- ياسمين عبد الرحمن، أم غزية، تعكس معاناة الأمهات حيث فقدت رضيعها بعد 11 يومًا من الولادة بسبب الجوع ونقص الرعاية الصحية، قصة تتكرر مع العديد في القطاع.
- النقص الحاد في الأكسجين الطبي، الأدوية، والمغذيات الأساسية يفاقم من معاناة الخدج والرضع، بينما الأمهات غير قادرات على توفير الرضاعة الطبيعية، مما يزيد من تعقيد الوضع الصحي للأطفال.
تخشى 60 ألف سيدة حامل في غزة الولادة أثناء الحرب، إذ يعانين جوعا يفتك بأجساد أجنتهن، حتى أن بعضهن أجهضن أو وضعن مبكرا أطفالا أوزانهم قليلة وأجسادهم هزيلة ولا يجدن حليبا لهم أو رعاية صحية تنجيهم من الموت.
- نزحت الثلاثينية الغزية ياسمين عبد الرحمن إلى جنوب القطاع في مارس/آذار الماضي بعد أيام قليلة من وفاة رضيعها الذي لم تدم أنفاسه سوى 11 يوما فقط، إذ ولد بعد أربعة أشهر من جوع شديد، حتى وصل بها الحال في فبراير/شباط الماضي إلى أن قضت أكثر من 30 ساعة متواصلة دون أي طعام رغم كونها في الشهر الأخير من الحمل وتحتاج إلى تغذية خاصة من أجل جنينها.
وبلغ وزن مولود عبد الرحمن 1.2 كيلوغرام، وعانى جفافاً شديداً، ما استدعى إبقاءه تحت المراقبة المكثفة في قسم الأطفال الخدج بمستشفى كمال عدوان شمال القطاع، لكنه توفي بعد أسبوع واحد، بسبب عدم توفر ما يلزم لإبقائه على قيد الحياة، كما تقول باكية: "أخبرني الأطباء بعدم توفر الحليب، والمحاليل، والكثير من الأدوية اللازمة ولم يكن ابني الوحيد بل شاهدت عددا كبيرا من المواليد الجدد في حال مشابهة، وبعضهم توفي بالتزامن معه أو قبله".
وتوفي 30 طفلاً في مستشفيات شمال القطاع، من بينهم 23 في مستشفى كمال عدوان، ونصفهم من حديثي الولادة، بالإضافة إلى وفاة عشرة آخرين في مناطق وسط وجنوب القطاع بسبب المجاعة، حتى بداية شهر إبريل/نيسان الماضي، وفق إفادة المتحدث باسم وزارة الصحة، الدكتور أشرف القدرة والذي يؤكد أن ما تم توثيقه لا يعكس الصورة الكاملة بسبب صعوبة إجراء حصر دقيق للوفيات بين حديثي الولادة، إذ توفي عدد كبير منهم في المنازل، وداخل غرف طبية في المناطق السكنية.
زيادة حالات الإجهاض والولادات المبكرة
يولد شهريا نحو 4500 طفل في القطاع، ومنذ بدء الحرب وحتى منتصف إبريل الماضي، رصدت وزارة الصحة زيادة ملحوظة في حالات الإجهاض والولادات المبكرة، كما يقول الدكتور القدرة، في إفادته لـ"العربي الجديد"، وتفاقم الأمر خلال الأشهر الثلاثة الماضية كما تزايدت حالات النزيف، وانفصال المشيمة، بنسبة 25%، وهو ما رصده استشاري أمراض النساء والتوليد في مستشفى الهلال الإماراتي (حكومي) في رفح جنوب القطاع، الدكتور عمر أبو محسن، معيدا ذلك إلى سير آلاف الحوامل مسافات طويلة بالإضافة إلى قيامهن بجهد هائل تواصل عدة ساعات، إذ حملن أشياء ثقيلة وقمن بأعمال شاقة وحرمن من الراحة، والعناية الصحية خلال النزوح، بالإضافة إلى انتشار الاضطرابات النفسية والخوف والقلق، وهو سبب مهم لحدوث الإجهاض والولادات المبكرة.
%25 نسبة الزيادة في حالات الإجهاض والولادات المبكرة وانفصال المشيمة
ويتوافق ذلك مع ما وثقته لجنة الإنقاذ الدولية (منظمة غير حكومية مقرها نيويورك)، والتي ذكرت أن ما لا يقل عن 183 امرأة يضعن مواليدهن في غزة كل يوم، ومعظمهن لا يملكن القدرة على الوصول إلى القابلات أو الأطباء أو منشآت الرعاية الصحية، وعلاوةً على ذلك، تعاني الحوامل من بدء المخاض قبل أوانه وفقدان الأجنة بمعدل يزيد ثلاثة أضعاف عن بداية النزاع، من جراء النزوح والصدمة وسوء التغذية، بحسب ما جاء في بيان صحافي نشرته على موقعها في 2 إبريل 2024.
