استمع إلى الملخص
- عائلة أبو القمصان تعرضت لمأساة كبيرة في 31 أكتوبر 2023، عندما قصف منزلهم، مما أدى إلى استشهاد 20 فرداً، بينهم الجد عبد الله أبو القمصان، والناجون يعانون من صدمة فقدان أحبائهم.
- تستمر الحملة العسكرية الإسرائيلية على مخيم جباليا، مما تسبب في نزوح قرابة مائة ألف شخص وسط ظروف إنسانية صعبة، مع غموض يكتنف نهاية العملية.
لا أعلم إلى أين سيأخذني قلمي في رصد وتوثيق مئات المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بحق أهالي مخيم جبالي،ا شمالي غزة، وسط جرائم الإبادة المستمرة على القطاع منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023. لكن كلّ ما أعرفه أنني خذلت نفسي ودماء شهداء الحيّ الذي أسكنه حين انتظرت كل هذه المدة للبدء في الكتابة عنهم. ولأنه لا وقت للتبريرات، فإنّ هذه الشهادات بمثابة بوابة على مئات القصص عن شهداء في مخيم جباليا مُسحوا من السجلّ المدني، في الوقت الذي تستمر فيه آلة الحرب بحصد المزيد من أرواح الأبرياء.
معروف بين أبناء مخيم جباليا أن أهالي بلدة دير سنيد المحتلة لديهم نصيب الأسد من قوائم الشهداء منذ بداية الانتفاضة الثانية، أي مع بداية الألفية الثانية، من بين تلك العوائل عائلة حجازي وعائلة مسعود وعائلة أبو نصر التي ارتقى فيها أكثر من 125 شهيدا، جلهم من الأطفال والنساء، قبل شهر، وعائلة أبو القمصان التي مسح الاحتلال معظم أفرادها.
أقل عائلة من عوائل دير سنيد قدمت على الأقل شهيدين. تقريبا خلال الـ20 تصعيداً عسكرياً إسرائيلياًً على غزة في ربع القرن الأخير، وقبل هذه الإبادة، كان يرتقي ما بين خمسة وعشرة شهداء من البلدة في كل هجمة. تمركزت عوائل بلدة دير سنيد بعدما تم تهجيرها إلى منطقة "بلوك 6"، التي أطلق عليها منذ عام 1956 "حي السنايدة"، حين تفرعت تلك العوائل وازداد عددها، انتقل بعضها إلى حدود المخيم، كمنطقة مشروع عامر ومدينة بيت لاهيا ومنطقة التوام، غرب غزة، وبقي البعض في الحي ذاته.
من بين تلك العوائل التي بقيت في حي السنايدة عائلة عبد الله أبو القمصان وكنيته "الحاج أبو الذيب"، وهو من مواليد 1952، ويعد من كبار بلدة دير سنيد، لديه خمسة ذكور وأربع إناث وقرابة 30 حفيدا. جميع أبنائه صغارهم وكبارهم متميزون في كرة الطائرة، لعبوا في أندية المخيم حتى أصبح معروفا في الحي أن أغلب ذكور أبو القمصان يجيدون هذه اللعبة بدرجات متفاوتة.
ومما أذكره أنه خلال شهر رمضان يبدأ أبناء الحي بعد صلاة العصر منافسات شعبية في كرة الطائرة في الساحات الضيقة بالمخيم، حيث تكون الأجواء ممتعة ويصحبها جمهور كبير من الكبار والصغار، حتى أنني فوجئت مرة بأن العم أبو القمصان الذي تجاوز عمره السبعين عاما، قد شارك في جولة قصيرة من لعبة كرة الطائرة مع أبناء الحي، ولم يفقد مهارته رغم تقدمه بالعمر وجسده الضعيف.
في 31 أكتوبر 2023، تحول منزل الحاج "أبو الذيب" المشيد منذ عام 1956، إلى حفرة كبيرة، عمقها قرابة أربعة أمتار واستشهد كل من فيه
وبالعودة إلى جوهر القصة؛ ففي لحظة الهجمات الإسرائيلية السابقة، هناك تكتيك تتبعه العوائل التي تعيش على أطراف المخيم، إذ تنزح داخليا إلى المنازل الواقعة في عمقه، على اعتبار أنها آمنة. إذ كانت هناك ثقافة لدى أبنائه، ترى أن من الإيجابيات القليلة لتلاصق المنازل والكثافة السكانية، منع إسرائيل من ارتكاب مجازر في تلك المناطق خوفا من الرأي العام، ولكن مع الإبادة المستمرة على غزة وتحديدا في مخيم جباليا، لم يعد لهذا التكتيك أي قيمة.
