كان الطقس صحواً والصمت لا يقطعه إلا صوت عبارة صغيرة تأخذ السيّاح، مقابل دراهم قليلة، في جولة سياحية ببحيرة مارتشيكا في مدينة الناظور حاضرة ريف المغرب.
تعني مارتشيكا في اللغة الإسبانية البحر الصغير، وهي بحيرة قديمة مساحتها 120 كيلومتراً مربعاً، عمقها بين 0.5 إلى 7 أمتار وطولها 24 كيلومتراً، يفصل بينها وبين البحرالأبيض المتوسط شبه جزيرة بوقانا. سنة 1947 إبان الاحتلال الإسباني للريف المغربي (شمال)، حدث أن رمى مدٌّ إلى كورنيش المدينة المطل على البحيرة، بسمك البور أو "أبوري" كما يسمى في لهجة أهل الناظور الريفية. كان المكان مناسباً لتوالد هذا النوع من الأسماك الذي يسمى بسمك الفقراء، وبهذا الحدث تلتصق في ذاكرة الناظوريين سنة بناء "الكلوب" أو مقهى نادي ضباط البحرية الإسبانية.
صرح التاريخ على الماء
بني المقهى على الماء كما أريد له. أساساته مغروسة في مياه مارتشيكا قريباً من الكورنيش، ويقود إليه مدخل حجري عتيد. أول ما تفكر به عندما تقف أمام مبناها، أن مهندسها كانت تخطر بباله سفينة راسية وعما قريب ستنطلق لتمخر عباب الماء، لذا بناها على هيئتها.
في القديم كان اسم المكان نادي ضباط البحرية الإسبانية، لكنها اليوم تسمى بالنادي البلدي، حيث انتقلت ملكيتها بعد استقلال المغرب سنة 1956 إلى الجمعيّة الثقافية والاجتماعيّة للبحر الأبيض المتوسّط، المؤسسة فاتح أبريل/نيسان عام 1978، وسنة بعد ذلك في 1979 أعلنت بلدية الناظور عن سمسرة عمومية أفضت إلى كراء الجزء السفلي من النادي لمواطن مغربي مدة 99عاماً، بمبلغ يقدر بأن يكون رمزياً أسوة بأماكن أخرى عتيقة في المدينة، حسب اليزيد الدريوش، الباحث في تاريخ الريف في تصريحه لـ"العربي الجديد". فيما تستغل الجزء العلوي جمعية الأعمال الاجتماعية لموظفي بلدية المدينة.
أقرأ ايضاً:قناديل بحر غير سامة على سواحل المغرب
المالك الجديد لم تمتد يده بالتغيير لهندسة "الكلوب" الكولونيالية، بل أضاف إلى القطع التاريخية الأصلية الموجودة به، قطعاً أخرى أهديت له أو جمعها بنفسه. هذه القطع تتنوع بين مرساة كبيرة معلقة على صدر جدار دلالة على الملاحة التي كانت مهنة رواد المقهى، وبين آلات كاتبة ربما استعملت هناك في الرقن بوقت ما. على جدار آخر علقت حذوات حصان ترتبط بالفأل الحسن في العرف، وبنادق تراثية كالتي تستعمل في الفروسية التقليدية المغربية المعروفة باسم "التبوريدة"، ربما كانت هناك لترمز إلى تاريخ المنطقة الجهادي ضد المستعمر، كما علقت مصابيح قديمة من التي قد تحمل للتخييم في العراء فتعلق أعلى باب خيمة. وعلى جدار ألصق بجبس "التاغرا" إناء فخاري هو الطاجين يحمل خصوصية منطقة الشمال والشمال الشرقي في الصنع وأيضاً الطبخ، ومن علقه لم ينس أن يضع إلى جانبه الـ"مجمر" الفخاري، وهو وعاء يوقد فيه الجمر للطبخ أو للبخور، وهو هنا للطبخ.