وغالبية هؤلاء الأطفال يولدون بأوزان قليلة، وحالات صحية متردية، وضعف شديد في المناعة بسبب انعكاسات المجاعة وسوء التغذية التي عاشتها الأمهات وباتت واضحة على مواليدهن، وهو ما يفسر امتلاء أقسام العناية في أقسام الخدج وحديثي الولادة، بحسب تأكيد كل من وسام السكني، مدير العلاقات العامة والإعلام في مستشفى كمال عدوان الحكومي شمال القطاع، والدكتور محمد سلامة رئيس قسم العناية المركزة للمواليد في مستشفى الهلال الإماراتي.
وزادت حالات ارتفاع نسب فقر الدم وضعف المناعة لدى الحوامل، وينسحب الحال على مواليدهنّ، كما يضيف القدرة مشيرا إلى تفاقم إصابات التجرثم الدموي occult bacteremia الناتج عن وجود بكتيريا في مجرى الدم عند الطفل، مع تفشي التلوث البيئي، والنقص الشديد في مواد التنظيف.
شحّ الحاضنات يهدد حياة المواليد الجدد
توجد في القطاع 60 ألف سيدة حامل، وجميعهن يتوجسن من الولادة في ظل ظروف الحرب الخطيرة وحياة النزوح المستمرة، كما يقول القدرة، وتعمل أربع وحدات عناية مكثفة للمواليد الجدد والخدج في غزة حاليا، واحدة في مستشفى شهداء الأقصى وسط القطاع، وأخرى في مستشفى كمال عدوان، ووحدتان في مستشفيي غزة الأوروبي والهلال الإماراتي، جنوب القطاع، وتستوعب جميعها نحو 50 طفلا في الوضع الطبيعي، لكن نسبة إشغالها تفوق 500%، ويجبر الأطباء على وضع خمسة وستة أطفال في حاضنة واحدة، بسبب عدم توفر المزيد، وعلى سبيل المثال توجد في مستشفى كمال عدوان شمال القطاع 14 حاضنة فقط، يوضع فيها أحياناً أكثر من 40 طفلا، وهي ما تبقى من حاضنات شمال القطاع بعد تدمير مجمع الشفاء ومستشفى الرنتيسي، ومشافٍ أخرى كانت تضم عشرات الحاضنات، كما تؤكد بيانات وزارة الصحة.
60 ألف سيدة حامل في القطاع يخشين الولادة أثناء الحرب
وأجرى معد التحقيق استطلاعا شمل 12 سيدة حاملاً، عبرت أربع منهن عن رغبتهن في التخلص من الأجنة، لخوفهن على مستقبلهم ومن أن يولد الطفل مشوهاً أو مريضاً بسبب الجوع والتلوث، ولخشيتهن من عدم القدرة على تقديم الرعاية اللازمة لهم، بينما أعربت ثمانٍ منهن عن خوفهن من تعرضهن لولادات مبكرة أو غير آمنة خلال النزوح، فيما أكدت جميع المستطلعات أن حملهن في ظل الحرب كان قاسياً وصعباً، وسط غياب الرعاية الطبية والتغذية المناسبة وانتشار الخوف والقلق والأمراض النفسية الناتجة عن الانفجارات والنزوح والتهديدات بالاجتياح وقتل العائلات.
أقسام الخدج تفتقر للمتطلبات الضرورية
يعيش العشريني عبد الله حماد في ظل قلق مؤلم، إذ يوجد ابنه في قسم الخدج بالمستشفى الإماراتي للولادة، ويعاني مشاكل صحية عديدة جراء نقص حاد في الوزن وأعراض الجفاف، بعدما نزحت زوجته مروة ست مرات خلال حملها، وعاشت في خيمة برفح، وعانت من المجاعة وسوء التغذية، ونهشها المرض، لتضع طفلها الأول مبكرا في مطلع إبريل الماضي.
وتقول الأم التي عانت نزيف ما بعد الولادة ولا تزال في مرحلة التعافي، أن ابنها يحتاج إلى فحوصات متقدمة للدم، وللسمع وفحص اعتلال الشبكية الخداجي للوقاية من المشاكل التي قد يتعرض لها من هم في حالته، وهي غير متوفرة في قطاع غزة في ظل الوضع الراهن كما أخبرها الأطباء، ما قد يسفر عن مخاطر جسيمة تهدد مستقبل الأطفال.
