"ديجافو" الحوار الليبي
حاول كثيرون من علماء النفس تفسير ظاهرة "ديجافو"، والتي تصف الشعور الذي ينتابك، حينما تشعر بأنك رأيت هذا الموقف الذي يحدث أمامك في الماضي، بل وفي بعض الأحيان تشعر بأنك عشته بكل تفاصيله، وهو ما يعرف بـ "وهم استباق الرؤية". ولعل ما يحدث، قبل الحوار الليبي المزمع عقده في تونس بعد غد الإثنين (التاسع من نوفمبر/ تشرين الثاني) جعل كثيرين يشعرون وكأنهم يعانون من الـ "ديجافو"، فمعظم النقاش الذي يدور على الساحة السياسية الليبية حالياً هو استنساخ لما حدث من جدال سبق حوار الصخيرات في المغرب، والذي أفضى، في العام 2015، إلى استحداث المجلس الرئاسي الذي يتولى زمام بعض الأمور، وخصوصا في طريق السكة (مقره الرئيسي). وما بين الصخيرات وتونس العاصمة فترة امتدت أكثر من خمس سنوات، ذاق فيها الليبيون الحرب والتهجير، ودخلت فيها البلاد في حالةٍ من هشاشة المؤسسات، وضعفٍ في توفير الاحتياجات الأساسية، وظهور نشاط فعال للمليشيات والجماعات الإجرامية، وتصاعد الخطف والابتزاز. وازداد دور التدخل الخارجي في الشأن الليبي، وأصبحت ليبيا مقصدا لمرتزقة كثيرين، واستباحت جنوبها مجموعات أفريقية مختلفة، سيطرت على معظم المدن الحدودية، لتدير من خلالها عمليات التهريب بأنواعها المختلفة. وعلى الرغم من وجود اتفاقيةٍ بين النيجر وتشاد والسودان وحكومة الوفاق في طرابلس، لتأمين الحدود المشتركة، إلا أن ضعف مؤسسات الحكومة جعل هذه الدول أكثر فاعلية في هذه المنطقة، وقد ساعد هذا الوضع على تكوين قوة عسكرية لحماية الحدود بين النيجر وليبيا، يقودها زعيم المتمرّدين النيجيريين (Barka Sidimi)، على الرغم من تاريخه الطويل في الاتجار بالبشر.
اقترحت لحضور حوار تونس الأسماء نفسها، وخصوصا التي يعتبرها معظم الليبيين شخصياتٍ جدلية
اقترحت لحضور حوار تونس الأسماء نفسها، وخصوصا التي يعتبرها معظم الليبيين شخصياتٍ جدلية، ساهمت في ابتداع مجلس رئاسي بتسعة رؤوس، مع فرق بسيط، أن بعض الذين حضروا اتفاق المغرب، ووقعوا عليه، تمت مكافأتهم بمناصب عليا، تنوّعت ما بين سفراء ومستشارين لدى المجلس الرئاسي، نوعا من رد الجميل. هؤلاء تم استبدالهم بآخرين، ولا أحد يعرف الآلية التي تم بها اختيار الأولين، ولا اللاحقين.
وقد حاول الليبيون معرفة كيف اختار المندوب الأممي في حوار الصخيرات، مارتن كوبلر، الشخصيات التي حضرت ذلك الاتفاق، ولكن يبدو أن ذلك من الألغاز التي لا يفك طلاسمها إلا مندوبو الأمم المتحدة، خصوصا وأنهم أعادوا الكرّة مع الرئيسة بالإنابة لبعثة الأمم المتحدة في ليبيا، ستيفاني وليامز، ولم يفلحوا أيضاً، وقد صرّحت، أخيرا، بأنه لا داعي للخوض في التفاصيل، وأن التركيز يجب أن يكون على النتائج وليس على الحضور. وعلى كل حال، يبدو أن آلية الاختيار واحدة، لأنها أفرزت الأسماء نفسها، واقترحت المكونات نفسها، مع اختلاف واحد فقط، المسافة بين الصخيرات وتونس العاصمة.
وحيال هذا الواقع الليبي الذي لا يدرك الليبيون تفاصيله، ولا تحقّ لهم مناقشته، ولا يعرفون طريقة التعامل معه، هناك انقسام في الشارع الليبي، فمنهم من بات مرحباً بهذا الحوار، ومنتظراً بفارغ الصبر انعقاده ورؤية نتائجه، ومنهم من لا يزال مشكّكاً في قدرته على تحقيق أي نجاح، معتبرا أن الدول النافذة التي تدير الأزمة الليبية قد قرّرت إطالتها بدلا من إيجاد حلٍّ جذري لها.
