لم تتوقع الشابة السعودية نورة الغامدي انتهاء المطاف بها عاملة في بيع شطائر الشاورما على رصيف كورنيش الدمام (شرق السعودية)، بعدما عادت من أستراليا حاملة شهادة الماجستير في "تقنية النانو"، إذ كانت تعتقد أن عروض العمل ستتهافت عليها فور وصولها إلى أرض المطار، غير أنها صُدمت بالواقع، الذي يعيشه 436 ألف سعودي من حملة الشهادات العليا والذين لا يجدون وظائف، مع أن 23 في المائة من بينهم، تم ابتعاثهم للدراسة في الخارج، بحسب تقرير صادر عن وزارة العمل في أغسطس/آب الماضي.
"ثمانية أعوام قضيتها في الدراسة بلا فائدة، أي رحلة في الحياة تبدأ من الهبوط إلى الصعود، بخلاف رحلتي، بدأت من النانو إلى الشاورما"، هكذا لخصت نورة ما آلت إليه حياتها، بعد أن بحثت عن وظيفة مناسبة لأكثر من عامين دون جدوى، على الرغم من ندرة تخصصها، والذي لم يساعدها على أن يقبل مركز "النانو" السعودي توظيفها بحجة أنها فتاة، في حين تحججت جهات أخرى بعدم وجود وظائف شاغرة، وحتى الجامعات السعودية رفضتها، كما قالت نورة في حوار تلفزيوني في مارس/آذار الماضي.
نورة واحدة من المبتعثات والمبتعثين ممن أنهوا دراستهم في الخارج على نفقة الدولة ضمن برنامج الملك عبدالله للابتعاث الخارجي والذي دخل عامة الحادي عشر، غير أن عدم حصول هؤلاء الخريجين على عمل، على الرغم من أنهم من حملة الشهادات العليا دفعهم إلى إطلاق حملة "عاطلون بشهادات عليا" على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، ومن بين هؤلاء الشاب نوح المطيري الذي عاد بشهادة البكالوريوس في تخصص الإدارة المالية والمصرفية من جامعة العلوم التطبيقية الأهلية بالأردن، وبعد بحث مضنٍ عن العمل انتهى به المطاف في بيع الشاي بالشارع، إضافة إلى العمل سائقا متعاونا مع شركة "كريم".
ويعتقد الكاتب الصحافي حبشي الشمراني، أن نورة ونوح نموذجان لمجموعة من المبتعثين، لم يتم توظيفهم أو الاستفادة مما درسوه في الخارج، إذ لا يتلقون إلا وعوداً تذهب في الفراغ، ويعانون من طول انتظار الوظيفة، ويقول: "للأسف سنوات من دراسة الكيمياء لم تكن كافية لحلم فتاة سعودية طموحة، قررت أن تتغرب عن أسرتها لترتقي سلم العلم وتستقي من مناهله بعد أن أغلقت الأبواب في طريق حلمها بإيجاد وظيفة على الرغم من أن تخصصها نادر في مجال العلوم الكيميائية والفيزيائية"، ويضيف: "الأمر لا يقتصر على نورة فقط، بل هي مجرد نموذج مؤلم، لآلاف الحالات التي نلمسها يوميا".
نفقات مهدرة
تختلف المخصصات المالية التي تصرف للمبتعث خارجيا من بلد إلى بلد، حسب تصنيف الإدارة العامة لشؤون الابتعاث في وزارة التعليم، إذ تصنف البلدان إلى فئتين، الأولى تشمل أميركا الشمالية وأميركا الجنوبية وكندا وأوروبا واليابان وأستراليا ونيوزيلندا وتشمل الفئة الثانية الدول الأخرى عربية وإسلامية وغيرها.
