هنا في حي يسمى الحي اللاتيني في مدريد، المدينة المذهلة التي لا تنام، لن يدهشك، أيها العربي القادم من إرثك الأندلسي، فقط جمال المدينة، ذات القرميد الأحمر والمباني الحمراء، وذات الأماكن الكثيرة التي تعيدك إلى دمشق، وإلى رطوبة حاراتها. بل سيتوقف قلبك لما تمر في هذا الحي، في أحد أيام احتفال مدريد بعيدها، وتتوقف عند مسرح مفتوح يعلن احتفاءه بفرقة شهيرة جدّاً في إسبانيا، فرقة قادمة من غرناطة لكي تشارك في أعياد البلاد، هي فرقة "سالينا" لعزف وغناء ورقص الفلامنكو. وهي فرقة عريقة جداً كان قد أسسها لوركا احتفاء بفنّ الفلامنكو، الذي هو مزيج من الموسيقى العربية التي كانت تعزف أيام الوجود العربي في الأندلس على طول ثمانية قرون كاملة، والتي حملها معهم الأندلسيون، الذين قامت الملكة إيزابيلا والملك فرناندو بترحيلهم من أراضيهم، والحكم عليهم مع عدد كبير من اليهود بالموت، إذا لم يعتنقوا المسيحية، وقد صعدوا الجبال هرباً من بطش إزابيل ليصبح اسمهم المورسكيين. وفي الجبال، التقوا، أيضاً، بالغجر القادمين من الهند ومن أواسط أسيا.
وفي كل هذا القهر، نشأ فنٌّ جديد للعزف والغناء والرقص، هو فن الفلامنكو القادم من الآهات العميقة للمقهورين النازحين عن بلادهم.. أمّا أغاني كلماتها، فهي عبارة عن أشعار عميقة رائعة قادمة من الإرث الشعري، الذي حمله المورسكيون معهم، وتحمل النصوص إيقاعات الموسيقى العربية المميزة، ومواضيع الغناء العربية، وطريقة الغناء القادمة عميقاً من الحناجر.
وقد كان لوركا، الشاعر الإسباني الجمهوري، يقول دائماً بأنّه مدين لأغاني العرب الأندلسيين بنموّ موهبته الشعريّة، وبنمو خيال الصورة لديه. وكان، دائماً، يعتبر، أن إسبانيا بطردها للعرب الأندلسيين بتلك الهمجية، إنّما خسرت إرثاً كاملاً من الرهافة والجمال، لن تستطيع تعويضه لعدة قرون. وكان دائماً، وهو ابن غرناطة، يصرّح أنّه محبٌّ جدًا للجمال الحسي الذي حول الحجر في غرناطة إلى "دانتيل" مذهل الشفافية، وبأنّه معجبٌ جداً بالشعر الذي تركه الأندلسيون، والذي، أيضاً، كان حاملاً لكمّ هائلٍ من الصور الشعرية، ومن الحب، ومن الاحتفاء بالحياة، وبقيمها النبيلة.
ولأجل ذلك، أسّس لوركا هذه الفرقة لإحياء هذا الفن، ولكن، بعد إعدام لوركا خلال الحرب الأهليّة، توقفت الفرقة تماماً، مثلما توقفت كل الفرق الباقية. وتوقّفت أيضاً، أثناء حكم الجنرال فرانكو. ولكن، فرق الفلامنكو عادت لنشاطاتها بعد موت فرانكو، وبدء الديمقراطية الحقيقية في إسبانيا، وبدأت تتطور من خلال تطور المعزوفات، وتطور الرقصات المعبرة التي تؤدّيها أشهر راقصات إسبانيا، ومن خلال اختيار الأشعار التي تغنيها، والتي كان أكثرها للشاعر لوركا نفسه، ولمختارات من قصائد لشعراء إسبان معروفين. وهكذا، بدأت تأخذ شهرة كبيرة، وبدأت تتنقل بين المدن الإسبانية، وبين العواصم العالمية.