إضافة إلى مؤشّرات البطالة التي وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، أصبحت قوارب الموت عبر المتوسط تعجّ بالعائلات التي تبحث عن أحلام وحياة لم يجدوها في وطنهم
الفريق المنتظر لهذا الحوار (سواد الشعب الليبي)، تسلح بالانتظار، والتفاؤل الذي قد يطل من بين ركاب الانهيار والظلم والفساد، وشبح التقسيم، على أمل أن يحصل شيء ما قد يؤدي إلى التغيير نحو الأفضل، ويعزون سبب تفاؤلهم إلى أن نتائج الحوار مهما كانت لن تكون أكثر سوءا من الوضع الحالي الذي تم فيه احتكار المشهدين، السياسي والاقتصادي، من أفراد وكياناتٍ مسلحة لا تبحث إلا عن المصلحة الآنية لأفرادها، ولمن يدور في فلكهم. أما الفساد فقد أصبح ظاهرة واضحة للجميع، ولم يعد حكراً على حالات فردية. وقد طاول، أخيرا، وزراء ووكلاء ومديري شركات كبرى. ولعل المضحك المبكي أن تصل تهم الفساد إلى رئيس لجنة مكافحة الفساد الذي أصدر النائب العام أمرا بإيقافه والتحقيق معه. كما شملت أوامر القبض مدير المصرف الليبي الخارجي الذي يدير رأس مال يقدر بأكثر من خمسة مليارات دولار، ومدير قطاع الاستثمار في المصرف، ووكيل شؤون الديوان في وزارة الحكم المحلي، ووزير الحكم المحلي المفوض ووكيل التعليم ووكيل الصحة. ولا يزال مسلسل الإيقافات مستمراً، حيث تشير الأنباء إلى وجود قائمة أخرى من المسؤولين الذين سيطاولهم قرار الإيقاف. وقد اعترف وزير الداخلية في حكومة الوفاق، فتحي باشاغا، بذلك قائلا: "لدينا مشكلة كبيرة هي مشكلة منظومة الفساد، الذي استشرى في كل مكان، وأصبح موجودا في كل المؤسسات، وله عصابات، وهناك فساد قهري وفساد طوعي، وتحاول الوزارة ملاحقته والحد منه".
بالإضافة إلى مؤشّرات البطالة التي وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، وأصبحت قوارب الموت عبر المتوسط تعجّ بالعائلات التي تبحث عن أحلام وحياة لم يجدوها في وطنهم، ناهيك بالشباب الذي أصبح غرقه على شواطئ إيطاليا، بحثا عن المستقبل الموعود، خبرا تكاد تتناقله وسائل الإعلام في كل يوم.
يتوق الليبيون إلى أن تترجم كل تلك الحوارات إلى واقع عملي ملموس، يخرجهم من التيه والإحباط
وفي المقابل، يرى الفريق المتشائم أنه ليس هناك من أمل يرتجى من هذه الحوارات، وحوار تونس لن يكون استثناءً عن غيره، وأنه سيكون "ديجافو متكرّراً"، خصوصا وأن المدخلات ظلت كما هي، وبالتالي لن تكون المخرجات أحسن منها، بل ذهب الأكثر تشاؤما من هذا الفريق إلى التخوف من أن ينطبق على نتائج حوار تونس بيت الشعر: ربّ يومٍ بكيتُ منه/ فلما صرتُ إلى غيره بكيت عليه. .. وربما وصل بهم الإحباط إلى الشعور بأن كل يوم أفضل من اليوم الذي يليه. يرى هذا الفريق أن النتائج لن تكون أكثر من تبادل كراسيّ لأسماء جديدة قديمة، تتميز بقدرتها على الخروج المتكرّر على الفضائيات، لتدغدغ المشاعر بالشعارات والوعود الفارغة، وسيستغلون وجودهم في السلطة بتأمين مستقبلهم، ليعودوا إلى أوروبا وأميركا بجوازاتهم الأجنبية، لينعموا بما تحصلوا عليه من أموال ومزايا في غياب أجهزة قادرة على المحاسبة والرقابة، في صورة أخرى من صور "الديجافو".
وما بين متفائلٍ يحدوه الأمل في رؤية نور في آخر النفق الطويل، حتى وإن كان خافتا، ومتشائم لا يرى ثمّة بوادر للانفراج والخلاص للخروج من دوامة الأزمات المتراكمة والمتفاقمة، يظل الجميع يتوقون إلى أن تترجم كل تلك الحوارات إلى واقع عملي ملموس، يخرجهم من التيه والإحباط الذي بات يتلبسهم، وينقذهم من موتٍ وصراعاتٍ تتربص بهم عند كل مطلع شمس.