وتعد الولايات المتحدة الأميركية أكبر دولة يتم ابتعاث الطلاب والطالبات السعوديات إليها، إذ تحظى بـ 30% من إجمالي الطلاب المبتعثين بعدد 125 ألف طالب وطالبة، وتليها بريطانيا بنسبة 15% ثم كندا بنسبة 11% فأستراليا بنسبة 8%، وفقا لإحصاء صادر عن وزارة التعليم في يونيو/حزيران الماضي، وتصل تكلفة نفقات المعيشة التي يحصل عليها المبتعث الأعزب في أميركا، خلال 4 أعوام دراسية إلى 90 ألف دولار دون احتساب الرسوم الدراسية التي تختلف حسب سياسة الجامعات، فيما تتضاعف النفقات في حال اصطحب المبتعث عائلته، ومن بين هؤلاء عبدالله المعيلي الذي عاد للتو من الولايات المتحدة الأميركية، يقول المعيلي إنه كان يتقاضى مخصصا شهريا يبلغ 1459 دولارا أميركيا بالإضافة إلى بدل ملابس 111 دولارا وبدل علاج 111 دولارا، وبدل كتب وتقارير، إضافة إلى ألفي دولار بدل تأمين سنوي، بينما يحصل المبتعث المتزوج على مخصص شهري للزوجة بقيمة 1459 دولارا وبدل علاج بقيمة 111 دولارا، يضيف حبشي الشمراني: "الأمر لا يقتصر فقط على مستقبل الطالب، بل يصل إلى هدر مليارات الدولارات على المبتعثين، من دون أن يستفيد الوطن منهم".
ارتفاع نسبة بطالة النساء
قد يكون حال المبتعث السابق نوح المطيري مؤلما، لكنه في نهاية المطاف يملك فرصا أكثر بكثير من نورة ومثيلاتها، إذ بعد مرور أكثر من 40 عاما على بدء توظيف النساء في السعودية "ما زالت الفرص الوظيفية للنساء محدودة، وتعاني المرأة السعودية من ندرة الفرص، بعد عقود من الزمن لم يكن أمام المرأة السعودية فيها من فرصة للعمل سوى في التعليم، أو القطاع الصحي، أو بعض البنوك، والخياران الأخيران لم يكونا متاحين لكثير من الفتيات"، وفقا لما أكدته الناشطة الحقوقية نورة بنت محمد، قبل أن تستكمل حديثها قائلة:"السر في أن غالبية السعوديات يعملن في التعليم، هو أن العائلات كانت ترفض أن تعمل بناتها في البنوك أو القطاع الصحي بحجة الاختلاط، لهذا من الطبيعي أن تكون البطالة بين السعوديات مرتفعة، لأنه لا مجالات توظيف حقيقية لهن"، وهذا الوضع هو ما جعل نسبة البطالة بين النساء في السعودية الأعلى بين الدول العربية، كما تقول، وهو ما يطابق بيانات رسمية لوزارة العمل صدرت قبل ثلاثة أشهر، كشفت عن تراوح نسبة البطالة النسائية في السعودية بين 23 و34 في المائة من قوة العمل، فيما تؤكد أرقام لهيئة الإحصاء الحكومية أن الرقم أعلى بكثير، ويصل حتى 48 في المائة من السعوديات الراغبات في العمل، يأتي ذلك وسط ارتفاع نسبة السعوديات الجامعيات.
وتتفق الناشطة الحقوقية الدكتورة ريم سعادة مع الآراء السابقة في أن وضع السعوديات في توطين الوظائف أسوأ بكثير من وضع الذكور، بسبب ندرة المجالات التي يمكن أن تعمل فيها، قائلة لـ"العربي الجديد": "هناك معاناة خاصة لحملة الشهادات الجامعية والعليا، ولكن بالنسبة للنساء، الوضع أكثر سوءا، قطاع التعليم مكتفٍ، والقطاع الصحي مليء بالوافدين، وبالتالي لا تملك الفتاة السعودية فرصاً حقيقية للعمل، سوى بائعة في محل، أو محاسبة براتب ألف ريال سعودي (266 دولارا)، مع أنها قد تحمل شهادة الماجستير في الاقتصاد، أو إدارة الأعمال".
