تنتشر في لبنان محال تبيع قطعاً أثرية مفككة ومسروقة من بيوت تراثية، كما تنشط مجموعات على وسائل التواصل تعرض فيها تلك المقتنيات التي يتراجع عددها بسبب غياب الرقابة وضعف القانون وتبادل الاتهامات حول مسؤولية حمايتها.
- يرفض التاجر اللبناني حسن شحود، مالك مستودع لبيع القطع الأثرية في طرابلس شمالي لبنان، شراء قطع تنتمي إلى مقتنيات بيوت تراثية إن لم يُظهر له البائع ما يثبت الملكية وأنه من قام بتفكيك الأجزاء المعروضة، قائلاً لـ"العربي الجديد": "أرفض شراء القطع المسروقة لكن لا يمكنك التأكد من التزام الجميع بهذا الأمر، وما نشتريه يشترط أن يكون من المالك الأصلي، الذي يفكك أجزاء من منزله لاستبدالها بالحديث".
وعلى العكس من شحود وما يقوم به، تنتشر في لبنان محال لبيع قطع مفككة ومسروقة من بيوت تراثية، بحسب الوكيلة القانونية لبلدية طرابلس، المحامية رولى نجا، وتلك القطع تنهبها عصابات تختص في ذلك، مستغلة غياب الرقابة والحماية المطلوبة للبيوت التراثية في المدينة التي تشتهر بغناها التاريخي.
ويشير عضو مجلس بلدية طرابلس ورئيس لجنة الآثار والتراث البروفيسور المهندس خالد تدمري، إلى أنّ المدينة تضم 190 موقعاً أثرياً منها قلاع وقصور وبيوت تراثية وأماكن دينية، بالإضافة إلى المدينة القديمة التي تعود إلى حقب تاريخية عدة تصل إلى العهد المملوكي.
نهب تاريخ لبنان
يبدي عضو تجمع مالكي البيوت التراثية في بيروت (يضم مالكي 540 عقاراً) سيرج كوراني، حسرته من استمرار نهب العناصر الجمالية والمميزة من البيوت التراثية منذ أعوام، إذ فرّغ اللصوص هذه البيوت والقصور في بيروت بحثاً عن مردود مالي كبير، وبعدما انتهوا من بيروت انتقلوا إلى طرابلس ويبحثون عن غيرها، كونها لم يعد فيها ما يمكن نهبه، إذ لم يعد بها سوى 40 بيتاً تراثياً فقط، بينما كان عددها قبل 20 عاماً 1700 بيت، بحسب عضو اللجنة الوطنية اللبنانية للأونيسكو ومقرّر لجنة الثقافة والتراث فيها البروفيسور تدمري.
وتواجه الأبنية التراثية في بيروت أخطارا مختلفة، تحديداً تلك الموجودة في المناطق ذات الكثافة السكنية العالية، أو القريبة من قلب المدينة كما هو الحال في وسط بيروت التجاري بعدما طاولها الدمار خلال فترة الحرب الأهلية إذ كانت خطوط تماس، أو هُدمت في المرحلة اللاحقة من أجل إقامة أبراج سكنية، ما أسفر عن تدمير النسيج العمراني التراثي للمدينة، مثل محيط ساحة الشهداء ووسط بيروت (داون تاون) بحسب منسقة البرامج المجتمعية في "استوديو أشغال عامة" (منظمة غير حكومية مهتمة بقضايا التنظيم المدني) كريستينا بو روفايل.
