آبي أحمد والمأزق الإثيوبي
إثيوبيا، البلد الكبير مساحة وسكانا، وتاريخا وحضارة، والذي يعد، بحق، بمثابة أكبر متحف للشعوب والإثنيات واللغات الحية في عالم اليوم، يمر اليوم بأزمة هي الأخطر في تاريخه الحديث والمعاصر، وخصوصا بانفجار هذه الحرب الناشبة حاليا بين الحكومة المركزية وإقليم تيغراي، بعد مرحلةٍ، ربما هي الأولى والأقصر في تاريخ هذا البلد، بدأت تشهد تحولات كبيرة سياسية واقتصادية، لم تعرفها إثيوبيا من قبل، منذ صعود رئيس وزرائها الحالي، آبي أحمد، في 2 إبريل/ نيسان 2018، على إثر ثورة شعبية سلمية احتجاجية، تصدرها شباب قومية الأورومو التي ينتمي إليها آبي أحمد نفسه، بعد تقديم رئيس الوزراء الأسبق، هايلي مريام ديسيالين، استقالته على إثر تلك الاحتجاجات.
انفجار الحرب في 5 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، في إقليم تيغراي (هضبة إثيوبيا الشمالية) بين حكومة هذا الإقليم والحكومة المركزية الفدرالية في أديس أبابا، لم يكن سوى رأس جبل جليد الأزمة السياسية المعقدة والمتراكمة إثيوبيا، والتي أدت إلى تأجيل الانتخابات التي كان مقرّرا لها أن تُعقد في أغسطس/ آب الماضي، كما أدّت إلى إقدام حكومة إقليم تيغراي على إقامتها، في تحدّ كبير للحكومة الفدرالية، وهذه كلها مقدّمات أدّت إلى الحرب الدائرة اليوم في الإقليم التي لا يستطيع أحد التكهن بمآلاتها ومصيرها قريبا، إذا ما استمرّت، ولم تستجد فرصة لإيقافها، والعودة إلى طاولة حوار وطني إثيوبي.
آبي أحمد القادم إلى الحكم من بوابة مرحلة انتقالية سياسية غير انتخابية حاول تجاوز الشرعية الانتخابية بشرعيةٍ إصلاحيةٍ إنجازية
إثيوبيا الفدرالية الحديثة التي تشكلت على إثر سقوط النظام الاشتراكي بقيادة منغستو هيلا مريام عام 1990، على يد جبهة تحرير تيغراي وحلفائها، بقيادة رئيس الوزراء الأسبق، ميلس زيناوي، والذي يعد صاحب فكرة الفدرالية الإثنية الإثيوبية، والتي تعد مأزقا سياسيا لدى تيار سياسي إثيوبي عريض، كما تعتبرُ مكسبا سياسيا أيضاً لدى تيار سياسي آخر، باعتبارها (الفدرالية الإثنية) حلا لمسألة الصراعات الإثنية الدائمة التي تزخر بها القارة الأفريقية كلها.
أما آبي أحمد القادم إلى سدّة الحكم من بوابة مرحلة انتقالية سياسية غير انتخابية (كان يفترض أن تتوج بانتخابات ديمقراطية) لكنه حاول تجاوز الشرعية الانتخابية بشرعيةٍ إصلاحيةٍ إنجازية، بإجراء إصلاحاتٍ سياسيةٍ استباقية، استبشر بها الإثيوبيون كثيرا، خصوصا قوميته الأورومية، والتي تحتل المرتبة الأولى سكانيا في إثيوبيا، وعاشت مرحلة طويلة من التهميش والإقصاء، وهو ما دفع بها إلى الثورة والاحتجاج على هذا التهميش، إلا أن الإجراءات التي قام بها آبي أحمد لاحقا فيما يتعلق بتفكيك الجبهة الديمقراطية الثورية لشعوب إثيوبيا الحاكمة، والإعلان عن حزب الازدهار على أنقاضها، كل هذه الخطوات جعلت بعض الإثيوبيين يتوجسون خيفة مما يخطط ويهندس له آبي أحمد.
صحيحٌ أيضا أن آبي أحمد أحدث إصلاحاتٍ جريئة، فيما يتعلق بإطلاق السجناء وعودة المعارضين من الخارج، وتشجيع الاستثمارات الأجنبية واستقطاباتها في إثيوبيا، وإشاعة حرية الرأي، في وطنٍ ظل حبيس قبضة أمنية صارمة ثلاثين عاما، إلا أن التطورات التي تلت اغتيال الفنان الأورومي، هاتشالو هنديسا، في يونيو/ حزيران الماضي، والذي كان نجم الاحتجاجات التي أدّت إلى صعود آبي إلى الحكم، وقادها شباب حركة القيرو الأورومية، تلك الإجراءات التي تمثلت باعتقال معارضيين لآبي أحمد ومنافسين له، كالزعيم الأورومي الشاب جوهر محمد، وصديق آبي نفسه، لاما مجارسا الذي تنازل لصديقه آبي أحمد لتولي رئاسة الوزراء عقب استقالة ديسيالين، فقد مثلت هذه الإجراءات الأمنية تحولا مفاجئا وكبيرا في توجهات آبي السياسية، وأبانت ربما عن وجه آخر للزعيم الشاب آبي أحمد، الحاصل على جائزة نوبل للسلام (2019)، جرّاء عملية السلام مع جارتهم الشمالية إريتريا التي ظلت في حالة حربٍ مع إثيوبيا طوال العقدين الماضيين.