ويكشف تقرير صندوق الموارد البشرية (هدف)، الذي صدر في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، أن 232 ألف سعودية يمثلن 21 في المائة من العاطلات عن العمل يحملن الشهادة الجامعية وما فوق، بينما يتجاوز عدد الحاصلات على الثانوية العامة 343 ألف سيدة بنسبة 31 في المائة ليبقى 14 في المائة لمن يحملن تعليما متوسطا بإجمالي 175 ألف سيدة، و16 في المائة لحاملات الشهادة الابتدائية، وتبين الأرقام ذاتها أن 49 في المائة من الباحثات عن عمل تتراوح أعمارهن بين 18 وأقل من 22 عاما بإجمالي 534 ألف سيدة، فيما يصل إجمالي السعوديات الباحثات عن عمل، واللاتي سجلن في برنامج إعانة البطالة (حافز) 1.4 مليون سعودية، يمثلن 77 في المائة من إجمالي الباحثين عن العمل في البلاد التي يسكنها نحو 31 مليون نسمة، منهم 11 مليونا من الوافدين، وبحسب أرقام (هدف) التي تعتبر المصدر الأوثق لبيانات البطالة، فإن 674 ألف سعودية يرغبن بالعمل في أي قطاع مهما كان.
هذه الأرقام، تم الإعلان عنها بعد أن قالت وزارة العمل والتنمية الاجتماعية إنها وظفت 454 ألف سعودية، بائعات في محلات المستلزمات النسائية، ومؤخرا تمكنت من توظيف 10 آلاف سعودية في محلات صيانة الهواتف الجوالة.
واقع مؤلم
تقف عوائق كثيرة أمام حصول السعوديات على الوظائف المناسبة، أهمها بحسب الخبيرة الاقتصادية نورة السعدي، عزوف الشابات عن العمل في القطاع الخاص بسبب تدني الرواتب وطول ساعات العمل، وتحكّم الوافدين في سوق العمل، وهو ما يتسبب في عدم وجود وظائف ملائمة للشهادات التي يحملنها.
"واقع مؤلم فعلا" هكذا تصف طبيبة الأسنان العاطلة عن العمل الدكتورة مريم العبدالله، معاناتها هي ونظيراتها، وتضيف في حديثها إلى "العربي الجديد": "تخيل أن تقضي 18 عاما من حياتك في الدراسة لتحصل على شهادة عليا، وفي نهاية المطاف لا تجد سوى وظيفة بائعة في محل، براتب زهيد جداً، وبساعات عمل طويلة، ولا تستفيد من أي معلومة تملكها، بل يتم توظيفك بالشهادة المتوسطة، وأحيانا بلا شهادات"، تستغرب العبدالله من تهافت وزارة العمل على توطين الوظائف المتدنية للفتيات، بينما تعمل وافدات في وظائف كبيرة، مستشهدة بتعيين الخطوط السعودية لمديرة وافدة للعلاقات العامة والإعلام، براتب 27 ألف دولار شهريا، قبل أن تتدخل هيئة مكافحة الفساد، وتعلن في الثلاثين من يناير/كانون الثاني الماضي أنها فتحت تحقيقا في القضية، وأن الوظيفة تعتبر شاغرة للسعوديين".
وتستغرب العبدالله من الوتيرة المتسارعة لوزارة العمل في توظيف المرأة في مهن لا تناسب مؤهلاتها الحقيقة، وهو ما انتهى بكثيرات منهن في وظائف غير دائمة، وتضيف: "هذا يعني أن كل تلك الوظائف التي تزعم وزارة العمل توفيرها، هي مجرد وظائف مؤقتة، لا يمكن أن تقود لتحسين نسبة البطالة، بسبب قلة فرص العمل الحقيقية وتدني معظمها، لا يمكن أن أوظف خريجة طب أسنان، بائعةً في محل تجزئة، أو فنية هواتف نقالة، وأقول إنني سعيت إلى تقليص البطالة، هذه جريمة في حق السعوديات".