بالإضافة إلى إشكالية عدم وجود إطار قانوني واضح لتحديد مسؤولية الرقابة عليها وحمايتها، بحسب توضيح المهندس المعماري عبد الحليم جبر عضو مبادرة حماية التراث العمراني اللبناني، مشيرا إلى أن القرار 166 الصادر في السابع من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1933، يعتبر الآثار القديمة هي "جميع الأشياء التي صنعتها يد الإنسان قبل سنة 1700 ميلادية"، في حين أن وزارة الثقافة تشمل في قائمة الجرد التي تعدّها، الأبنية التراثية المشيدة بعد استقلال البلاد، وتحاول حمايتها من خلال وضعها في تلك القائمة لمنع التصرف بها دون العودة إلى المديرية العامة للآثار أو السلطة المحلية (البلدية)، لذلك يطالب فريق المبادرة بإقرار قانون جديد لحماية التراث العمراني، وتقدم بمشروع قانون إلى مجلس النواب يبتدع فكرة جديدة لحماية الأبنية التراثية، وتشجيع المالكين للحفاظ عليها وعدم إهمالها وتدميرها، عبر مجموعة من الحوافز، منها أن يحظى المالك الذي يحافظ على الأبنية التراثية، بإعفاءات من بعض الضرائب والرسوم كضريبة الأملاك المبنية، وكذلك الرسوم البلدية على القيمة التأجيرية عن إيرادات العقار، واستفادة الورثة من إعفاء نسبته 50% من قيمة رسم الانتقال وغيره، ويهدف ذلك إلى تشجيع المالك للمحافظة على ملكه، وتحفيز شراء الأبنية القديمة في المناطق المصنفة على أنها تراثية، والمحافظة عليها بدلاً من هدمها وتعمير أبنية حديثة مكانها.
نماذج فجة
رصد المهندس وسيم ناغي، الأستاذ في كلية الفنون والعمارة بالجامعة اللبنانية، ورئيس جمعية تراث نيماير في طرابلس (تنشط للمحافظة على الإرث المعماري)، تغيّراً سريعاً في مظهر قصر المغربي في ساحة النجمة وسط طرابلس، والذي شيدته إحدى العائلات البرجوازية في القرن التاسع عشر، وحالياً تهدمت أجزاء كبيرة من بنيته، لافتاً إلى أنّه يتابع حالته عن كثب منذ أن تقدم قبل 20 عاماً بخطة لترميم القصر بناء على طلب بلدية طرابلس "وبالتأكيد آنذاك كان الأمر ممكناً، كان القصر محتفظاً بكل أجزائه، لكنّه الآن خسر الكثير من أقسامه الجميلة التي جرى نهبها، إذ كان يضم في داخله تماثيل وفسيفساء نادرة لم تعد موجودة" بخاصة أنّ أبوابه مفتوحة ويمكن لأي كان دخوله، بحسب قوله.
ينهب لصوص مكونات البيوت التراثية النادرة للمتاجرة بها
كما تعرض قصر شاهين الواقع في المدينة ذاتها، إلى نهب أجزاء منه على يد عصابة مؤلفة من 6 أفراد العام الماضي، إذ قاموا بتفكيك أجزاء منه بهدف بيعها، لكنهم وقعوا في قبضة القوى الأمنية التي صادرت ما نهبوه، وأطلقت سراحهم مقابل كفالات مالية، بحسب ما ترويه لـ"العربي الجديد" نجا، رغم أنّ العصابة تلك امتهنت سرقة المباني التراثية المهجورة في طرابلس، والتي تتوزع في أحياء باب الرمل، والرفاعية، وسوق العطارين، وصولاً إلى حيّ باب الحديد، بهدف المتاجرة بمحتويات وأجزاء تلك البيوت.
اتجار نشط عبر وسائل التواصل وتغييب للقانون
رصد معد التحقيق حركة بيع للقطع الأثرية والتراثية اللبنانية عبر مجموعات على "فيسبوك" و"واتساب"، من بينها صفحة باسم (بيع وشراء الآثار والذهب والزئبق)، والتي تشكل حلقة وصل بين المشتري والبائع الذي يمتلك القطع المطلوبة، وفيها منشورات لباحثين عن قطع أثرية في لبنان تحديدا، يتلقون ردودا من مالكي تلك القطع الذين يريدون بيعها، كما انضم معد التحقيق إلى مجموعتين مماثلتين على "واتساب"، يعرض فيهما المشرفون شتى أنواع القطع القديمة كالنقود والمزهريات والحلي التي كانت تزين البيوت التراثية، إذ يكفي أن يعلن الشخص عن القطع التي ينوي بيعها، مع وضع سعر لها، حتى تبدأ اتصالات تجار القطع الأثرية والتراثية.
