استمع إلى الملخص
- رواية "الحلم الرابع" لدافيد ملميد في 1986 تنبأت بديستوبيا تستشرف نهاية إسرائيل بفعل التآكل الداخلي، تعكس تحول الأدب العبري نحو استكشاف الرؤى التشاؤمية للمستقبل وتبرز أهمية الأدب في تحليل مستقبل المجتمعات.
- ترجمة "الحلم الرابع" إلى العربية في 2020 بواسطة أميرة عبد الحفيظ عمارة تسلط الضوء على الفجوة المعرفية في الترجمات العربية للأدب العبري، وتؤكد على أهمية الترجمة في فهم الآخر وتحليل التوجهات السائدة.
في عام 1892 أصدر الصحافي الروسي إلحانان ليب ليفينسكي ما يصنف على أنه أول يوتوبيا في الأدب العبري الحديث بعنوان "رحلة إلى أرض إسرائيل عام 2040 من الألف الثالث" حالما بتأسيس دولة يهودية على أرض فلسطين في أجواء مثالية للعلاقات بين الإسرائيليين وغير ذلك من الطوباويات التي يعدها المتخصصون بمثابة مخطط أولي لإقامة الدولة العبرية، إذ سبقت الرواية نشوء الحركة الصهيونية وانعقاد مؤتمرها الأول عام 1897 في مدينة بازل بسويسرا الذي وضع بالفعل خطة إقامة الدولة، بعد خمسة أعوام من نشر رواية ليفينسكي.
وكما تحققت نبوءة التأسيس والبداية، ثمة ديستوبيا تستشرف النهاية بفعل التآكل من الداخل، والغريب أنها صدرت سريعا، بعد 38 عاما فقط من إعلان الدولة في عام 1948، بقلم الكاتب الإسرائيلي دافيد ملميد والذي اختار "الحلم الرابع" عنوانا لروايته التي صاغ وقائعها المتخيلة وسردها في قصته الصادرة عام 1986، من قلب رحلة إلى المستقبل الذي نراه بأعيننا حاليا، وربما كان ذلك ليدق ناقوس الخطر ضمن موجة من أدب الديستوبيا الذي يتبنى رؤية تشاؤمية إزاء الواقع والمستقبل المنظور، ويزداد حضورا في الساحة الأدبية العبرية ما يعني أن أساسا يتيح ويسمح بتطوره، كما يقول الدكتور يحيى محمد عبد الله إسماعيل أستاذ الأدب العبري الحديث والمعاصر في كلية الآداب بجامعة المنصورة، ضمن ثنايا مراجعته المتمكنة وتقديمه المميز للرواية التي ترجمتها في عام 2020 تلميذته وزميلته الدكتورة أميرة عبد الحفيظ عمارة أستاذة الأدب العبري الحديث والمعاصر، لتقدم ترجمة رفيعة من خلال تكوينها الأدبي ولغتها الفخمة ودراستها للتراث الديني ومسارات التاريخ اليهودي على مر العصور.
بدا تميز المترجمة وتعمقها في دراسة المجتمع الإسرائيلي جليا في ملحوظتها الجوهرية بمقدمتها للرواية وسبب اختيارها، من أن الترجمات الأدبية العربية للأعمال الأدبية العبرية الروائية، ركزت على موضوعات تهتم بعلاقة اليهودي الإسرائيلي بالعرب عامة، والفلسطينيين خاصة، وانتقت على ندرتها ما كتبه إسرائيليون يهود ذوو اتجاه يساري غُلفت رؤاهم الصهيونية بقناع شبه إنساني مضلل، إلا أن بعض التيارات السياسية بوازع من الغيرة الوطنية رأت في هذه الترجمات ضربا من التطبيع، وبذلك حالت بحسن نية دون معرفة المزيد عن الكيان الغاصب، وجراء هذا المأزق وغيره من العقبات الأخرى عزفت أغلبية المترجمين عن اقتحام المجال، ما أسفر عن حالة من الفقر المعرفي الضار، بينما على الضفة الأخرى تجند إسرائيل طاقات بشرية ومادية لترجمة كل ما من شأنه أن يعينها على فهم أدق تفاصيل المجتمعات العربية ومن ذلك الأعمال الأدبية التي تعين على سبر أعماق الثقافة والفكر والتفاعلات المجتمعية، ورصد وتتبع النقاشات والمشكلات الحياتية وهو ما فعله ملميد في "الحلم الرابع" الذي يبدأ من هزيمة وتفكك إسرائيل التي تعد "الدولة الثالثة" بعد "مملكة داود وسليمان"، ثم "مملكة الحشمونائيم"، وهي الدولة الثانية للعبريين، لذا تخيل كيف ستبدو المحاولة الرابعة للنشاط الصهيوني من أجل العودة والسيطرة مجددا على فلسطين التي خسروها أو ما يعتقدون أنه وطنهم الأبدي والتاريخي، وهو ما يسمى في التراث اليهودي بثنائية "الخراب والخلاص" أي النهوض بعد كل كبوة.
