أثناء تشريحه للواقع الناتج عن دخول المنطقة العربية عصر الإعلام الفضائي. تحدث صباح ياسين في كتابه "الفضائيات العربية ـ الوقوف عند تخوم التفكيك". عن كون هذه الفضائيات -ومن خلال طبيعة العمل الإعلامي الذي قامت به وخصوصية هذا العمل- فتحت ملفات المنطقة العربية (وغير العربية) لتداول لم يسبق له نظير.
إن هذا الإطار النظري، يصلح إلى درجة كبيرة، لتحليل كلا الواقعين الإعلامي، والمجتمعي المرتبطين في المغرب بتجربة الإذاعات الخاصة.
الجانب الإيجابي من التجربة
نجحت عن سابق قصد حينا وبدونه في أغلب الأحيان، في "خدمة" المجتمع المغربي إعلامياً وتتجلى هذه الخدمة في مؤشرات كثيرة؛ أولها أن هذه الإذاعات شكلت محلياً، إعمالاً حقيقياً لمبدأ "منبر من لا منبر له". فقد وفرت هذه الأخيرة؛ وخصوصاً في البرامج التفاعلية، "قنوات" بالمفهوم الإعلامي، لفئات عريضة من المجتمع المغربي كانت مقصية ومحرومة من
أي منبر تستطيع التعبير من خلاله عن آرائها ومواقفها، حول ما يطرح للنقاش في الفضاء العام من قضايا.
من جهة ثانية؛ يسَّرت هذه الإذاعات الوصول إلى المعلومة، وغير ذلك مما يمكن أن يدخل في مسمى المعلومة بمفهومها التواصلي واللساني.
الجانب السلبي من التجربة
لغوياً
يُمكن الحديث عن "تفكيك لغوي" قامت به هذه الإذاعات؛ ذلك أنّ أغلبها، إن لم نقل كلها، أضحت تتمثل عن سابق تخطيط حيناً واضطراراً حيناً آخر، ما يميل إليه المستمع (المستهلك) من الاختيارات اللغوية.
وبما أنّ هذه المنابر تفاعلية، فإن اللهجات الدارجة بمختلف أقسامها وبنياتها المفاهيمية ومستوياتها التركيبية والدلالية، زاحمت اللغة العربية الفصحى التي بدأت تغيب بمعناها الدقيق، حتى على برامج المنابر التي ظلت إلى عهد قريب آخر معاقل هذا "الاختيار اللّسني".
ومما يرسخ هذا التوجه، أن هذه المنابر شبابية في الغالب في أطرها (صحافيون ومنشطون
وتقنيون)، وفي الفئات المستهدفة (المتلقون أو المرسل إليهم). وهو ما يمكن في خضمه، رصد تشكيلات لغوية، لا يكاد يتبين لسامعها من أي فصيلة لغوية هي، خصوصاً إذا استحضرنا معطى هاما يتعلق بتنوع الجذور اللسانية للواقع اللغوي المغربي المعاصر، هذا الذي تصب فيه روافد أمازيغية (بتشكيلاتها الثلاث) ولاتينية بروافد ثلاثة كذلك (فرنسية، إسبانية، إنجليزية).
معرفياً:
لعل من أخطر المستويات التي يمكن رصدها في سلبيات الإذاعات الخاصة في المغرب، ما يمكن الاصطلاح عليه بـ"الهرج المعرفي والفوضى المعلوماتية".
لقد أدى فتح هذه الإذاعات للتواصل بشكل مباشر مع مستمعيها، إلى بروز "قيادات فكرية جديدة"، تمثلت في جيل من "الخبراء" يتولون "الإفتاء" في مختلف القضايا، سياسية، دينية، طبية، اجتماعية... وهذا ما عبر عنه الدكتور عبد الله الغذامي بـ"سقوط النخبة وبروز
الشعبي"، لما تناول هذه المسألة في كتابه "الثقافة التلفزيونية"، وإن كان حديثه في هذا الأخير عن وسيط تواصلي آخر.
ويتجرّأ المتدخلون في البرامج الإذاعية التفاعلية من غير المتخصصين (وقد يكونون كذلك)، في مداخلاتهم على الخوض في مواضيع تحوز كل مقومات ما ينبغي "إلجام العوام عن الخوض فيه"؛ كما يقول أبو حامد الغزالي.