في القاعة الداخلية للمقهى رصت مقاعد جلدية أمام طاولات خشبية، يبدو أنها لم تغير منذ وضعت هناك لأول مرة. لونها البني بهت دون أن ينقص من جمالها، تحس وأنت تمر بها أنك تود تحسّس الحكايا التي أريقت عليها من جلوسها لعقود متوالية.
هذه القاعة تفضي إلى أخرى جدرانها نوافذ مفتوحة على مياه مارتشيكا، تطل على جبال "تالا وين" كما ينطقها الإسبان، فيما تنطق في أصلها الريفي "طالا يون" أي الينابيع. سكان الريف كانوا من خلال اسم كهذا لجبال مطلة على الأطلسي يشعرونك برومانطيقية تسكنهم، هم الذين تحدثت كتب التاريخ دائماً عن بأسهم القتالي.
أقرأ ايضاً: برزخ طنجة: العيش في عالمين بلغات وثقافات عديدة
وإذا خرجت من باب صغير إلى جانب هذه القاعة، يمنحك "التيراس" بمقاعده البلاستيكية الجديدة وطاولاته من رخام حديث، إطلالة كاملة على الجبال والتي دبجت بشعار المملكة المغربية "الله، الوطن، الملك" قريب منها منارة بناها الإسبان في مرسى طائراتهم البرمائية التي كانت حسب تصريح الدريوش "تقصف مجاهدي الريف انطلاقاً منها بالغازات السامة، بعد أن فشلت براً في ردع المقاومة وإخمادها، تحديداً في الفترة ما بين 1923 و1926".
تاريخ مدينة
أساسات "الكلوب" تبدو صامدة بالرغم من أن بعضها تعرت منه أجزاء حتى ظهر حديدها. الأمر لم يمر دون أن تلتفت إليه بلدية الناظور، حيث استجابت سنة 2011 لقرار بوقف الاستغلال مع الهدم. يقول اليزيد الدريوش "اقترب بناء النادي من الهدم، وكان من الممكن أن يضيع جزء مهم من تاريخ المدينة، بالأخص وأن البناية مصنفة كتراث".
قرار الهدم بدا أنه مدعوم بالإضافة إلى المجلس البلدي لمدينة الناظور، من وكالة تهيئة ضفاف بحيرة مارتشيكا، حيث سبق ودعا مديرها العام سعيد زارو، خلال ندوة صحفية انعقدت في أكتوبر/تشرين الأول 2011، زوار "الكلوب" إلى التوقف عن ارتياده حفاظاً على حياتهم، قائلاً إن البناية سيطالها الهدم.
احتجاجات بعد ذلك قادها سكان مدينة الناظور حسب الدريوش "أبانت عن وعي السكان بأهمية تاريخ مدينتهم، بل التاريخ الإنساني لهذه المنشأة وكل المنشآت التاريخية الزاخرة بها المنطقة".
الطريق الصبور
عشاق مقهى النادي البحري كثر، مغاربة وأجانب، سياح وباحثون وطلبة تاريخ ومواطنون ينظرون إلى "طالا يون" فيحسون بعظمة صمود جبال الريف، وينظرون إلى المتوسط فيمتلؤون بآماله المشرعات. يجعل هذا من "الكلوب" محطة مفضلة لتناول فطور الصباح أو تناول شاي العصر.
أقرأ ايضاً:حكاية أشهر صانع شاي "أتاي" في المغرب
وبالرغم من أن المقهى أثري وموقعه مميز، إلا أن ثمن ثلاثة كؤوس من الشاي والعصير لا يتجاوز الأربعين درهماً. يقول محمد 30 سنة، زائر للمقهى صحبة زوجته وطفله بعمر السنة "المكان مناسب تماماً لفطور عائلي، هو غير صاخب وتتوقع أن تجد به فئة ذواقة من الناس، تحب التاريخ وتحترم تراث الإنسان".
حيث كان محمد وأسرته يتابعون تناول فطورهم، كانت طفلة بعمر السبع سنوات ترمي مع والدتها إلى الأسفل قطع الخبز لسمك البور "أبوري". سرعان ما كان يلتف حولها في حلقات نهمة بينما تتكتك كاميرا من يريد أن يؤرخ لحظة السمك "الداجن".
