رأساً على عقب، انقلبت حياة أهالي عزبة الأردن التابعة لقرية منشأة عطيفي بمركز سنورس بمحافظة الفيوم (جنوب مصر)، بعد إعلان الرئيس المصري، عبدالفتاح السيسي، عن اسم المتهم بتنفيذ انفجار الكنيسة البطرسية الذي راح ضحيته 25، فيما أصيب 49، يوم الأحد الماضي، إذ ينتمي المتهم محمود شفيق محمد مصطفى، ﻷسرة متوسطة الحال تقيم في بيت متواضع، صار محاصراً بوسائل الإعلام ورجال الأمن.
ويطلق أهالي القرية على المنطقة التي يقيم بها محمود، عزبة الأردن بسبب سفر العديد من أبنائها إلى المملكة الهاشمية، بحثاً عن لقمة عيش في ظل أوضاع متردية يعاني منها أغلب بيوت العزبة التي تصل إلى 120 بيتاً من بين ما يزيد عن 6000، يقيمون في قرية منشأة عطيفي، ولدى محمود شقيقان و4 شقيقات أصغرهن في المرحلة الابتدائية.
روايات الجيران
ينفي جيران المتهم العشريني محمود، سفره خارج مصر، مؤكدين أنه كان دائم التردد على أهله بين الحين واﻵخر، ووفقاً للجيران فإن قوات اﻷمن قبضت على شقيق محمود الأكبر في الثامنة من مساء يوم اﻷحد، بعد البحث عنه أكثر من مرة، الأولى كانت في الساعة الخامسة مساء، والثانية في السابعة.
وذكر أحد جيران المتهم لـ"العربي الجديد"، أنه قُبض على شقيق محمود في كمين أمني في إحدى الطرق خلال عمله بـ"التوكتوك"، دون معرفة المكان الذي تم اقتياده إليه، أو حتى التهم الموجهة له.
وتابع، إن أهالي المنطقة ظنّوا أن قوات اﻷمن تبحث عن شقيق محمود، لتورطه في قضايا خاصة بالتظاهرات، مؤكداً أن عملية القبض على محمد شقيق المتهم محمود، جاءت قبل الكشف عن ملابسات الحادثة، التي أعلنها السيسي، صباح اليوم التالي للانفجار.
وأشار إلى أن محمود كان دائم التردد على منزل أسرته بين الحين واﻵخر، ليقضي فترات بين نصف ساعة أو ساعة، قبل الرحيل مجدداً، خوفاً من ملاحقة قوات اﻷمن، عقب معرفته الوصول إلى القرية.
وكانت قوات الأمن قد قبضت على محمود في عام 2014 واتهمته بحيازة السلاح، والانضمام إلى جماعة محظورة، ووفقاً لرواية أقارب وجيران محمود، فإنه قد تعرض خلال فترة احتجازه التي بلغت 50 يوماً، إلى تعذيب شديد، أدى إلى قراره بمغادرة القرية والعيش في القاهرة، عقب إخلاء سبيله، خوفاً من صدور حكم بالحبس ضده وتنفيذه، ويؤكد الجيران أن شقيق المتهم الذي يخدم في الجيش، قُبض عليه من منزله.
وتؤكد والدة محمود، أنها لا تصدق ما قاله الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، مضيفة أن نجلها "كان يدرس في كلية العلوم، وحصل على المركز الرابع على مستوى الجمهورية في الثانوية العامة".
وتابعت، إنه "قُبض عليه في قضية تظاهر منذ سنتين، ثم حصل على إخلاء سبيل"، وأشارت إلى أن زوجها كان ضابط احتياط في القوات المسلحة، موضحة أن لها ابناً آخر يخدم في الجيش حاليًا، وقد قُبض عليه، فضلاً عن ابنها الثالث الذي يعمل سائق "توكتوك".
تضارب الروايات
تتضارب الروايات الأمنية الصادرة عن مختلف الأجهزة الرسمية المصرية، إذ أكدت الروايات الأمنية الصادرة في بداية الأحداث أن الانفجار حدث بفعل عبوة ناسفة تحتوي على مواد شديدة الانفجار تزن نحو 12 كيلو غراماً من مادة "TNT"، زرعتها سيدة في الجانب المخصص للنساء في الكنيسة البطرسية، وخرجت قبل الانفجار.