إنّ خطورة هذا الأمر تتجلى في كون "المداخلات" تتحول إلى "كلام" يتناقله سامعوه، وبعد مدة يغدو هذا الكلام "معلومة رائجة"، قبل أن يرتقي سلمية اليقين ليصبح "حقيقة علمية متواترة". كوصفات الطب البديل، وفوائد بعض الأطعمة التي يصرح بها على أثير هذه الإذاعات.
على مستوى الواقع
خلقت الإذاعات الخاصة في تجربتها المغربية، واقعاً تداولياً وتواصلياً جديداً، يتمثل في زعزعة المنظومة التي ينبني عليها نظام التواصل في نسخته التقليدية. وتقوم على تحديد دقيق لكل من المرسل والمرسل إليه وباقي عناصر العملية التواصلية.
هذا النظام انفرط عقده ولو جزئياً في العمل الإذاعي التفاعلي. فما دام المتفاعلون مع هذه الإذاعات أصحاب خطابات ورسائل يوجهونها عبر الأثير مباشرة، فقد أصبحوا يرتقون في أحيان كثيرة إلى مقام المرسل الذي كان سابقا حكراً على من يمثل المنبر الإعلامي في البث الإذاعي.
ويُلاحظ أن جمهور الإذاعات الخاصة، هو عبارة عن فئات، غير منسجمة، غير موحدة، وغير منظمة لا في توجهاتها ولا في مواقفها، وعليه يصعب الحكم عليها علميا وإخضاعها لدراسة كمية تفرز نتائج كيفية، من منطلق العينة العلمية التي تسري أحكامها على ما يشابهها من حالات.
أمام ذلك، تغدو هذه الإذاعات منابر لخطابين مجتمعيين اثنين: منابر للبوح والتنفيس عن المكبوت البيوـ سيكولوجي والسياسي وباقي الطابوهات، من خلال برامج النقاش الجريئة ومنتدياته المفتوحة، وهو أمر وإن مع طبيعيته التواصلية، إلا أنه يحيل مباشرة، لا على "عودة المكبوت" كما يسميه البعض، بل على حضور دائم لهذا الأخير في "المخيال واللاشعور الجمعي" للمجتمع المغربي.
والغريب أنّ ما يمكن أن نسميه "برامج البوح الليلي" في هذه الإذاعات، والتي تحظى بأكبر نسب الاستماع؛ لأنها قائمة على عقلية "التلصص"، هي برامج للبوح والتنفيس فقط ليس إلا. ذلك أن الساهرين مع هذه البرامج لم يعودوا ينتظرون أن تقدم لهم حلول لمشاكلهم التي تجعل عيونهم في جفون لا تنام، بل أن تتوفر لهم فقط فرص للحكي والبوح؛ في مجتمع ما زال الذهاب فيه إلى أخصائي أو استشاري نفسي خطوة لا يتم الإقدام عليها بسهولة!
والمجتمع الثاني هو عبارة عن منابر تساهم في تغذية مشاعر اليأس والقنوط عند فئات معينة؛ أساسهما أن الواقع لا يقبل الارتفاع، وهذا نتيجة مباشرة للواقع السابق. وهكذا يغدو كل ما تعبر عنه الفئات المتفاعلة مع هذه الإذاعات من انتقادات، صيحة في واد ونفخة في رماد.
وما دام أن للمواطنين من هذا النوع من حرية التعبير والإعلام انتظارت، فإن هذا يحيل على التساؤل الأهم: هل يمكن التعويل على هذه الإذاعات لتساهم بنصيبها، في خلق وتعزيز توجه في الرأي العام، يمكن التعويل عليه للضغط في سبيل إحداث تغيير في هذا الواقع الذي يخضع لهذا الكم الهائل من النقد والتشريح، على غرار ما حصل في تجارب مقارنة على رأسها التجربة الإسبانية في مجال الانتقال الديمقراطي، التي كان للإعلام الإذاعي مساهمة بارزة فيه؟ أم أن خطابات هذه المنابر عبارة فقط عن "عتاب" و"فضفضة" لا يتجاوزان في مستوياتهما الأكثر حضوراً وراديكالية، عتبة التفكيك Déconstruction؟!
نور الدين الحوتي، هو صحافي وباحث إعلامي مغربي