قطعت عائلة الجزائري، محمودي بشير، نحو 600 كلم من مدينتها الوادي الصحراوية في الجنوب الجزائري إلى مدينة جيجل الساحلية شرقي البلاد، في رحلة شاقة للاستمتاع بعطلتها الصيفية على الشاطئ، دفعت العائلة تكاليف باهظة للإقامة عشرة أيام في شقة تتوفر على الأساسيات فحسب، لكن ما لم تضعه العائلة في الحسبان، هو دفع إتاوات مقابل ولوج البحر.
بدأت معاناة العائلة قبل أن تطأ أقدامها رمال الشاطئ، إذ استقبلها بعض الشباب ورب العائلة وهو يركن سيارته، وأعلموه أن عليه دفع نحو 200 دينار مقابل ركن السيارة، أي ما يعادل "دولاراً ونصف" وهو ثلاثة أضعاف المبلغ الذي حددته السلطات المحلية مقابل ركن السيارة في المواقف "الشرعية".
لم تنته المعاناة هنا، بعد أن دخل رب الأسرة في جدال مع هؤلاء الشباب حاملي الهراوات من أجل إرهاب كل من تسول له نفسه رفض قانونهم، إذ تبين أن الحصول على مكان على الشاطئ لن يكون قبل دفع إتاوة أخرى تكلف نحو ألف دينار، ما يعادل أكثر من ثمانية دولارات.
"لست أدري من يضع القانون، السلطات أم هؤلاء؟" يقول بشير في حديثه إلى "العربي الجديد"، ومتابعا "وصلتني الكثير من قصص تعرض المصطافين لاعتداءات، لأنهم رفضوا الدفع، على الرغم من قرار السلطات بمجانية الدخول إلى الشواطئ، لكن يبدو أن لا صوت يعلو فوق صوت هؤلاء".
اقرأ أيضا: استخراج الغاز الصخري بالجزائر..مخاوف من تكرار "اليربوع الأزرق"
تصريحات متضاربة
على هذا الحال، تمضي يوميات المصطافين الجزائريين، منذ بداية موسم الصيف الذي كان ساخنا جدا، ليس فقط بسبب وصول درجات الحرارة إلى مستويات قياسية، لكن بسبب تضارب التصريحات والمواقف بين المسؤولين حول نزع امتياز استغلال الشواطئ من المسيرين الخاصين، الذين يشغلونها منذ سنوات طويلة وبين الإبقاء عليها، ما خلق فوضى كبيرة دفع المواطن البسيط ضريبتها.
وزيرة السياحة السابقة نورية زرهوني كانت قد صرحت قبل حلول الصيف بنحو شهرين أن تسيير ثلثي شواطئ الجزائر سيكون للخواص، فيما تكون بقية الشواطئ مجانية، لكن تصريحات الوزيرة مضت في مهب الريح بعد أن "طارت" هي من منصبها قبل حلول الصيف ليعوضها وزير السياحة الحالي عمار غول، الأخير الذي أكد أن كل الشواطئ ستكون مجانية، كما أصدرت وزارة الداخلية تعليمات جاء فيها أن الدخول إلى الشواطئ سيكون بالمجان.
لكن الواقع كان بعيدا عن التصريحات والتعليمات التي أصدرتها السلطات، إذ إن المجموعات التي استولت على هذه الشواطئ لسنوات في غياب سلطة الدولة لم تتراجع بسهولة، وواصل هؤلاء فرض قانونهم الخاص من حيث الأسعار، إذ تحول الأمر إلى ما يشبه أخذ إتاوات على ما يقدمونه من "خدمات" كالكراسي والمظلات الشمسية وحراسة حظائر السيارات.