هذه الرواية تدعمها شهادات الناجين من الانفجار، الذين أكدوا ضلوع سيدة في الانفجار، الذي حصل في الجانب المخصص للنساء، مؤكدين عدم مشاهدتهم أي رجل في الجانب المخصص للسيدات.
ودلل على صدق هذه الرواية معاينة الطب الشرعي وتشريح الجثامين، إذ قال مدير مصلحة الطب الشرعي، الدكتور هشام عبدالحميد، إنه تم الانتهاء من تشريح جثامين ضحايا انفجار الكنيسة البطرسية، وإن معاينة الطب الشرعي، كشفت زرع عبوة ناسفة أسفل مقعدين في الجانب المخصص للسيدات، وإن التفجير تم بواسطة هاتف محمول أو ريموت كنترول.
واستبعد عبدالحميد، حدوث انفجار بواسطة انتحاري أو التفجير بواسطة حزام ناسف، ﻷن التفجير كان تصاعدياً، بما يعني وضع القنبلة تحت المقعدين وأن المتهم لاذ بالفرار، وفقاً لما جاء في شهادة عبدالحميد المنشورة في موقع جريدة اﻷهرام، والتي جرى تعديلها بعد إعلان السيسي عن رواية مختلفة حول منفذ التفجير والمتورطين.
عقب إعلان السيسي روايته، قامت مصلحة الطب الشرعي بمعاينة جديدة لمسرح الانفجار وأعلنت عن العثور على كميات كبيرة من "الرومان بلي" في أجساد الضحايا، وهي نفس مكونات العبوة الناسفة المستخدمة في تفجير كمين الهرم، الأسبوع الماضي، بينما تم حذف فقرة أن الانفجار جاء عبر عبوة ناسفة، زُرعت أسفل مقعدين في الجزء المخصص للسيدات، من تقرير الأهرام.
وفي حين ذكر السيسي، أن اﻷجهزة المعنية، جمعت أشلاء المنفذ من موقع الانفجار، لم تذكر معاينة الطب الشرعي العثور على أشلاء رجل بين الضحايا، وهو ما يراه خبير أمني "دلالة على عدم تعاون بين أجهزة اﻷمن المختلفة، ليس في واقعة انفجار الكنيسة فقط، ولكن في مختلف التفجيرات اﻷخرى".
ويؤكد الخبير الأمني الذي رفض ذكر اسمه "أن كل جهاز يعمل بشكل منفصل، ويحاول إظهار قدراته لنيل رضى السلطة السياسية، بحيث يتم الاعتماد عليه"، واصفاً ما جرى على أنه "نوع من صراع اﻷجهزة، وليس تنافساً بينهم".
وأضاف لـ"العربي الجديد": "التضارب في رواية السيسي واﻷجهزة اﻷمنية، يطرح العديد من التساؤلات المشروعة، حول كيفية الوصول للمنفذ، في هذا الوقت السريع للغاية، مقارنة بأحداث أخرى".
وتابع، إنه يمكن تفهم أن وجود جثة انتحاري تسهل من الوصول للمنفذ، ولكن ليس في ظرف ساعات قليلة، إذ يستغرق تحليل الـ "DNA" وقتاً ليس بالقليل.
ولفت إلى أن لقطات كاميرات المراقبة أمام الكنيسة البطرسية لا تُظهر ولا تبرهن على أي شيء، متابعاً "كل ما جرى لا يعفي اﻷجهزة اﻷمني من التقصير في التعامل مع هذه المجموعات الإرهابية".
وتساءل عن العلاقة بين المقبوض عليهم بتهمة التورط في الانفجار والمتهم: "كيف تم التوصل إلى وجود علاقة بينهم وبين المنفذ، خاصة وأن الوقت المتاح عدة ساعات، ولا يمكن كشف خيوط وملابسات هذه الحادثة بسرعة كبيرة".
لغط حول تحليل الـ "DNA"
ظهرت تساؤلات حول رواية التوصل إلى هوية منفذ الانفجار، عبر تحليل عينة "DNA"، في غضون 12 ساعة فقط، إذ إن المدة المتعارف عليها لإجراء هذا التحليل في مصر تتجاوز الثلاثة أيام.
