي محمد حسين يونس، وفيها ينطلق من تجربته الذاتية بعدما التحق بالجيش ثم أصبح الأسير رقم 51763 لدى الإسرائيليين في حرب يونيو 1967 وتناول ووثق مشاهد التعذيب على مرأى ومسمع من مجندات جئن من أجل الاستمتاع بالفرجة على الأسرى.

ما جاء في تحقيق فودة ووثقته الرواية التسجيلية ليونس، يؤكد على تشابهات عديدة بين ما جرى في عتليت وما يحدث في سدي تيمان من انتهاكات، فالجلاد لم يتغير ولا يوجد فرق كبير بين الضحايا. في النهاية هم عرب سواء كانوا مصريين أو فلسطينيين، لكن السؤال هل تملك مصر الرسمية ملفاً يضم وثائق وأدلة مادية عن حجم الانتهاكات عن أسراها في حربي 56 و67 تحديداً وما جرى فيهما من انتهاك إسرائيلي للاتفاقيات الدولية الخاصة بالتعامل مع الأسرى؟ الإجابة لا، فقد ثارت ضجة كبيرة في مصر خلال عام 2007 بعد عرض وثائقي بثته القناة العاشرة الإسرائيلية عام 2007، وكشف عن تصفية وحدة شاكيد 250 جندياً مصرياً في قطاع غزة، بقيادة بنيامين بن إليعازر (1936 - 2016)، الذي كان وزيراً أثناء عرض الفيلم، ولديه صداقات في القاهرة ووقتها أثار القضية أعضاء البرلمان من جميع التيارات السياسية الممثلة في مجلس الشعب، لذا طالبت تل أبيب بالتحقيق الرسمي فيما جاء في الفيلم، وإلى اليوم لا أحد يعرف ماذا جرى في هذا التحقيق، كما لم يستجب النظام وقتها لمطالب النواب بمقاضاة دولة الاحتلال دوليا حتى تدفع ثمن تلك الجرائم التي لا تسقط بالتقادم.

تحقيق ثان طالبت به القاهرة في عام 2022 بعد كشف المؤرخ الإسرائيلي يوسي ميلمان عن مجزرة راح ضحيتها ما لا يقل عن 20 جندياً مصرياً في حرب 1967. وقال ميلمان، في سلسلة تغريدات على حسابه في منصة إكس، إن "أكثر من 20 جندياً مصرياً أحرقوا أحياء، ودفنهم الجيش الإسرائيلي في مقبرة جماعية، لم يتم وضع علامات عليها، في مخالفة لقوانين الحرب". ووقتها أعلنت وزارة الخارجية المصرية، كذلك، عن تكليف سفارتها في تل أبيب بالتواصل مع السلطات الإسرائيلية لتقصي حقيقة المذبحة، والتحقيق في الأمر. وإلى اليوم كذلك لا أحد يعرف النتيجة، رغم أن دولة الاحتلال لديها اتفاقية سلام مع مصر ويفترض أن يتم حل مثل هذه القضايا.

لكن وإن كانت مصر الرسمية قد أشاحت بوجهها عن القضية، لماذا تناست النخب تلك الجرائم ولم تعمل على ترسيخها في الذاكرة وتعريف الأجيال الجديدة بها؟ عبر مؤسسات أهلية تخلد ذكرهم، وتروي قصصهم، وتنقل معاناتهم، فالذاكرة عدوة النسيان وعدم التذكير بهذه القضايا خلق أجيالاً لا تعرف شيئاً عن حقيقة الصراع، وحقوقها الضائعة، بالرغم من أن تلك النخب تجدها تتذكر كل هفوة وليس فقط كبوة قامت بها القوى السياسية الوطنية التي تشاركها الانتماء إلى ذات البلد أو حتى العدائيات بين التيارات المتنافسة عربياً وإسلامياً، ولا تمحوها من ذاكرتها أبد الآبدين.

الأسرى ليسوا رفاتاً، ومن يتجاهل قضيتهم محكوم عليه بأن يتكرر المصير ذاته له، وعلى الأقل إن لم نستعد حقوقهم، يجب إحياء ذكراهم في كل عام وإقامة مؤسسات تعنى بنقل ما جرى لهم إلى الأجيال المقبلة، حتى لا يصبحوا نسياً منسياً.