أقرأ ايضاً:رقصة الكدرة الماجنة في المغرب: غواية الروح والجسد
تعني مارتشيكا في اللغة الإسبانية البحر الصغير، وهي بحيرة قديمة مساحتها 120 كيلومتراً مربعاً، عمقها بين 0.5 إلى 7 أمتار وطولها 24 كيلومتراً، يفصل بينها وبين البحرالأبيض المتوسط شبه جزيرة بوقانا. سنة 1947 إبان الاحتلال الإسباني للريف المغربي (شمال)، حدث أن رمى مدٌّ إلى كورنيش المدينة المطل على البحيرة، بسمك البور أو "أبوري" كما يسمى في لهجة أهل الناظور الريفية. كان المكان مناسباً لتوالد هذا النوع من الأسماك الذي يسمى بسمك الفقراء، وبهذا الحدث تلتصق في ذاكرة الناظوريين سنة بناء "الكلوب" أو مقهى نادي ضباط البحرية الإسبانية.
صرح التاريخ على الماء
بني المقهى على الماء كما أريد له. أساساته مغروسة في مياه مارتشيكا قريباً من الكورنيش، ويقود إليه مدخل حجري عتيد. أول ما تفكر به عندما تقف أمام مبناها، أن مهندسها كانت تخطر بباله سفينة راسية وعما قريب ستنطلق لتمخر عباب الماء، لذا بناها على هيئتها.
في القديم كان اسم المكان نادي ضباط البحرية الإسبانية، لكنها اليوم تسمى بالنادي البلدي، حيث انتقلت ملكيتها بعد استقلال المغرب سنة 1956 إلى الجمعيّة الثقافية والاجتماعيّة للبحر الأبيض المتوسّط، المؤسسة فاتح أبريل/نيسان عام 1978، وسنة بعد ذلك في 1979 أعلنت بلدية الناظور عن سمسرة عمومية أفضت إلى كراء الجزء السفلي من النادي لمواطن مغربي مدة 99عاماً، بمبلغ يقدر بأن يكون رمزياً أسوة بأماكن أخرى عتيقة في المدينة، حسب اليزيد الدريوش، الباحث في تاريخ الريف في تصريحه لـ"العربي الجديد". فيما تستغل الجزء العلوي جمعية الأعمال الاجتماعية لموظفي بلدية المدينة.
أقرأ ايضاً:قناديل بحر غير سامة على سواحل المغرب
المالك الجديد لم تمتد يده بالتغيير لهندسة "الكلوب" الكولونيالية، بل أضاف إلى القطع التاريخية الأصلية الموجودة به، قطعاً أخرى أهديت له أو جمعها بنفسه. هذه القطع تتنوع بين مرساة كبيرة معلقة على صدر جدار دلالة على الملاحة التي كانت مهنة رواد المقهى، وبين آلات كاتبة ربما استعملت هناك في الرقن بوقت ما. على جدار آخر علقت حذوات حصان ترتبط بالفأل الحسن في العرف، وبنادق تراثية كالتي تستعمل في الفروسية التقليدية المغربية المعروفة باسم "التبوريدة"، ربما كانت هناك لترمز إلى تاريخ المنطقة الجهادي ضد المستعمر، كما علقت مصابيح قديمة من التي قد تحمل للتخييم في العراء فتعلق أعلى باب خيمة. وعلى جدار ألصق بجبس "التاغرا" إناء فخاري هو الطاجين يحمل خصوصية منطقة الشمال والشمال الشرقي في الصنع وأيضاً الطبخ، ومن علقه لم ينس أن يضع إلى جانبه الـ"مجمر" الفخاري، وهو وعاء يوقد فيه الجمر للطبخ أو للبخور، وهو هنا للطبخ.
في القاعة الداخلية للمقهى رصت مقاعد جلدية أمام طاولات خشبية، يبدو أنها لم تغير منذ وضعت هناك لأول مرة. لونها البني بهت دون أن ينقص من جمالها، تحس وأنت تمر بها أنك تود تحسّس الحكايا التي أريقت عليها من جلوسها لعقود متوالية.