اقرأ أيضا: سمك الجزائر ... سهلٌ يمنَعُه المُضارِبون
ابتزاز العصابات
بدأت هذه الظاهرة التي تتجدد سنوياً، مباشرة بعد عودة الأمن تدريجيا إلى البلاد التي عاشت أكثر من عشر سنوات من الدماء، وفي هذه الفترة كانت الدولة غائبة تماما، ما سمح للبعض بتحويل هذه الشواطئ إلى ملكية خاصة، وهؤلاء الشباب في الغالب عاطلون عن العمل وجدوا في هذه الفضاءات مناخا خصبا لتحقيق الربح السريع وجني الملايين، من دون حسيب أو رقيب ومن دون دفع الضرائب، فلا أحد يحاسبهم على الأسعار التي يفرضونها، فلا وجود للدولة هنا وعليه فهم الدولة وهم القانون، وفقا لما وثّقه "العربي الجديد" عبر أحاديث مع عدد من هؤلاء الشباب.
عن الظاهرة يقول مدير النادي السياحي بولاية جيجل، زين الدين شرايطية لـ "العربي الجديد" بأن المشكل الذي وقع تسببت فيه البلديات ورؤساء البلديات الذين يوزعون التراخيص بدون منطق سياحي ولا تجاري ولا حضاري. مضيفا "أقول لو كانت هناك إرادة سياسية لحل المشكل سيكون من السهل إنهاؤه، كيف لدولة عالجت مشكلة الإرهاب ألا تتحكم في مجموعة مراهقين".
وأضاف المتحدث أن قانون الامتياز السياحي عقّد الأمور "ففي السابق كان المراهقون والأطفال يقومون باستئجار المظلات الشمسية بسعر رمزي، ومنذ أن جاء قانون الامتياز على الشواطئ، عمت الفوضى ودفع الجشع بالمستغلين إلى رفع الأسعار حسب هواهم، لأنهم وحدهم من يحق لهم استغلالها، وفي السنوات التالية تبين أن هذه المهنة تدر مئات الملايين فاقتحم الجميع الشواطئ باستعمال القوة، ولم يتم التحكم في الأمر مند ذلك الحين".
اقرأ أيضا: الأئمة في أوروبا [2-5]..التسامح يخيم على حياة مسلمي بلجيكا
رئيس جمعية المستهلك: أين الحزم؟
من جانبه انتقد رئيس جمعية المستهلك، مصطفى زبدي في تصريحات خاصة لـ"العربي الجديد" طريقة تعامل السلطات مع مستغلي الشواطئ من أجل احتواء الظاهرة، مؤكدا أنه تنبأ بموسم سياحي فاشل منذ بداية الموسم بسبب التردد في تطبيق مجانية الشواطئ، وعدم أخذ السلطات بالتحفظات التي قدمتها الجمعية عن السلبيات المسجلة في المواسم الماضية، وحمّل زبدي السلطات ووزارة السياحة مسؤولية الفوضى التي نتجت عن غياب الصرامة في تطبيق تعليمة مجانية الشواطئ، ولم تلزم مديرياتها في الولايات بمتابعة الأمور في الميدان، كما تجنبت الدخول في صراعات مع مسيري الشواطئ الذين هم في الغالب من أبناء الحي الذي يقع فيه الشاطئ الذي حولوه إلى منطقتهم الخاصة.
يوضح محدثنا "من غير المعقول أن يدفع الجزائري ضريبة أو دمغة مقابل السباحة في بحر بلاده، وصلتنا مئات الشكاوي من المواطنين المتذمرين من احتلال غرباء الشريط البحري وعدم تمكنهم من نصب مظلاتهم الشمسية، لأن كل الأماكن محجوزة، وفرض مبالغ باهظة مقابل ركن السيارة، وغياب الأمن وعدم نظافة الشواطئ التي يفترض أن يقوم هؤلاء بتنظيفها ما دام تسييرها يقع على عاتقهم مثلما يصرحون!".
اقرأ أيضا: الأئمة في أوروبا [1-5].. مشايخ فرنسا يواجهون خطر الترحيل
دولة داخل دولة
في جولة قادتنا إلى بعض شواطئ ولاية جيجل الساحلية، 400 كلم عن العاصمة الجزائر، وقفنا على مدى "تغوّل" هؤلاء، كما يقول بلقاسم منصوري القادم من ولاية المسيلة الداخلية، إلى شاطئ الصخر الأسود غرب الولاية، يقول منصور، هناك دولة داخل دولة، هؤلاء يحاولون فرض قانونهم وهم يواجهون السلطات بكل جرأة، قائلين نحن هنا ولا قانون فوق قانوننا، إنها مافيا بكل ما تحمله الكلمة من معنى".