ويحتاج الخدج ممن يولدون في الأسبوع الـ 32 من الحمل أو قبله إلى مراقبة مكثفة منعا لانقطاع التنفس لديهم، ويتلقون دعما لضمان تشبع أكسجيني يتراوح بين 90 و95%، لذلك يتم إمدادهم بما يتراوح بين 21% هواء و30% أكسجين أثناء رقودهم في الحاضنة، وفق دليل منظمة الصحة العالمية بشأن معايير النهوض بجودة الرعاية للمواليد الصغار والمرضى في المرافق الصحية، والذي يؤكد ضرورة مراقبة حالتهم أيضا لتجنب خطر الإصابة بالتشنج القصبي الرئوي (اضطرابٌ مزمن في الرئة عندَ حديثي الولادة).
ورغم الحاجة الملحّة إلى خضوع الخدج لعناية طبية خاصة وفائقة، تفتقر مشافي الشمال إلى أي إمكانات بعد تدمير مستشفى الشفاء، ولم يبق في الشمال سوى مصدر وحيد لإنتاج الأكسجين الطبي، عبر محطة صغيرة توجد في مستشفى كمال عدوان، وهو المستشفى ذاته الذي يقدم خدمات طبية حصرية للأطفال. ويعتمد كل من مستشفيي العودة والمعمداني وكلاهما في مدينة غزة على ما تنتجه محطة الأكسجين المذكورة، إذ تمدهما بأسطوانات معبئة بالأكسجين الطبي يومياً.
لكن السكني حذر من توقف المحطة المذكورة، والتي تعمل على كهرباء ينتجها مولد صغير للتيار يعمل عن طريق السولار، والذي يصل بكميات قليلة وغير منتظمة للمستشفى بسبب الحصار والقيود الإسرائيلية، ما يزيد من مخاطر وفيات الأطفال الخدج، كما حدث في السابق، في شهر نوفمبر/تشرين الثاني، إذ استشهد 20 طفلاً في حضانات مستشفيات شمال القطاع، بعد اقتحامها من قبل الاحتلال وتوقفها عن العمل.
ويفتقر القطاع الطبي في غزة إلى حقنة الديكساميثازون DEXAMETHASONE وهي أحد الستيرويدات القشرية التي تُستخدم خلال الحمل من أجل تحفيز اكتمال رئة الجنين غير المكتملة، خاصة إذا شعر الطبيب خلال الحمل بأن حجم الجنين صغير ووزنه قليل، فيتم وصفها للأم قبل الولادة، بحسب أبو محسن الذي يؤكد أنها نادرة جدا، وهو ما يزيد من احتمال ولادة أطفال يعانون من متلازمة الضائقة التنفسية التي تؤدي إلى الوفاة.
محرومون من الرضاعة
يحتاج الخدج إلى تغذية حقنية عبر تراكيب ومقادير صحيحة في حال كانوا لا يحتملون التغذية المعوية بحسب دليل منظمة الصحة العالمية، بالإضافة إلى ضرورة إعطائهم مكملات أساسية نظرا لانخفاض وزنهم عند الولادة، لكن هذه الإمكانات ضعيفة في ما تبقى من مشافي القطاع بحسب السكني وهو ما يفاقم من سوء التغذية لدى الخدج ممن يعانون انخفاضا في الأوزان، وهؤلاء بحاجة ماسة إلى الحليب المدعّم لتعويض الوزن وهو شبه مفقود، إذ تصل كميات محدودة منه كمساعدات إنسانية، ونتيجة ذلك يتم إعطاء الأطفال الحليب التقليدي من الأنواع المتوفرة في الأسواق، ما يهدد حالتهم ويمكن أن يفقدهم حياتهم.
ويعاني الرضع عموما من شحّ حليب الأطفال، وندرة وجوده في الأسواق، إلا من بعض الكميات القليلة جدًا وباهظة الثمن والتي ارتفعت أسعار بعضها أكثر من 400%، بالإضافة إلى فقدان بعض أصناف الحليب المخصصة لفئات من المرضى مثل من يعانون حساسية اللاكتوز وفق السكني.
