"لا تَقْتُلْ"
هما عادة اثنان، دائماً. السيّد والعبد، الجلّاد والضحية. العاشق والمعشوق... وحدهما القاتل والقتيل لديهما ثالث يُكملهما، يتبعهما. إنه المقتول. فالقتيل ليس هو المقتول كما يُشاع. المقتول مفعولٌ به يحتاج فاعلاً، لذا هو صنفٌ على حدة، ضلعٌ آخر يُتمّم مُثلَّثَ القتل.
القاتل والمقتول وتلك المواجهة المخيفة بينهما. نظرة الأوّل، استعلاؤه، جبروته، قوله العلني أو الضمنيّ إنه الإله ما دام حقّ انتزاع الحياة ماثلا بين يديه. جزّ العنق بسكّين. إطلاق رصاصة في الصدغ أو بين العينين. الرمي من فوق مرتفع، من مروحيّة، من على شرفة. تكسير العظام، الحرق. الشنق. دقّ العنق، انتزاع الروح من بين الأسنان... إلخ. كلّ هذا متاح، ممكن، في متناول اليد. الآن وهنا، ثمّة من يمتلك المصير، يصنع اللحظة، يقطّر الوقت، بانتظار أن يوقفه، يلغيه. لا يتلذّذ القاتلُ بعذاب المرشّح للقتل بقدر ما يتلذّذ بلحظة ارتقائه هو، تفوّقه، نسفه سقف الجائز والمسموح والمبرّر والأخلاقيّ، ونزعه قضبان الإنسانية التي تكبّله. هنا، حيث أقف الآن، أطفو، انفلاتٌ تام، ولادةٌ من العدم، محوٌ لتاريخ الخليقة، عصيانٌ وتمرّدٌ على ما دُرج على تسميته السَّماء. حساب الآخرة؟ يا لها من مهزلة لا تخيف إلا الضعفاء. "لا تقتل"؟ معلومٌ إذاً أنّ القتل في دمائنا، وإذاً بلى، بإمكاني أن أقتل، وسأقتل، لأنّ العالم مبنيّ أساساً على فعل القتل! انظرْ في عينيّ، من تكون أنتَ وما يمكنك الآن ضدّي؟ لا شيء. لقد تحررتُ، تعرّيتُ، انفصلتُ. كلّ لحظة تمرّ في إطار هذه المواجهة، تدفع القاتلَ أبعد، أعلى، ها هو قد أصبح خارج الجاذبية، خارج مدار الأرض، في فلك على حدة، ها هو قادرٌ على رفع قبضته العملاقة، وبضربةٍ واحدة، يمكنه القضاء على ابن الأرض.
وإذ يَقتلُ القاتلُ، في المواجهة الأخيرة، يرفض المقتولُ أن يكون مجرّد ضحية. ينظر المقتول في عينيّ قاتله: سيكون لك ما تشاء، لكنك لن تأمن بعد قتلي شَرّي. لقد نظرتُ في وجهك ونظرتي هذي ستبقى محفورة في عينيك، حتى مماتك. لأنّك أجل، ستموت، وفي لحظة موتك، سأكون لك بالمرصاد. أنت تعرف تماماً أنّ بإمكاني أنا أيضاً قتلك. نحن متكافئون في الفرص، لكني اخترت ألّا أفعل. خياري هذا لا يخلّصني تماما من مقدرتي على القتل. إنه امتحاني اليومي. علاقتي بوجهك أخلاقية. "لا تقتل"، ليست وصيةً ربّانيةً فقط، بل هي "ما يأمرني به وجهُك. الوجه هو ما لا يمكننا قتله، أو هو الذي يكمن معناه في وصية "لا تقتل" (ايمانويل ليفيناس). وجه الآخر العاري، الهشّ، يطالبني بحمايته، بمساعدته، بحبّه. مسؤوليتي حياله هي وراء قراري بعدم القتل. لذا، فأنت اليوم إذ تقتلني، لا تراني، لأنّ الاعتراف بغيريتي يعني الاعتراف بإنسانيتي. لكنّي، برؤيتك مختلفاً عني، بطبع نظراتي في عينيك، أدرك أنّي أنزع عنك فرصة نزع وجهي من وجهك، إلى الأبد.
ماذا عن القتيل؟ إنّه من لم يواجه وجهَ قاتله قطّ ومن يقضي مجهولاً، مثل فاصلة في نصّ. قتلى بمئات الآلاف، بالملايين، وأعدادهم لا تحصى. يسقطون كالحشرات، مجهولين، متشابهين، دونما وجوه أو أسماء. هؤلاء، ضحايا بحقّ لأنهم لم يحظوا بفرصة مواجهة قاتليهم. هؤلاء، لا وجوه لهم، لذا فهم يُقتلون جماعياً، من غير احتساب، أعداداً وأرقاماً ومجموعات. يُسقِط الطيّارُ حمولته من المتفجّرات وصواريخه على شكلٍ في شاشته، مربع أو مستطيل أو دائرة، مجرّد مساحة افتراضية تدبّ عليها أهدافٌ متحرّكة. هو لا يرى أجساداً أو وجوهاً، فيمحو ويُعيد المحو، حتى تتسطّح المساحة، تُسوّى بالأرض، تهمد. أهالي هؤلاء بلا وجوه أيضاً. كتل لزجة تهوج وتموج، تلطم وتتوعّد، قبل أن ينفرط عقدها كحبيبات الزئبق.
"لا تقتل"، أحقاً؟ ألم يكن الأحرى أن نوصى: "لا تُبِدْ... وترحّم"؟