هذه القاعة تفضي إلى أخرى جدرانها نوافذ مفتوحة على مياه مارتشيكا، تطل على جبال "تالا وين" كما ينطقها الإسبان، فيما تنطق في أصلها الريفي "طالا يون" أي الينابيع. سكان الريف كانوا من خلال اسم كهذا لجبال مطلة على الأطلسي يشعرونك برومانطيقية تسكنهم، هم الذين تحدثت كتب التاريخ دائماً عن بأسهم القتالي.
أقرأ ايضاً: برزخ طنجة: العيش في عالمين بلغات وثقافات عديدة
وإذا خرجت من باب صغير إلى جانب هذه القاعة، يمنحك "التيراس" بمقاعده البلاستيكية الجديدة وطاولاته من رخام حديث، إطلالة كاملة على الجبال والتي دبجت بشعار المملكة المغربية "الله، الوطن، الملك" قريب منها منارة بناها الإسبان في مرسى طائراتهم البرمائية التي كانت حسب تصريح الدريوش "تقصف مجاهدي الريف انطلاقاً منها بالغازات السامة، بعد أن فشلت براً في ردع المقاومة وإخمادها، تحديداً في الفترة ما بين 1923 و1926".
تاريخ مدينة
أساسات "الكلوب" تبدو صامدة بالرغم من أن بعضها تعرت منه أجزاء حتى ظهر حديدها. الأمر لم يمر دون أن تلتفت إليه بلدية الناظور، حيث استجابت سنة 2011 لقرار بوقف الاستغلال مع الهدم. يقول اليزيد الدريوش "اقترب بناء النادي من الهدم، وكان من الممكن أن يضيع جزء مهم من تاريخ المدينة، بالأخص وأن البناية مصنفة كتراث".
قرار الهدم بدا أنه مدعوم بالإضافة إلى المجلس البلدي لمدينة الناظور، من وكالة تهيئة ضفاف بحيرة مارتشيكا، حيث سبق ودعا مديرها العام سعيد زارو، خلال ندوة صحفية انعقدت في أكتوبر/تشرين الأول 2011، زوار "الكلوب" إلى التوقف عن ارتياده حفاظاً على حياتهم، قائلاً إن البناية سيطالها الهدم.
احتجاجات بعد ذلك قادها سكان مدينة الناظور حسب الدريوش "أبانت عن وعي السكان بأهمية تاريخ مدينتهم، بل التاريخ الإنساني لهذه المنشأة وكل المنشآت التاريخية الزاخرة بها المنطقة".
الطريق الصبور
عشاق مقهى النادي البحري كثر، مغاربة وأجانب، سياح وباحثون وطلبة تاريخ ومواطنون ينظرون إلى "طالا يون" فيحسون بعظمة صمود جبال الريف، وينظرون إلى المتوسط فيمتلؤون بآماله المشرعات. يجعل هذا من "الكلوب" محطة مفضلة لتناول فطور الصباح أو تناول شاي العصر.
أقرأ ايضاً:حكاية أشهر صانع شاي "أتاي" في المغرب
وبالرغم من أن المقهى أثري وموقعه مميز، إلا أن ثمن ثلاثة كؤوس من الشاي والعصير لا يتجاوز الأربعين درهماً. يقول محمد 30 سنة، زائر للمقهى صحبة زوجته وطفله بعمر السنة "المكان مناسب تماماً لفطور عائلي، هو غير صاخب وتتوقع أن تجد به فئة ذواقة من الناس، تحب التاريخ وتحترم تراث الإنسان".
حيث كان محمد وأسرته يتابعون تناول فطورهم، كانت طفلة بعمر السبع سنوات ترمي مع والدتها إلى الأسفل قطع الخبز لسمك البور "أبوري". سرعان ما كان يلتف حولها في حلقات نهمة بينما تتكتك كاميرا من يريد أن يؤرخ لحظة السمك "الداجن".
أقرأ ايضاً:رقصة الكدرة الماجنة في المغرب: غواية الروح والجسد