اقــرأ أيضاً
ليس هذا ما سيجعل قلبك يتوقّف في صدرك، يا أيها العربي القادم إلى مدريد، وإنما هو سماعك لقائدة الفرقة تعلن بالاسبانية، بأنّها ستبدأ حفلتها بقصيدتين مذهلتين كما سمتهما، وإنها تعترف بأنّهما من أجمل ما غنّت، وبأنّها كانت تتمنى لو كانت تستطيع أن تغنّيهما بلغتهما الأصلية، لكنها مضطرة لأن تغنيهما مترجمتين للإسبانية. وحين تقول إن القصيدتين هما للشاعر العربي ابن عربي، وللشاعر الأندلسي ابن هاني الأندلسي، عندها ستعيش شعوراً غريباً جداً، شعوراً هو مزيج من الفرح والفخر، وبنفس الوقت الحزن والقهر.
وفي كل هذا القهر، نشأ فنٌّ جديد للعزف والغناء والرقص، هو فن الفلامنكو القادم من الآهات العميقة للمقهورين النازحين عن بلادهم.. أمّا أغاني كلماتها، فهي عبارة عن أشعار عميقة رائعة قادمة من الإرث الشعري، الذي حمله المورسكيون معهم، وتحمل النصوص إيقاعات الموسيقى العربية المميزة، ومواضيع الغناء العربية، وطريقة الغناء القادمة عميقاً من الحناجر.
وقد كان لوركا، الشاعر الإسباني الجمهوري، يقول دائماً بأنّه مدين لأغاني العرب الأندلسيين بنموّ موهبته الشعريّة، وبنمو خيال الصورة لديه. وكان، دائماً، يعتبر، أن إسبانيا بطردها للعرب الأندلسيين بتلك الهمجية، إنّما خسرت إرثاً كاملاً من الرهافة والجمال، لن تستطيع تعويضه لعدة قرون. وكان دائماً، وهو ابن غرناطة، يصرّح أنّه محبٌّ جدًا للجمال الحسي الذي حول الحجر في غرناطة إلى "دانتيل" مذهل الشفافية، وبأنّه معجبٌ جداً بالشعر الذي تركه الأندلسيون، والذي، أيضاً، كان حاملاً لكمّ هائلٍ من الصور الشعرية، ومن الحب، ومن الاحتفاء بالحياة، وبقيمها النبيلة.
ولأجل ذلك، أسّس لوركا هذه الفرقة لإحياء هذا الفن، ولكن، بعد إعدام لوركا خلال الحرب الأهليّة، توقفت الفرقة تماماً، مثلما توقفت كل الفرق الباقية. وتوقّفت أيضاً، أثناء حكم الجنرال فرانكو. ولكن، فرق الفلامنكو عادت لنشاطاتها بعد موت فرانكو، وبدء الديمقراطية الحقيقية في إسبانيا، وبدأت تتطور من خلال تطور المعزوفات، وتطور الرقصات المعبرة التي تؤدّيها أشهر راقصات إسبانيا، ومن خلال اختيار الأشعار التي تغنيها، والتي كان أكثرها للشاعر لوركا نفسه، ولمختارات من قصائد لشعراء إسبان معروفين. وهكذا، بدأت تأخذ شهرة كبيرة، وبدأت تتنقل بين المدن الإسبانية، وبين العواصم العالمية.
ليس هذا ما سيجعل قلبك يتوقّف في صدرك، يا أيها العربي القادم إلى مدريد، وإنما هو سماعك لقائدة الفرقة تعلن بالاسبانية، بأنّها ستبدأ حفلتها بقصيدتين مذهلتين كما سمتهما، وإنها تعترف بأنّهما من أجمل ما غنّت، وبأنّها كانت تتمنى لو كانت تستطيع أن تغنّيهما بلغتهما الأصلية، لكنها مضطرة لأن تغنيهما مترجمتين للإسبانية. وحين تقول إن القصيدتين هما للشاعر العربي ابن عربي، وللشاعر الأندلسي ابن هاني الأندلسي، عندها ستعيش شعوراً غريباً جداً، شعوراً هو مزيج من الفرح والفخر، وبنفس الوقت الحزن والقهر.