تفكيك الجبهة الديمقراطية الثورية لشعوب إثيوبيا الحاكمة، والإعلان عن حزب الازدهار على أنقاضها، جعل بعض الإثيوبيين يتوجسون خيفة مما يخطط له آبي أحمد
وباعتقاله المعارضين الأوروميين، ممن ينتمون لقوميته، وكانوا حلفاء له، دفع آبي أحمد مراقبين كثيرين إلى القول إن ثمة برنامجا آخر تماما له، غير معلنٍ عنه منذ البداية، وإن إعلان قيام حزب الازدهار، تتويجا وتفسيرا لنظرية آبي نفسه، التي تضمنها كتابه "مدّامَر" (بتشدد الدال وفتح الميمين)، والتي تعني باللغة الأمهرية الوحدة والتعاضد، يعد انقلابا كليا على فكرة الفدرالية الإثنية التي ترفعها حركة تحرير تيغراي، منذ تزعمها الائتلاف الحاكم في إثيوبيا منذ سقوط منغستو وحتى رحيل مليس زيناوي في 2012.
عدا عن ذلك، الجانب غير المعلن من الأزمة الإثيوبية الراهنة أن معارضين وخصوما لآبي يرون أنه لم يعد سوى غطاء يتستر به فصيل قومية الأمهرا، الطامحين لعودة أمجاد ملوكهم وأباطرتهم السابقين، من منلنك مرورا بهيلا سيلاسي وصولا حتى الزعيم اليساري منغستو، باعتبار أن الأمهرا يقدّمون أنفسهم أنهم فوق الهوية العرقية، وطبقة سياسية فوق التوصيف الأقلوي، باعتبارهم كانوا ملوكا وحكاما لإثيوبيا فترات طويلة.
مثل هذه الاتهامات يعزّزها الحضور القوي لطبقة من النخبة الأمهرية في الدوائر الضيقة من آبي أحمد وصناع قراره، فضلا عن انتماء زوجته وأمه لقومية الأمهرا، بل يذهب بعض من خصوم آبي إلى القول إنه (آبي) أورومي بعقل وقلب أمهري، وإن الحكم اليوم في يد الأمهرا تماما، مستدلين بإزاحة آبي رفاقه الأورومو، جوهر ولاما وغيرهما، وتقريبه النخبة الأمهرية. وأياً تكن وجاهة مثل هذه الاتهامات، فالأزمة الإثيوبية أعمق بكثير من مثل هذه الاتهامات، لأنها تتعلق بعمق فشل الوصول إلى اجتماع سياسي إثيوبي، يعيد حلحلة معضلة الصراع الإثني التاريخية، حول السلطة والثروة. فاليوم أيضا، يفتح ملف الحرب في إقليم تيغراي مزيدا من الأسئلة والملفات بشأن توجهات آبي أحمد، وتعقيدات المشهد الإثيوبي المتراكمة، وجوهر هذه الأزمة، وكيف يمكن لآبي تجاوزها في مجتمعٍ ملغم بالأزمات الإثنية والعرقية المتراكمة داخليا، والتدخلات الخارجية في بيئةٍ دوليةٍ هي الأخرى حبلى بالأزمات والتحولات والحروب، من حرب اليمن، إلى أزمة سد النهضة، إلى أزمة الانتخابات الرئاسية الأميركية، وجميعها قد تجعل الحرب الإثيوبية أكثر تعقيدا وبعدا عن أي اهتمام دولي.
هنالك معارضون وخصوم لآبي يرون أنه لم يعد سوى غطاء يتستر به فصيل قومية الأمهرا الطامحين لعودة أمجاد ملوكهم وأباطرتهم السابقين
صحيحٌ أيضاً، في هذا السياق، أن لدى جبهة تحرير تيغراي، هي الأخرى، أهداف سياسية غير معلنة، متعلقة بما تراه الجبهة مكاسبها السابقة في السلطة والثروة، والتي ترى أن آبي أحمد عمل منذ صعوده، على تجريدها من هذه المكاسب، خدمة لخصومها الأمهرا، إلا أن الأزمة في تيغراي هي التعبير الأوضح عن عمق الأزمة الإثيوبية المتمثلة بالصراعات الإثنية التي لم يتمكّن دستور الدولة الإثيوبية الفدرالية (العلماني) من تجاوزها، ووضع الحلول السياسية المناسبة لها، ما يعني أن جوهر الأزمة الإثيوبية سيظل بعيدا عن الحلول الحقيقية المتمثلة بالشراكة الحقيقية لكل الإثنيات في السلطة والثروة، كل بحسب حجمه ومظلمته التاريخية، وفقا لعدالة انتقالية حقيقية أيضاً، وهو ما يعني أن آبي أحمد يعيش أمام مأزق حقيقي وعميق، لا يمكن تجاوزه، بمجرد المقاربات الأمنية والعسكرية التي أثبتت فشلها دائما وأبدا في غير مكان من العالم.
عدا عن ذلك، فإن زعيما شابا، كآبي أحمد، كان ولا يزال يحظى باحترام دولي كبير، ومحلي متناقص، وإن الأجواء أمامه مهيأة تماما للعب دور إثيوبي كبير، يتمثل بعقد مصالحة إثيوبية تاريخية حقيقية، تتأسّس على عدالة انتقالية كبرى وتاريخية، يسعون من خلالها إلى بناء عقد سياسي إثيوبي جديد، يمكن الجمع فيه بين فكرتي الفدرالية الإثنية والمواطنة المدنية الدستورية، ضمن نظام ديمقراطي، لبناء إثيوبيا حديثة، يمكن فقط من بابها هذا أن يتوج آبي أحمد زعيما عليها.