وتنشط تلك التجارة رغم أن الآثار القديمة، من أملاك الدولة العامة إن كانت قد صنعت قبل عام 1700 ميلادية ولم يكن لها مالك حتى تاريخ نشر القرار رقم 166 الصادر في السابع من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1933، أو كان لها مالك إلا أنها استملكت من قبل الدولة لاحقاً، أو صنعت بعد عام 1700 واستملكتها الدولة من مالكها، بحسب ما نص عليه القرار.
ويُعاقب المعتدي عليها بموجب المادة 737 من قانون العقوبات مرسوم اشتراعي رقم 340 الصادر عام 1943 والتي تقضي بالحبس من شهر إلى سنة وبغرامة من مائتي ألف (دولاران في السوق الموازية) إلى مليون ليرة (10 دولارات).
ورغم ضعف عنصر الردع، إلا أن القانون السابق لا يطبق على أرض الواقع، إذ لا يتمتع قصر الوالي العثماني في منطقة الرفاعية، الواقع على الطريق إلى منطقة أبي سمراء في طرابلس، بأي حماية فعلية من الاعتداءات أو رقابة على الزيارات، وبالتالي تعرض للسرقات المتكررة بحسب شهود عيان قابلهم معد التحقيق خلال جولة ميدانية عاين فيها حالة القصر، ومن بينهم صاحب محل مجاور للقصر طلب أن نعرفه باسم أندرو (خوفاً من أي اعتداءات) والذي يؤكد أن السكان دائما يشاهدون غرباء يدخلونه، ويفككون بعض العناصر، حتى أنه كان يسمع أصواتا كضجيج الورش، واعتقد ذات يوم في مارس/آذار عام 2022 بأن القصر يخضع لترميم عندما علا الضجيج المنبعث منه، لكنّ الريبة تسللت إلى الجيران وعندما توجهوا إلى القصر وجدوا أشخاصاً قابلوهم بعدائية مفرطة تؤكد على أنهم لصوص يفككون مكونات القصر لسرقتها، مؤكداً أنّ السكان اشتكوا عدة مرات لمخفر أبي سمراء وبلدية طرابلس، لكن لم يتحرك أحد إلا بعد إلحاح من أحد السكان الذي قدم بلاغا للمخفر، وضبط العناصر السارق أثناء محاولة انتزاع الأرضيات والبلاط الرخامي النادر.
ويشير المهندس ناغي إلى أن "تفكيك العناصر التراثية يتطلب خبرة، ولا يمكن القيام بذلك عبر مبتدئين لأن أي خطأ يؤدي إلى القضاء على جمالية القطع النفيسة"، كما أن الإقدام على عمليات التفكيك يعني وجود طلب عليها ومشترين لها، وما يؤكد ذلك نشوء أماكن لبيع هذه القطع التي لا يمكن دائما إثبات مصدرها.
"وبالتأكيد فإن من يشترون تلك القطع يعلمون قيمتها مثل قطع البلاط الرخامي القديم، والحجارة الرملية، والصناديق القديمة، والموبيليا المزخرفة، واللوحات، والإطارات الخشبية" كما يؤكد تاجر "الأنتيكا" (القطع الأثرية) شحود، مشيرا إلى رواج مسألة شراء وبيع قطع البيوت التراثية بالدولار، فالحجر الرملي على سبيل المثال يباع بدولارين وهناك طلب كبير عليه، مبديا أسفه على قلة الوعي عند بعض أصحاب البيوت التراثية حول أهمية ما يملكون، مشيرا إلى أنه مؤخرا تعامل مع زبون يسكن منزلا تراثيا، وعرض عليه شراء البلاط الرخامي المنقوش، و"كان قطعة نفيسة وغاية في الروعة"، كما يصفها شحود، مضيفا: "الآن أصبحت تلك العناصر العمرانية في منزل شخص يقدر قيمتها إذ كنت وسيطا في ذلك".
