أبو بكر السقاف الماركسي اليمني الأخير
ربما لم يمرّ في تاريخ اليسار اليمني رجل بصلابة أبو بكر السقاف وأيديولوجيته، وهو الأكاديمي والمناضل والناشط السياسي الصلب، المولود في المهجر الإثيوبي في بداية ثلاثينيات القرن الماضي، وأستاذ الفلسفة في جامعة صنعاء أكثر من أربعة عقود، والذي توفي يوم 13 ديسمبر/ كانون الأول الجاري في موسكو، بعد مغادرته صنعاء، بعد سقوطها في يد مليشيات جماعة الحوثي في 21 سبتمبر/ أيلول 2014.
أبو بكر السقاف واحد من المناضلين الأوائل والمؤسّسين للعمل الوطني الطلابي اليمني، منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي في القاهرة التي ذهب إليها للدراسة ضمن بعثة للاتحاد اليمني في عدن عام 1953، وبعد ثلاث سنوات في 1956، عقد السقاف وعدد من الطلاب اليمنيين من الشمال والجنوب، كعبد الكريم الإرياني ومحمد عبد الوهاب جباري وآخرين، أول مؤتمر للطلاب اليمنيين في القاهرة، وكان من أهم أهدافه ومخرجاته الخلاص من حكم الإمامة في صنعاء والاستعمار البريطاني في عدن، ومن ثم الذهاب إلى إعلان قيام الوحدة اليمنية.
ونتيجة الاستقطابات السياسية بين التيارات السياسية العربية داخل شباب الجامعات والثانويات حينها في القاهرة وعواصم عربية عديدة، فُصل طلاب يمنيون متأثرون بالمد الماركسي، غادروا القاهرة وعادوا إلى بلدهم، ثم توجهوا إلى موسكو، التي أكمل فيها السقاف ورفيقه عمر الجاوي دراستهما فيها، حيث تخصّص السقاف بالفلسفة الإسلامية وفلسفة المعتزلة تحديداً.
شكّل الرجل حالة نضالية وسياسية مبكرة وفارقة وأكثر صلابة طوال حياته، لمعارضة نظام الرئيس علي عبد الله صالح، منذ صعود الأخير الحكم في يونيو/ حزيران 1978، تلك المرحلة التي أصدر فيها السقاف أول كتبه "الجمهورية بين السلطنة والقبيلة في اليمن الشمالي"، تحت اسم مستعار، محمد عبد السلام، عام 1988.
ظلت صورة المناضل الماركسي الصلب الصورة المختزلة والمجسّدة بشخص السقاف الذي مثل رمزاً نضالياً لشباب اليسار اليمني على مدى العقدين الماضيين
ومع قيام الوحدة اليمنية، ظل معارضاً للسلطة الحاكمة فيها، لكن معارضته الأكثر صلابة كانت بعد حرب صيف 1994، التي هُزم فيها الحزب الاشتراكي اليمني، وتعميم الرئيس صالح تجربة حكمه على اليمن كله، ما دفع السقّاف إلى تصدّر مشهد معارضة نظام صالح، الأمر الذي سبّب له مضايقات وتعسفاتٍ كثيرة في حقه، إلى درجة إيقافه عن العمل في جامعة صنعاء فترة، وعودته إلى التدريس، على إثر حكم قضائي، قضى بتمكينه من عمله في الجامعة.
وقد ظلت صورة المناضل الماركسي الصلب الصورة المختزلة والمجسّدة بشخص السقاف الذي مثل رمزاً نضالياً لشباب اليسار اليمني على مدى العقدين الماضيين، بعد خفوت صوت اليسار اليمني وتراجعه كثيراً على إثر حرب صيف 1994، فظل الرجل بمثابة المثقف اليساري الممانع والصلب في وجه ترهيب السلطة وترغيبها معاً، على عكس يساريين كثيرين، قوميين وماركسيين، انخرط بعضهم في دواليب السلطة ودهاليزها، وتماهوا معها، على عكس السقاف، والزعيم اليساري الكبير على صالح عباد "مُقبل" الذي تولى أمانة الحزب الاشتراكي اليمني بعد هزيمة الحزب في تلك الحرب، محافظاً على تماسك ما بقي منه حينها.
طغت الشخصية النضالية للسقاف حتى على صورته أكاديمياً منخرطاً في تدريس الفلسفة، التي لم يكن كثير الإنتاج فيها، على غير عادة المنخرطين في عوالم الفلسفة وفضاءاتها الواسعة، وهو ما جعله قليل الإنتاج المعرفي الفلسفي، ومن ثم طغيان حضوره السياسي المعارض على كل جوانب حياته، وهو ما جعل مواقفه السياسية أكثر حدّة، وتتسم أحياناً بالعاطفة الزائدة التي لا تُبنى على عمق معرفي، كموقفه الدائم من جماعة الزيدية السياسية، التي دافع عنها طويلاً، وتمثلها اليوم جماعة الحوثي، وهو موقف سياسي عاطفي وسطحي، لا يقوم على عمق معرفي بهذه الجماعة وتاريخها الدموي فكراً وممارسة.