وما يزيد من تفاقم الأحوال، معاناة الأمهات من سوء تغذية شديد ووضع صحي صعب، فلا يتمكّنّ من الإرضاع الطبيعي، بحسب الطبيب حسام أبو صفية، مدير مستشفى كمال عدوان، الذي يصف حال الأطفال بشيء من التفصيل، قائلا إن مؤشرات سوء التغذية واضحة في الحضانات، ومن بينها الأوزان المنخفضة، والجلد المنكمش، وضعف المناعة، والجفاف الشديد، ويضيف "بعض الأطفال يأتون إلى المستشفى بعد ولادتهم بأيام وأسابيع، وهم يعانون انتفاخاً في أجسادهم، وهي أعراض تنتج عن نقص البروتين الذي يحصل عليه الطفل من خلال حليب الأم أو الحليب المصنّع المخصص للرضع، وللأسف المستشفى يعاني من نقص حاد في الحليب والمغذيات، والأدوية، ما يزيد من خطر وفاة المواليد الجدد والرضع"، ووفق أبو صفية، فإن المستشفى يستقبل يومياً ما متوسطه 50 طفلاً ممن يعانون آثار المجاعة وسوء التغذية المتفشية في القطاع، نصفهم من المواليد الجدد، وهو ما أكدته أيضا المتحدثة باسم منظمة الصحة العالمية مارجريت هاريس، بعد زيارة للمستشفى في منتصف إبريل 2024.
قتل وإبادة متعمدة
يواجه 90% من الأطفال دون سن عامين، و95% من النساء الحوامل والمرضعات، فقرا غذائيا شديدا، ما يعني أنهم استهلكوا مجموعتين غذائيتين أو أقل في اليوم السابق، والطعام الذي يمكنهم الوصول قليل جدا في قيمته الغذائية، بحسب ما جاء في تقرير مشترك صادر عن اليونيسيف ومنظمة الصحة العالمية، في إبريل الماضي، ويحذر تيد شيبان، نائب المدير التنفيذي لليونيسيف، من حدوث "انفجار في وفيات الأطفال التي يمكن تفاديها في القطاع، ما يضاعف من مستوى وفيات الأطفال الذي لا يطاق أصلا".
وأدى انسحاب وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا"، من شمال القطاع بالكامل، وإغلاق مراكزها الصحية والغذائية منذ شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إلى تجذر أزمة الحوامل والمواليد الجدد، إذ كانت عيادات الأونروا توفر الرعاية الصحية لهم، ما خلق مشكلة أعمق، أثرت على المواليد الجدد، وزادت من حالات الإجهاض والولادات المبكرة، في ظل تدمير شبه كامل للمشافي والعيادات الحكومية والخاصة، كما يقول إسماعيل الثوابتة، المدير العام للمكتب الإعلامي الحكومي في القطاع.
وتنتهك تلك الجرائم قواعد القانون الدولي الإنساني التي أقرت أحكاماً إضافية لتعزيز الحماية والرعاية والإغاثة للنساء والأطفال، بسبب تميزهم بطبيعة واحتياجات خاصة، وسهولة تعرضهم للأذى، ولأن هناك ضروباً من الأذى التي يمكن أن تلحق بهم دون غيرهم، وردت نصوص قانونية تقضي بمنع استهدافهم خلال العمليات الحربية، أو قتلهم أو نقلهم أو ترحيلهم إلى خارج المناطق المحتلة، أو المساس بشرفهم ومعتقداتهم وتقاليدهم وعاداتهم، أو امتهانهم، أو إخضاعهم للتعذيب أو المعاملة غير الإنسانية أو المس بكرامتهم الإنسانية أو استخدامهم دروعاً بشرية أو أخذهم رهائن وغيره، كما يقول الحقوقي صلاح عبد العاطي، رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني "حشد"، والتي وثقت انعكاس آثار المجاعة على الأطفال حديثي الولادة منذ الشهر الخامس من العدوان، عبر رصد عشرات الولادات لأطفال وزنهم صغير وغير طبيعي، خاصة شمال القطاع، إذ جمعت بيانات 70 حالة خلال الشهرين الماضيين (مارس وإبريل)، توفي من بينهم 20 طفلا.
ونصّت المادة 16 من اتفاقية جنيف الرابعة للعام 1949 على أن تكون هذه الفئات (النساء والأطفال) "موضع حماية واحترام خاصين"، كما نصت المادة 17 من الاتفاقية نفسها على أن "يعمل أطراف النزاع على إقرار ترتيبات محلية لنقل الجرحى والمرضى والعجزة والمسنين والأطفال والنساء النفاس من المناطق المحاصرة أو المطوقة، وأفراد الخدمات الطبية والمهمات الطبية إلى هذه المناطق"، لكن ما يجري كما يقول عبد العاطي يقدم أدلة دامغة، على ارتكاب الاحتلال جرائم القتل والإبادة الجماعية، عبر استهداف الحوامل على وجه الخصوص والمواليد وحتى الأجنة.