هذه المرة كانت الهزيمة أو الكبوة مباغتة بشكل رهيب وسميت بـ"الخراب" و"منتهى التقصير"، و"المحرقة الثانية" كما يروي ملميد في الفصل الخامس، وهي المصطلحات ذاتها التي باتت تتردد بقوة في دولة الاحتلال منذ السابع من أكتوبر الماضي على ألسنة قادتها وجنرالاتها في مفارقة لافتة لكونها تربط ما جرى وقتها بالتقصير الكبير في مواجهة المقاومة، وهو الأمر نفسه الذي تخيله الكاتب في روايته التي ذهب فيها إلى أن قوة الردع الإسرائيلية كانت في ذروتها، واحتمال الهزيمة في أدنى درجاته، وبلغت الثقة مبلغ أن استبعدت توقعات السياسيين وتقديرات المخابرات أي احتمالية كتلك، وبالعودة إلى ما نراه حاليا نجد أن تلك التقديرات تكررت بالفعل قبل هجوم المقاومة الأخير، وما الذي يمنع تكرارها مستقبلا؟
كان الجيش مستعدا لكن الطائرات لم تقلع والدبابات لم تندفع ولم يعبّأ الاحتياط، ولم يقدم الأميركيون المساعدة ونجح العرب في إسقاط دبابات ومجنزرات وشاحنات وجنود بالمظلات سيطروا على الأرض، لكن لم تقع مذبحة وهو ما يفسره الكاتب بأنه تصرف ربما يكون قد نبع من ارتباك إزاء الانتصار غير المتوقع أو الذكاء بعد ما تعلم حكام العرب من أخطاء الإسرائيلين، ولم يستوطنوا المناطق التي بقي فيها الصهاينة أي لم يرتبكوا الجرائم ذاتها التي قامت عليها إسرائيل، لكنهم سيطروا عليها وسمحوا بالرحيل لمن استطاع إليه سبيلا، وكانت المفارقة أن ألمانيا هي التي قبلت بعودة مشروطة ومذلة كما وصفها الكاتب، مفسرا القرار بأنه ربما كان فرصة للتكفير عن جرائم الماضي وتطهير الضمير القومي، ومن ناحية اقتصادية كان ذلك فرصة لتوظيف عمالة رخيصة في مهن متدنية رفض الألمان الاشتغال بها منذ أمد بعيد، وهو تفسير رائج مع موجات اللجوء، وانتشر في ألمانيا بالفعل خلال الأعوام الماضية، لكن مع موجات لجوء وهجرة من دول أخرى، غير أن تلك الموافقة كانت محددة باستيعاب نسل مواطنيها اليهود، وتعهدات مسبقة في ما يتعلق بسلوكهم في المستقبل خلال وجودهم في المنفى كما وصفه ملميد ضمن سرديته المتخيلة بأن فلسطين المحتلة وطنه.
أما البريطانيون فرفضوا استيعاب الإسرائيليين وتذرعوا بترسبات تاريخية قديمة، وقالوا أردتم دولة؟ ألم نكن لطفاء بما يكفي لأجلكم، لم ينسوا ما فعلته بهم التنظيمات اليهودية السرية في الأربعينيات، يقصد العمليات الإرهابية التي استهدفتهم بها العصابات الصهيونية. بينما النمسا ذات التراث القديم المعادي للسامية رفضت الطلبات، وحتى فرنسا تصرفت برياء، فمن ناحية لم تبد رفضا لكن من ناحية أخرى لم يكن عدد اللاجئين الذي قبلت استيعابهم ذا أهمية، وكذا دول اسكندنافيا وأستراليا وبلجيكا وهولندا تبنت النهج الفرنسي، الأمر الذي يمكن فهمه بأن خيال الكاتب يقوم على دراسته لمعطيات الواقع أو يعبر عن مخاوفه وهواجسه.