شروط معقدة
تكشف دراسة رسمية أجرتها مؤسسة الملك خالد الخيرية في يناير/كانون الثاني 2017 أن معدل الفقر بين السعوديات ارتفع خلال السنوات الخمس الماضية، وتعاني 24 في المائة من السعوديات في منطقة مكة المكرمة من الفقر، وتبلغ النسبة 21 في المائة من السعوديات في الرياض، و10 في المائة من السعوديات في المنطقة الشرقية، كما بلغت نسبة النساء العاملات من محدودات الدخل 10 في المائة، ما يشي بارتفاع نسبة البطالة بين النساء الفقيرات رغم أن أكثر من نصفهن يتولين إعالة أحد أفراد أسرهن على الأقل.
ولا يقف الأمر عند ندرة الوظائف، بل يصل للشروط المعقدة التي تشترطها الشركات التي تتوفر فيها وظائف مناسبة، وعلى الرغم من عدم موافقة وزارة العمل على كثير من تلك الشروط التي تضعها الشركات الخاصة لتوظيف السعوديات، إلا أن شروطا من قبيل غير متزوجة، وغير منقبة، ويشترط كشف الوجه، كثيرا ما تصدم السعوديات الراغبات في العمل، إلى جانب تهرّب شركات عديدة من دفع مستحقات المرأة العاملة من إجازات أمومة وتأمين صحي لأبنائها وزوجها، وتؤكد وزارة العمل على لسان المتحدث الرسمي لها، خالد أبا الخيل، أن هذا الشرط غير قانوني، كما لا يجوز شرط التبرج للموظفة، غير أن العقوبة التي ينص عنها النظام، لا تتجاوز غرامة 10 آلاف ريال فقط، بحسب تعديلات أدخلتها وزارة العمل على نظام العمل الجديد في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2015، تحت مسمى الضوابط الشرعية لبيئة العمل، غير أن المتخصص في الموارد البشرية أحمد المبارك، يؤكد أن الشركات تحرص دائما على توظيف غير المتزوجات لتلافي مشاكل الانقطاع عن العمل بسبب الحمل والولادة، وأيضا التأمين الطبي، قائلا لـ"العربي الجديد": "كثير من الشركات لا تشترط ذلك صراحة، ولكن عند الاختيار يتم تفضيل غير المتزوجة، لأن مسؤولي الشركة، يعتقدون أن العازبة، يمكنها تحمل عبء العمل عكس المتزوجة التي تكون منشغلة بالعمل والأولاد".
ويؤكد المبارك أن المرأة السعودية بدأت تشق طريقها بكل قوة، مستشهدا بوجود ثلاثين سعودية كعضوات في مجلس الشورى، وكذلك اختيار سارة السحيمي عضواً في مجلس إدارة شركة السوق المالية السعودية، ويتابع: "هذا يؤكد أن المرأة السعودية تستطيع أن تكون على مستوى المسؤولية، وأنها منتجة وفعالة في القطاعات التقليدية، ولكن في المقابل مازال هناك كفاءات نسائية عالية محرومة من الفرص الوظيفية التي تليق بها".
وتستلم الخبيرة في التوظيف، والناشطة الحقوقية منال أبو راشد، دفة الحديث، لتؤكد أن البطالة النسائية شيء ملموس، وهي تتجاوز النسب الرسمية المعلنة، لأنها تدمج الباحثات عن العمل، مع ربات البيوت، وتتابع: "هناك من لا يريد أن يتم توظيف المرأة حتى يأخذ الفرصة شاب سعودي عاطل، بحجة أن الشباب هو المسؤول عن الإنفاق على الأسرة وهذا منطق غريب، وهو أحد أسباب ما تعانيه السعوديات من بطالة وفقر".