وراح محدثنا الذي اعتاد زيارة شواطئ الولاية قبل أن تحكم "العصابات" قبضتها عليها، على حد قوله، يروي يومياته منذ وطأ تراب المدينة، قائلا "لا تتحرك بضعة أمتار من دون أن تدفع ضريبة، وفي كل مرة أهدد فيها باللجوء إلى مصالح الأمن، يجيبني بسخرية مستغلو الشواطئ الذين تبدأ حدودهم من موقف السيارات قبل الوصول إلى الرمل، بأن لا أحد سيستمع إلى الشكوى".
وشهدت شواطئ الولاية منذ أن أصبحت تعليمات مجانية الشواطئ سارية المفعول، كرا وفرا بين مصالح الأمن ومستغلي الشواطئ، فقد شنت مصالح الأمن مداهمات عدة للشواطئ وقامت بحجز المظلات الشمسية وكراسي وخيم تعود للخواص. لكن ما تلبث أن تعود الأمور على ما كانت عليه في اليوم الموالي.
يؤكد المصطاف محمد مخلوفي، المعلومات السابقة قائلا "ما إن تقدمت صوب الشاطئ حتى وقف أمامي شاب في مقتبل العمر طلب مساعدتي على إيجاد مكان في الشاطئ، اعتقد أنه فعلا تطوع لمساعدتي قبل أن يبادرني بأن أجرة الخيمة نحو 800 دينار، (6 دولارات)، رغم أن الشاطئ نفسه شهد مداهمة مصالح الدرك الوطني في اليوم السابق، ولكن يبدو أن لا أحد قادراً على ردع هؤلاء.
حول هذه النقطة أوضح مدير النادي السياحي في الولاية، في حديثه إلى "العربي الجديد" أن لجنة ولائية خاصة انتقلت إلى الشواطئ في ولاية جيجل، ومعها القوة العمومية لإخلاء الشواطئ من مستغليها، لكن بعد 24 ساعة عادت الأمور إلى حالها".
اقرأ أيضا: الجزائر: عصابات تهريب الجنوب تحتمي بأنابيب النفط
دفتر شروط جديد
يعترف رئيس جمعية المستهلك مصطفى زبدي بصعوبة تخلي مسيري الشواطئ عن فضاءات تدر عليهم مداخيل مهمة، غير أنه اقترح بديلاً يضمن رضا المصطافين ويؤمن مداخيل في إطار قانوني لمستغلي الشواطئ "منح الاستغلال بدفتر شروط جديد صارم، من أهم بنوده ألا يتم استغلال كل الشريط الساحلي، مع تحديد التسعيرة وإلزام مستغلي الشواطئ بتنظيفها وضمان الأمن ومنع الممارسات غير الأخلاقية في الأماكن المخصصة للعائلات، ومن دون ذلك ستبقى الفوضى تعم الشواطئ".
أما مدير النادي السياحي بولاية جيجل فيقترح المنع التام لأي نشاط خاص فوق الرمل، كما كان سابقا، مع نشر أكشاك في مداخل الشواطئ تقوم البلدية بتأجيرها.
اقرأ أيضا: صراع "داعش" و"القاعدة" ينتقل إلى ليبيا
الوجهة تونس
دفع هذا الوضع نحو مليوني جزائري إلى شواطئ الجارة الشرقية تونس، رغم التهديدات الأمنية التي شهدتها مدينة سوسة، لما تؤمنه شواطئها من راحة وخدمات مقابل مبالغ معقولة، حسب ما أكدته عائلات جزائرية لـ"العربي الجديد"، إذ أعلنت وزيرة السياحة التونسية عن استقبال نحو مليوني سائح جزائري منذ بداية الصيف "وستستمر الهجرة إلى أن تسترجع الدولة الشواطئ من قبضة المافيا"، يقول رب عائلة جزائرية اختار تونس لقضاء الصيف عوض شواطئ بلاده الشاسعة والخلابة.