ويؤكد كبير الأطباء الشرعيين السابق بمصلحة الطب الشرعي، الدكتور أيمن فودة، أن ظهور نتائج تحليل الحمض النووي "DNA" يستغرق حوالى 4 أو 5 أيام على الأكثر، "غير أنه تم التوصل إلى هوية منفذ تفجير الكنيسة البطرسية بعد أقل من 24 ساعة عقب معاينة أشلاء الضحايا، بالاعتماد على الأجهزة الحديثة التي تعمل وفق نظام معقد ودقيق"، على حد قوله.
في المقابل، شكك متخصصون في إمكانية ظهور نتائج تحليل عينات الحمض النووي (DNA) في مدة زمنية أقل من ثلاثة أيام، وقال أحد الأطباء الشرعيين في تصريح خاص لـ"العربي الجديد"، إن طول جزيء (DNA) من 20 نانومتر إلى 40 نانومتر وفي حال سلامة العينة ومطابقتها للمواصفات، لا تقل مدة الوصول إلى نتيجة مؤكدة عن أسبوع".
التعذيب والعنف
نشرت المحامية، ياسمين حسام الدين، سلسلة تدوينات عبر صفحتها على موقع "فيسبوك"، أكدت فيها تعرض موكلها السابق محمود شفيق للتعذيب. وقالت المحامية قبل إغلاق صفحتها، إنه منذ نحو 3 سنوات وفي عام 2014، قُبض على موكلها عشوائياً، وهو في طريقه إلى درس خصوصي مع زملائه بالفيوم.
وأضافت، أنه "تم تعذيب موكلها بعنف وبشكل بشع، وثم عُمل محضر له بتهمة التظاهر والانضمام لجماعة إرهابية وحيازة سلاح، وإجباره على الاعتراف بأمور لم يرتكبها".
وأوضحت أن موكلها كان قاصراً وقت القبض عليه، لذلك تم استبعاده من الاتهامات بالجناية وبقي اتهامه في جنحة التظاهر فقط، والتي أخلي سبيله على ذمة القضية الخاصة بها في 2015 من دائرة جنايات بندر الفيوم برئاسة المستشار عاطف رزق، بضمان محل إقامته، وأضافت "لا أحد علم عن مكانه شيئاً بعد إخلاء سبيله".
وعلى الرغم من ربط بعض المراقبين بين تعرض محمود للتعذيب بعد القبض عليه، وسعيه للانتقام عبر الانضمام إلى جماعات مسلحة، فإن الخبير اﻷمني محمود قطري، يرى أنه لا يمكن التعويل على مسألة التعذيب واعتبارها سبباً مؤكداً يجعل شخصاً ما يعتنق العنف.
وقال قطري لـ"العربي الجديد"، "إن التعذيب أحد الدوافع لانتهاج العنف، لكنه ليس السبب الرئيسي، وإلا فجّر كل من تعرض للتعذيب نفسه"، مرجِّحاً أن يكون لمحمود دوافع أيديولوجية وفكرية.
وأضاف، أن بعض ممارسات الداخلية في التحقيق مع المتهمين، تؤثر سلباً على فكرة لجوء بعض الشباب إلى العنف، داعياً إلى وقف هذه السياسات والممارسات العنيفة في التعامل مع المتهمين.
رواية جديدة
ظهرت رواية جديدة بعد إعلان السيسي عن ملابسات انفجار الكنيسة البطرسية، إذ قدم أحد خدم الكنيسة، ويدعى مرقص مختار، أقوالاً جديدة أمام النيابة، قائلاً "يوم السبت الماضي، حاول منفذ الانفجار الدخول إلى الكنيسة، بدعوى أنه مسلم ويريد كتباً عن الديانة المسيحية، وكان الرد أن الكنيسة لا تحوي كتباً".
وأضاف مختار، في شهادته المنشورة في وسائل إعلام محلية، أن المنفذ قال له: "دخّلني أقابل حد من القساوسة للحصول على معلومات عن المسيحية"، ليرد عليه الخادم: "الوقت متأخر ولا يمكنك الدخول وتيجي بكره نشوف حد يتكلم معاك".
وفي ظل تضارب الروايات والمعلومات، تظل الحقيقة غائبة عن والدة محمود وأشقائه الذين يريدون معرفة ما حدث فعلاً، ولا يرغبون في تصديق أي من الروايات المتداولة قبل أن يروا جثته بأعينهم على حد قولهم.