وبينما لم تقبل أميركا عودة الإسرائيليين كذلك يفسر الكاتب موقفها مما جرى وعدم نجدتها للصهاينة، أنها كابدت طوال سنوات مشاكل اقتصادية انعكست على أزمة بطالة شديدة وقلت أعداد اليهود فيها بسبب الزواج المختلط وضعفت قوتهم، وبالتالي فقد اللوبي اليهودي الكثير من قوته، وهو ما نراه حاليا وليس شرطا أن يتحقق بدقة، إذ تواجه واشنطن تراجعا يحذر منه قادتها قبل غيرهم كما تتبدل أمزجة الأجيال الشابة من اليهود الأميركيين، ويتحولون من الدعم المطلق لإسرائيل إلى التشكيك في رواية الدولة العبرية، بل دعم حقوق الفلسطينيين في دولتهم وإنهاء الاحتلال.
ويفسر ملميد الهزيمة بصدعٍ ضرب الدولة وغيّب مقولة "سنتحد وقت الخطر" الشعار الأكثر شيوعا في السنوات الأخيرة "وفي الحقيقة كنا مفككين ومنقسمين كما لو لم نكن أبدا. سيطر التطرف على كل شيء وفرقت الطوائف والآراء والمعتقدات والضغائن المجتمع إلى فصائل وإلى ما دون الفصائل، وأدى العنف اللفظي إلى عنف مادي بين اليسار واليمين والمتدينين والعلمانيين والإشكناز والسفاراد في ظل سيل عارم من الكراهية اللاذعة، بينما كان الزعماء يعتقدون أنه يمكن توحيد الشعب بضغطة زر، لكن الزر لم يعمل هذه المرة بعد توغل الانقسام والحقد إلى نسيج الأسرة ووصلا إلى الوحدات العسكرية، وتصاعد المقاومة في الضفة الغربية".
وتقلصت الأقلية التي حملت على عاتقها سحر التفوق النوعي، واستُنفدت تماما وهو ما يجري حاليا على يد بن غفير وسموتريتش ومن والاهما أو معسكر دولة "يهودا" في مواجهة دولة "إسرائيل" كما يطلق عليه المؤرخ إيلان بابيه المناهض للصهيونية ومدير المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية في جامعة إكستر.
استخدم الكاتب تقنية السارد المشارك، والتي تناسب آلية الاسترجاع (فلاش باك)، إذ تحدث عن نفسه مباشرة، وحكى عما حدث بسرد غير مباشر ومميز بالنهايات المشوقة للفصول التي تجبر القارئ على الاستمرار لمعرفة ما سيحدث بعد ذلك، وكيف رسم شخصياته المتنوعة داخل إسرائيل وخارجها، ومن ذلك العربي الفلسطيني وعرب الداخل الذين عرض للصورة النمطية المسيطرة على الذهنية الصهيونية تجاههم، بأنهم "لا يفهمون سوى لغة واحدة (القوة)، وبإمكاننا السيطرة عليهم حتى النهاية، واتضح لنا في وقت متأخر وبشكل مأساوي أنهم ليسوا بدائيين كما اعتقدنا. كان كل واحد منا حارسا محتملا لثلاثة منهم وانشغلنا بالأراضي والمراتع النفيسة، كما لو لم يكن فيها آدميون، متمردون بلغوا آمادا مخيفة ورفض ذوو المهن المتدنية أن يعملوا بالأعمال التي كلفوا بها في إسرائيل وأخذوا رواتهبم من دول الخليج بطيب خاطر"، ولعل ذاك يفسر لنا سبب محاولة إثارة الحقد والكراهية بين الفلسطينيين والخليجيين، حتى يظل الفلسطيني مجبرا على العمل في دولة الاحتلال في أعمال هامشية ويخضع ماليا لها، وهو ما جعل ملميد يقول إنه كانت هناك حاجة إلى قوانين وفرق من حرس الحدود لإجبار عرب الداخل على الخروج للعمل في إسرائيل.
والجزء الثاني من الصورة بعد النصر واستعادة الفلسطيني لأراضي أجداده، إذ يصفه بالمحتل والقاتل، والمثير للسخرية أن الصورة التي رسمها الكاتب بأنهم قرروا عقب الانتصار أنه لا حاجة إلى نقل أشخاص للتحقيق والاعتقال فقاموا بقتلهم على الطريق حتى أن دماؤهم تخثرت وبهتت على الأسفلت الساخن، هو ما يجري للفلسطينيين اليوم على يد قوات الاحتلال في الواقع، وليس الخيال.