تبادل الاتهامات حول المسؤولية
عبر جولات ميدانية مصورة لوحظ أنّ بيوتاً تراثية سهلة الولوج وليس هناك من يحميها حتى أضحت بلا رقيب أو حسيب، ليتضح أنّ نهب الكثير من القصور والبيوت يسهل، كونها باتت مهجورة، خالية من السكان، كما هو الحال في قصر العجم الواقع في حي باب الرمل، إذ تبقى البوابة الخارجية مفتوحة، وفي الداخل فإنّ أجزاءً كثيرة من البناء جرى خلعها، سواء الأرضيات والشبابيك، أو أجزاء من السقف.
40 بيتاً تراثياً من بين 1700 ما زالت قائمة في بيروت
ويتحدث رئيس بلدية طرابلس رياض يمق، عن قيام السلطة المحلية "بما يمكنها للحد من سرقة المدينة القديمة والحفاظ على تراثها، لكن الإمكانيات محدودة إذ لا يمكنه نشر شرطي في كل زاوية لحماية تلك البيوت"، ويضيف أنّ في البلدية 50 شرطياً يقع على عاتقهم مهام عديدة، ولا يتوقف الأمر على حماية المدينة القديمة فقط، مستدركاً أنّ "على السلطة اللبنانية المركزية الحفاظ على أمن المدينة وعلى تراثها".
ويشير يمق إلى مراسلات من البلدية إلى وزارة الداخلية تحذر من وجود 258 بناءً منها 97 مبنى تراثياً عرضة للسقوط في حال عدم اتخاذ إجراءات سريعة، ويحمّل السلطة المركزية مسؤولية حماية هذه القصور، لأنّ "البلديات لا تمتلك ما يكفي من المال".
ويرد مدير عام الآثار في وزارة الثقافة، سركيس خوري، بقوله إنّ الوزارة تسعى إلى حماية البيوت التراثية للحفاظ على النسيج العمراني الاجتماعي، لافتاً إلى أنّ الأمر لا يتعلق بمبنى أثري واحد، وإنما مدينة كبيرة تضم العديد من الأماكن التراثية مثل طرابلس، والتشدد الذي تقوم به المديرية لمنع أي عمل خاص بالأبنية مثل الهدم أو البيع إلا بالرجوع إلى المديرية بهدف حماية قيمتها الحضارية، ولأنها المدينة الأولى في لبنان من الناحية التراثية لتضمنها أكبر نسيج عمراني قديم، مشيراً إلى أنّ الصعوبات المالية تقف عائقاً أمام العديد من الإجراءات وعلى رأسها الترميم، لافتا إلى أن الصعوبات المالية تقف عائقا أمام العديد من الإجراءات وعلى رأسها الترميم، إذ جردت الوزارة خلال عامي 2017 و2018 الأبنية المتهالكة في طرابلس، وطالبت بـ 30 مليون دولار لترميمها وأحيل الطلب إلى مجلس الوزراء، و"لكن للأسف لم يتم اعتماد موازنة للترميم"، مستدركا بقوله أنه "لا توجد دولة في العالم ترمم جميع المباني القديمة".
وفي ظل غياب الرقابة والحماية المطلوبة، تبقى البيوت التراثية في مواجهة السرقات وعوامل الطقس التي تؤثر في بنيتها ومظهرها، وسط إهمال ترميمها وعدم اكتراث الجهات المعنية بها، كما يقول الأربعيني نبيل برغشون، الذي يحاول وعائلته حماية ما تبقى من مبنى سيار الدّرك الأثري في طرابلس، بعدما نهبت نوافذه وأبوابه وعناصره المعمارية المميزة.