بحكم أن منزل أبو القمصان هو "بيت الجد"، فقد نزح داخليا كل عوائل أبنائه بزوجاتهم وأطفالهم وبناته المتزوجات بأطفالهن، وأصبح في المنزل المغطي بالقرميد ومساحته تقريبا 130 مترا قرابة 35 شخصا. عصر يوم 31 أكتوبر 2023، تحول منزل أبو القمصان المشيد منذ عام 1956، إلى حفرة كبيرة، عمقها قرابة أربعة أمتار واستشهد كل من فيه، وكذلك حصل لمنزل شقيقه محمد "أبو فراس" الملاصق له الذي استشهد كل من فيه.
في لحظة واحدة، مسحت إسرائيل معظم أفراد عائلة أبو القمصان. ارتقى عبد الله أبو القمصان، بصحبة بناته وأطفالهن وزوجات أبنائه وأطفالهن، وشقيقه حسين، وقد وصل عدد الشهداء إلى عشرين شهيدا؛ ومن نجا منهم لم يكن في المنزل، وأكثرهم من الذكور. أغلب الشهداء لم يتم العثور على جثثهم، بل فقط على أجزاء من بعضها، ودفن ما تبقى منهم في قبر واحد.
عندما عدت وجدت حفرة كبيرة دفن فيها كل أهلي، حتى الآن ما زلت أشعر بأنني في كابوس
يقول الناجي محمود أبو القمصان (35 عاما)، وهو الابن الأصغر: "غبت قرابة ساعتين عن المنزل، لإحضار الدواء الذي طلبه والدي وبعض حاجيات أخواتي، وعندما عدت وجدت حفرة كبيرة دفن فيها كل أهلي، حتى الآن ما زلت أشعر بأنني في كابوس".
يشعر محمود، لاعب كرة الطائرة المحترف، بأن الدنيا أصبحت ضيقة جدا، ويضيف: "كنت أعيش وسط عائلة حيوية وعفوية، أحزن وأضحك وأتفاعل معهم، فجأة اختفوا، في الحقيقة لا يمكن تفسير شعور أن حياتك الخاصة أصبحت صغيرة جدا، أقرب صديق لي الآن ذاكرتي، وأتمنى أن لا تخونني في يوم ما".
أما الشقيق الأكبر لمحمود وهو ذيب (46 عاما)، الذي يحمل رتبة مقدم في الشرطة الفلسطينية، فقد مسحت عائلته كلها، أبناؤه الخمسة وزوجته بجانب والده وشقيقتيه وعمه، يقول بمرارة: "لا كلام يصف ما حل بنا، إن الصمت هو العلاج الحقيقي لشخص فقد كل شيء".
ضمت قائمة الشهداء عائلة أبو القمصان: عبد الله أبو القمصان (72 عاما)، أمية عبد الله أبو القمصان (45 عاما)، إيمان عبد الله أبو القمصان (33 عاما)، وأبناؤها الثلاثة، يامن وزين ويزيد جبر حميد (عشر، وخمس، وثلاث سنوات على التوالي)، نور أبو القمصان (43 عاما)، زوجة ذيب، محمد ذيب أبو القمصان (18 عاما)، عبد الله ذيب أبو القمصان (19 عاما)، رهف ذيب أبو القمصان (17 عاما)، ليان ديب أبو القمصان (عشرة أعوام)، عبد الرحمن ذيب أبو القمصان (ثلاثة أعوام)، حسين أبو القمصان (62 عاما)، شقيق عبد الله.
كل الدماء التي سالت والأرواح التي ارتقت وجيش الاحتلال الإسرائيلي ما زال يشن حملة عسكرية على مخيم جباليا هي الرابعة منذ بداية عمر الإبادة، مصحوبة بحملة تجويع، متبعاً أسلوب نسف المباني ثم تجريف ما تبقى من الركام، في مخطط لتحويل مخيم جباليا إلى ساحة فارغة، وقد أنهى الجزء الشرقي منه، وحوله فعلا إلى منطقة قاحلة خالية من أي شيء سوى من رائحة البارود وما تبقى من آثار المسح. وانتقل إلى منطقة الفاخورة المكتظة بالسكان والتي تعد استراتيجية تربط مشروع بيت لاهيا مع منطقة بئر النعجة مع مخيم جباليا. لا أحد يدري متى تنتهي هذه العملية وإلى أي مدى قد تصل وحشيتها، ولكن ما هو معروف أن قرابة مائة ألف شخص، من بينهم أخواتي الخمس وأمي و14 حفيداً، محشورون في شارع طوله قرابة 700 متر، ممتد بين سوق مشروع بيت لاهيا إلى مشفى كمال عدوان، شمال غزة، الذي كان ومحيطه هدفاً مستمراً لجيش الاحتلال.