أبعد من تسريبات حسين الشيخ
تطرح التسريبات الصوتية المنسوبة لأمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح، حسين الشيخ، والتي تهجّم فيها بألفاظ نابية على الرئيس محمود عبّاس ورئيس جهاز المخابرات ماجد فرج، قضايا عدة. ورغم أن الشيخ نفى التسريبات ووصفها بـ"المفبركة"، إلا أن الأرجح أنها صحيحة، وأنه جرى تسريبها في سياق الصراع داخل أروقة "فتح" والسلطة الفلسطينية على خلافة أبو مازن، البالغ 87 عاماً ويعاني من مشاكل صحية كثيرة. والشيخ ليس أول عضو في اللجنة المركزية لحركة فتح يجد نفسه في مثل هذا الموقف، فقد سبقه آخرون إلى ذلك، كمحمد دحلان الذي جرى فصله، وتوفيق الطيراوي المجمّدة عضويته. ولعل الجديد في موضوع الشيخ أنه كان يُنظر إليه شخصا قريبا من محمود عبّاس الذي دفع به إلى أمانة سرِّ اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، فضلاً عن أنه كان يُعتقد أنه يشكّل معه ومع ماجد فرج تحالفاً ثلاثي الأضلاع في السلطة و"فتح".
على أي حال، المسألة أعمق من مجرد تسريبات صوتية، وأكثر من مجرّد إرهاصات صراع مبكر على خلافة أبو مازن. إنها تمثل أحد تعابير أزمة المشروع الوطني الفلسطيني الذي تمَّ اختزاله في سلطةٍ وهميةٍ تقبع تحت الاحتلال، وتجد نفسها، راغبةً أم كارهة، تمارس دور وكيله الأمني على شعبها والخدماتي بينهم. بمعنى أنها تحمل عن الاحتلال الصهيوني عبء السكان، من دون سيادة ولا دولة. ولا تقف حدود المشكلة هنا، إذ لا يتم صراع الأقطاب في "فتح" والسلطة الفلسطينية على خلافة أبو مازن على أرضية البحث عن نهج بديل لقيادة الرجل الكارثية منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية أكثر من 17 عاماً، بل إنها، وبكل بساطة، صراع على الكراسي والنفوذ. ليس هذا فحسب، فأيٌّ من المتنافسين لا يعنيه كثيراً حصوله على شرعية شعبية فلسطينية، سواء عبر استفتاء أم انتخابات، بل إن أيّاً منهم لا يعنيه حتى قبول حركة فتح بهم، ومن ثمَّ، حسب بعض التقارير، يعمل بعضهم، منذ سنوات، على شراء ذمم وتشكيل مليشيات محسوبة عليهم في حال تطلب الأمر معركة مسلحة من أجل الوصول إلى السلطة. والمؤلم حقاً أن يتكرّر استخدام تعبير "حرب أهلية" في اليوم الذي يلي رحيل أبو مازن، ذلك أن أيّاً من أقطاب "فتح"، وإذا أخذنا بتسريبات حسين الشيخ، كما الأجهزة الأمنية، لن يتنازل عن السلطة لطرف آخر طوعاً.
على الصعيد الأميركي، أصبح حسين الشيخ قناة الاتصال الأساسية معهم، وكان في زيارة لواشنطن قبل شهرين
ثالثة الأثافي أن أيا من هؤلاء لن يتسلم القيادة فلسطينياً إلا بموافقة إسرائيلية أولاً، أميركية ثانياً، وبعض عربية ثالثاً. في هذا السياق، عندما رقّى محمود عباس حسين الشيخ ليخلف الراحل صائب عريقات في أمانة سرِّ المنظمة مطلع هذا العام (2022)، نُظر إلى ذلك محاولةً لحسم صراع السلطة لصالحه. ومن أجل أن يضمن عبّاس تلك النتيجة، حسب تقارير أميركية وإسرائيلية عديدة، حرص على تقديمه وتسويقه للإسرائيليين والأميركيين. على الصعيد الإسرائيلي، كان الشيخ قد نجح في نسج علاقاتٍ قويةٍ معهم بعد تعيينه عام 2019 رئيساً للهيئة العامة للشؤون المدنية، وهو المنصب الذي وضعه على تماسّ مباشر مع الإسرائيليين الذين يتحكّمون بحياة الفلسطينيين في الضفة الغربية. وفي لقاءات عبّاس مع الإسرائيليين، لا يكاد الشيخ يغيب عنها، وهو سبق له أن التقى بمفرده يئير لبيد عندما كان هذا وزيراً للخارجية، وكذلك بني غانتس عندما كان وزيراً للدفاع. وعلى الصعيد الأميركي، أصبح الرجل قناة الاتصال الأساسية معهم، وكان في زيارة لواشنطن قبل شهرين. وبسبب قابلية الشيخ للتطويع، فإن دبلوماسياً غربياً وصفه بأنه "جنتلمان فلسطيني حقيقي. وهو نوع من الفلسطينيين يمكن للإسرائيليين والأميركيين التعامل معه". طبعاً، لا يألو منافسوه الآخرون، كذلك، جهداً في محاولة تقديم أوراق اعتمادهم إسرائيلياً وأميركياً بناء على سجل طويل من التعاون الأمني معهم، مثل جبريل الرجوب ومحمد دحلان وتوفيق الطيراوي وماجد فرج.
يبدو أن الشعب سيجد نفسه عما قريب يستعيد زمام أمره، وقد يطلق انتفاضة جديدة دفاعاً عن بعض فتات ما تبقّى من حقوقه
بغض النظر عن مدى موثوقية التسريبات الصوتية المنسوبة للشيخ، إلا أن المؤسف أنها عرّت كثيراً من عوار الواقع الفلسطيني الرسمي. انشغل الفرقاء المتشاكسون فيها، منهم من يصرّ على إثباتها، ومنهم من يصرّ على نفيها، ومنهم من يتحدّث عن مكائد بينية وتصيّداً بين تلك الأطراف. في حمأة ذلك، يبدو أنهم تناسوا أن حكومة إسرائيلية جديدة، توصف بأنها الأكثر يمينيةً وتطرّفاً في تاريخ إسرائيل، كانت تضع اللمسات الأخيرة على تشكيلتها. ورغم بعض الجعجعة من القيادة الرسمية الفلسطينية، إلا أن التنسيق الأمني سيستمر، وتوهان النهج سيبقى، ويبدو أن الشعب سيجد نفسه عما قريب يستعيد زمام أمره، وقد يطلق انتفاضة جديدة دفاعاً عن بعض فتات ما تبقّى من حقوقه. أما القيادة الرسمية، كائناً من مثلها، فستبحث عن سبل احتواء الغضب، والعودة إلى المسار المعتاد من التواطؤ مع المحتل، ولا يفرق هنا إن كان ذلك طوعاً أم كرهاً.