"نحن جيل المستقبل"
الذين تخطّوا منتصف العمر، في العالم العربي، لم تعد تعنيهم تلك العبارة التي طالما تغنوا بها صغاراً، أو شعروا بالانتماء لها شباباً، وكانوا يرددونها أو تتردد على مسامعهم مراراً: "نحن جيل المستقبل".
ربما مثّلت لهم تلك العبارة، فيما مضى، أملاً بصناعة التغيير، أو المشاركة فيه، والوصول إلى مستقبل عربي تتحقق فيه طموحات أوطانهم، كما تتحقق فيه طموحاتهم الشخصية. ها هم اليوم وصلوا إلى ذلك المستقبل الذي كان مأمولاً، وباتت عبارة "نحن جيل المستقبل" تخصّ جيلاً غيرهم. تُرى ماذا وجدوا في المستقبل العربي الذي وصلوا إليه؟
يثبت انكسار ثورات الربيع العربي وفشلها في تحقيق طموحها بالتخلص من الاستبداد والفساد، والوصول إلى الحرية والعدالة الاجتماعية، أن المستقبل الذي وصل إليه جيل منتصف العمر العربي اليوم هو غابة يأكل قويها ضعيفها. هذا باختصار هو "مستقبل" هؤلاء، الذين طالما تغنّوا به، وصُبّ في مسامعهم كلاماً عذباً وشعراً مُغنى، فارغاً من معناه بالطبع.
تغيّر مفهوم "الخصوصية" التي تتضمن حق الفرد في سريّة بياناته الشخصية تجاه الحكومة والمجتمع والأفراد الآخرين
المستقبل الذي صار واقعاً اليوم أن الهزيمة أمام العدو الخارجي، الذي احتل أرضنا ونهب خيراتنا، قد تكرّست على شكل علاقات دبلوماسية وتطبيع مع المحتل، وارتهان سياسي واقتصادي للإمبريالي. أما الاستبداد السياسي فقد تعمّق، وصار اسمه "الدولة العميقة". ولا يتحدثن أحد عن عدالة اجتماعيةٍ وتكافؤ فرص، سوى ما يرطن به الإعلام الحكومي الموجّه في بلادٍ لا تشارك في الحضارة الإنسانية المعاصرة بشيء؛ فلا ابتكار للتكنولوجيا، ولا تطوير للصناعة.
هل يدفع هذا الحال إلى الاكتئاب والإحباط والأسى؟ نعم طبعاً، وهل يمكن أن يدفع إلى غير هذا؟! على الرغم من ذلك، علينا أن نستبصر زاوية مضيئة في كل ما يحدث: فـ"المستقبل الذي بات حاضراً"، وقوامه غابة يأكل قويها ضعيفها، إنما نتج في بلاد مغلقة على نفسها أزيد من خمسة عقود، أقفلت أبوابها في وجه رياح التغيير. أما اليوم، فإن رياح التغيير لم تعد تحفل بالأبواب، وهي قادرة على الدخول مع الإنترنت، وتغيير القيم والممارسات، وتغيير الممكنات، ولم تكن ثورات الربيع العربي سوى أول بوادرها، ولن تكون آخرها بكل تأكيد.
لقد تغيّرت قواعد اللعبة. لم تعد "الدولة العميقة" صاحبة القرار الأوحد في صناعة شروط الحياة، ويمكن للأجيال الجديدة التي تنتمي اليوم إلى عبارة "نحن جيل المستقبل" أن تأمل بمستقبل أفضل حقاً تسوده العدالة، ولا يأكل فيه القوي الضعيف.