ملاحظ أن السقاف، منذ ثورة 11 فبراير (2011) وتداعياتها في اليمن، لم يسجل له أي موقف سلباً أو إيجاباً منها ولا من الحرب التي تلت
ومعرفياً أيضاً، لم نقف على نتاج فلسفي لافت للسقاف، وكل ما وصل إلينا له كتابٌ من تجميع الصحافي منصور هائل، وهو عبارة عن مجموعة مقالات له، عدا عن كتاب "دراسات فكرية وأدبية" (دار العودة، بيروت، 1977)، الذي صدر تحت عنوان كتاب الكلمة، وهي سلسلة كُتب كانت تصدر عن مجلة الكلمة اليمنية، وقدم له صديقه عبد العزيز المقالح. واللافت في كتابه هذا دراسته القيّمة عن محمد الزبيري شاعراً ومفكراً، وهي الدراسة الأكثر إنصافاً للزبيري من بين كل كُتّاب اليسار اليمني ومفكريه، الذين كان لهم موقف أيديولوحي من الزبيري، يقلل منه ومن نضاله وشاعريته وفكره.
ثقافياً، قدّم أبو بكر السقاف صورة للمثقف المؤمن بقيمه ومبادئه، التي لا يمكنه أن يتنازل عنها، ويتخلّى عنها تحت أي مبرّر، أو ليقايض بها منفعة أو مصلحة ما. ولهذا عانى طويلاً، وقدّم بذلك صورة عظيمة للمثقف الحقيقي الرسالي بصورته الغرامشية، ما جعله محط رقيب السلطة ونقماتها الدائمة ضرباً وملاحقةً وإقصاءً، وهي الحالة التي وقف فيها السقاف بثبات وصلابة، جعلتاه محط احترام خصومه قبل أصدقائه.
لكن الملاحظ أن السقاف، منذ ثورة 11 فبراير (2011) وتداعياتها في اليمن، لم يسجل له أي موقف سلباً أو إيجاباً منها ولا من الحرب التي تلت، وكأنه قرار غير مُعلن بالاعتزال السياسي لكل شيء، وظل مراقباً للمشهد من بعيد، من دون أن يبدي أي موقف من الأحداث، وهو موقفٌ لا يعكس شخصية السقاف الجدلية والمهمومة بالشأن العام، والذي لا يترك فرصة إلا ليسجّل موقفاً واضحاً فيه.
طغت الشخصية النضالية للسقاف حتى على صورته أكاديمياً منخرطاً في تدريس الفلسفة
وما يميز الراحل الكبير، عكس غيره من يساريي الجنوب اليمني تحديداً، أنه ظل امتداداً فكرياً وطنياً وحدوياً لرفاقه وأصدقائه، من عمر الجاوي وعبد الله باذيب وغيرهما من المناضلين اليساريين الأوائل، المسكونين باليمن الكبير، رغم موجة الكفر باليمن والارتداد عنه، وشيوع موجة المشاريع القروية الصغيرة الممولة خارجياً في هذه المرحلة، هذا الموقف الوحدوي الصلب للسقاف، وهو الذي عانى الأمرّين من نظام صالح، ورغم ذلك لم يندفع ويسقط في وحل التنكّر لتاريخه الوحدوي وقيم اليسار الوطنية الوحدوية، وظلّ مؤمناً به إلى آخر نفس.
أما إن كان من كبوة للسقاف، فهي موقفه المتهافت من الإمامة عموماً، وهو موقفٌ متهافت ومُلتبسٌ معرفياً، واقع فيه جُلّ اليسار اليمني، ولا ندري سبباً واضحاً لهذ الموقف الذي لا يُبنى على رؤية معرفية عميقة بتاريخ الفكرة الإمامية الزيدية وفلسفتها ورؤيتها الطائفية السُّلالية للدين والسياسة والاجتماع معاً، وهو ما يتعارض ويتناقض مع فلسفة اليسار جملة وتفصيلاً، ولا يأخذ في حسبانه أيضاً تجربة الإمامة قديماً وحديثاً مع اليمنيين، عدا عن تجربة اليسار الإيراني مع فكرة ولاية الفقيه، على سبيل المثال.
رحم الله أبو بكر السقاف، المناضل الصلب والماركسي الأخير في اليمن، فقد غادرنا إلى ربه وهو في منفى اختياري في موسكو، بعيداً عن أهله وبلاده، ورفاقه، وهو الذي ناضل طويلاً من أجل يمن ديمقراطي جمهوري عادل آمن ومستقر.