الفردية الجديدة التي وفّرتها وسائل التواصل الاجتماعي، يعبّر فيها الفرد عن ذاته، بينما يكون مهتماً بالآخرين من حوله، ومندمجاً معهم لا منعزلاً عنهم
لنراجع واقع الحال اليوم، وهو ليس محصوراً في إطار السياسة، فالأبواب المغلقة في السياسة كانت تدعمها أبواب مغلقة دون الحياة الخاصة لأفراد "الشعب" فيما مضى. أما اليوم، فقد شرّع الناس أبواب حيواتهم الخاصة أمام بعضهم بعضا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتغيّر مفهوم "الخصوصية" التي تتضمن حق الفرد في سريّة بياناته الشخصية تجاه الحكومة والمجتمع والأفراد الآخرين، أي حقه في عدم اطلاع أيٍّ منهم على معلومات تخصّه من دون إذن منه، إن أراد، كمعلومات تخص موقعه الحالي، أو نشاطاته اليومية، أو مشاعره الخاصة، أو هوية أصدقائه. لقد تحلل الناس من الحرج المتصل بعرض حيواتهم أمام الآخرين، فباتوا يعرضون تفاصيلها من دون تردّد: في أي مطعم يأكلون، بأي شيء يشعرون، بماذا يفكرون؛ إلى جانب التفاصيل التي تتعلق بأسرهم، ونجاحاتهم الشخصية، ثم بأفكارهم ووجهات نظرهم، بخاصة حين تدور في الأخبار أحداثٌ كبرى تشغل تفكيرهم. قد يرى بعضهم في هذا الواقع الجديد أمراً محموداً، وقد يرى فيه آخرون العكس، لكن المحصلة، في الحالين، أن الحياة الخاصة للأفراد لم تعد محاطة بالكتمان كما كانت من قبل.
هذه "الشفافية" المستجدة، يلزم أن نقرأها من زاوية ما تعنيه في شأن شعور الفرد بذاته في مجتمعنا. بكلمات أخرى: علينا أن نقرأها من زاوية تعارُضها أو توافقها مع "الثقافة الأبوية" التي تحكم مجتمعاتنا على أساس العادات والتقاليد، وإكراه الفرد على الانتظام في مجاميع تستند إلى صلات القربى أو الشعور الطائفي، وهي الثقافة التي وظفتها السلطات السياسية دائماً في صالحها، وطابقتها مع الشكل الذي تدير به شؤون البلاد والعباد.
لا تزال أدوات التكنولوجيا تغيّر في مجتمعاتنا القيم والمعايير، حين تجبر الأفراد على الانفتاح على بعضهم بعضاً
تتعارض هذه الشفافية من دون شك مع تلك الثقافة القديمة تعارضاً جذرياً، وربما تبشر بالانعتاق منها؛ إذ إنها تعبّر عن فرديةٍ تهتم بالحصول على "إعجاب" الناس، أو مناقشة الأفكار معهم، على عكس الفردية التي تعكس استخفافاً بالمجتمع، فتدفع شخصاً إلى تعطيل السير ليشتري غرضاً من باعة الإشارات الضوئية، وتدفع آخر إلى رفع صوت التلفزيون، حتى لو علم أنه يزعج جيرانه. تلك فردية تنطوي على شعور بالانعزال عن المجموع، وعن القضايا العامة. أما الفردية الجديدة التي وفّرتها وسائل التواصل الاجتماعي، فيعبّر فيها الفرد عن ذاته، بينما يكون مهتماً بالآخرين من حوله، ومندمجاً معهم لا منعزلاً عنهم.
والأمل أن هذه الشفافية التي أتاحتها وسائل التواصل الاجتماعي ستساعد في إشاعة أجواء للتغيير لا تتدخل بها القوى المسيطرة سياسياً، ما سيمثل بالضرورة فتحاً حضارياً مهماً في مجتمعاتنا، عجزت عن مثله كل المدارس التربوية والسياسية والحزبية والفكرية في العالم العربي، منذ أفكار النهضة الأولى قبل مائتي سنة.
التاريخ كعادته، يمور بالمتغيرات، ولا تزال أدوات التكنولوجيا تغيّر في مجتمعاتنا القيم والمعايير، حين تجبر الأفراد على الانفتاح على بعضهم بعضاً، بصفاتهم الفردية المجرّدة، وتجعل التواصل بينهم متاحاً بلا قيود لحظة بلحظة. وبينما يتغير كل شيء، بعيداً عن مركزية الدولة المستبدّة، يختلف الناس إن كان ذلك تغيّر نحو الأحسن أم نحو الأسوأ. ولعل لدى كل واحد من الطرفين مبرّراته في ما يعتقد. فالأول يرى أن الحياة تتغير نحو "الأسهل". أما الثاني، فيراها تتغير نحو "الأعقد". لكن المثير للانتباه أن أياً من الطرفين لا دخل له في تشجيع ما يعتقد؛ فلا الطرف الأول يدفع التغيير قدماً، ولا الثاني يفعل شيئاً لوقف تقدّمه وسيطرته. والتاريخ لا يرجع إلى الوراء.