أثيوبيا .. الحرب في "التيغراي" والمنعطف الأخير
كان من الواضح أن أسباب الحرب الشاملة التي شنّتها حكومة أبي أحمد في إثيوبيا على إقليم التيغراي في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، في العملية التي سمتها "إنفاذ القانون"، كانت منافيةً تمامًا للرواية التي ساقتها الحكومة المركزية في حينه، عندما برّرت الحرب "بهجوم الجبهة على قاعدة عسكرية تابعة للجيش الفيدرالي"، بل اتضح، مع مرور الوقت، أن خطة الحرب كانت معدّة سلفًا باعتبارها أبعد مدى وصل إليه الصدام المحتوم بين إدارة أبي أحمد وجبهة تحرير شعب التيغراي (TPLF)، التي حكمت البلاد طوال العقود الثلاثة الأخيرة. وقد أعلن أبي أحمد، بعد أقل من شهر من بدء العملية العسكرية، طيّ صفحة الحرب، وهزيمة الحركة في الإقليم وسيطرة القوات الفيدرالية على العاصمة مقلي، كما أعلن عن القبض على شخصيات رئيسية ومؤسسة في الجبهة كان لها صيت سيئ في الوضع الحقوقي والإنساني في إثيوبيا، خصوصا أن لدى الجبهة سجلا حافلا بالتجاوزات الإنسانية في أثناء حكمها.
يبدو أن أبي أحمد استعجل الاحتفال بالانتصار؛ وهو المهووس بالسلطة والظهور قائدا كاريزماتيا وقويا، ومقلدا بوسام جائزة نوبل للسلام، وأوسمة إماراتية وسعودية بوصفه رجلا للسلام في المنطقة، نالها على خلفية مصالحته "التاريخية" مع إريتريا عام 2018، وهي خطوةٌ كانت جزءًا من استراتيجيته لإقصاء نخبة التيغراي من المشهد السياسي الإثيوبي. إلا أن الأخبار عادت بنا باستعادة الجبهة العاصمة مقلي، وأنها أسرت آلافا من أفراد الجيش الفيدرالي بعدما حاصرتهم، ونظمت مسيرة عرض لاستسلامهم سميت بـ"مسيرة العار"؛ وقد تكون أكبر عمليةٍ استسلام لجيش نظامي منذ الحرب العالمية الثانية، حيث سار ما يقارب عشرة آلاف جندي في بعض التقديرات في الميادين وسط هتاف الجموع "أبي لص"!
استعجل آبي أحمد الاحتفال بالانتصار؛ وهو المهووس بالسلطة والظهور قائدا كاريزماتيا وقويا
يفسّر المتابعون في الصراع بأن رد الجبهة كان متوقعا، حيث موسم الأمطار في دول حوض النيل يتسبّب في صعوبة الحركة وقطع خطوط الإمداد، والحكومة نفسها استخدمت الحيلة نفسها بالقول إنها سحبت جيشها لدواع إنسانية، وتودّ إتاحة الفرصة لشعب تيغراي لزراعة أراضيه في موسم الزراعة، وهي التي قصفتهم بشتى أنواع الطائرات والأسلحة شهورا. والمؤكّد أن وحشية الحرب التي قام بها أبي أحمد ضد الإقليم لعبت دورا في رسم المنعطف الجديد الذي دخله الصراع. لقد استنجد نظام أحمد بحليفه أسياس أفورقي، وهو الذي خاض حربا سابقة مع التيغراي (1988 - 2000)، خلّفت أزيد من مئة ألف قتيل، وثمّة عداوات وثارات قديمة؛ وارتكب الجيش الإريتري مجازر مهولة حين اجتاح الإقليم، وثقتها تقارير حقوقية أممية، لكن الأخبار ظلت منقطعة عن الإقليم شهورا، باستثناء ما بثه ناشطون على "فيسبوك"، إلى أن توالت الضغوط الخارجية، خصوصا مع رحيل دونالد ترامب عن الرئاسة في الولايات المتحدة، واضطرت الحكومة المركزية، أخيرا، إلى السماح للصحافيين والمنظمات الإنسانية بالدخول إلى الإقليم. وكانت القصص الواردة من الإقليم صادمة إلى أبعد حد؛ فقد انتهج نظام أبي أحمد ومعه نظام أسياس أفورقي، سياسة تدمير شامل للبنى التحتية والمستشفيات والمصانع والأسواق بطريقة ممنهجة ونظامية، بما فيها قصف أحياء سكنية وإعدامات مباشرة واغتصاب وبتر أعضاء.
على أبي أحمد إيجاد طريقة للتعامل مع الإقليم غير سياسة العقاب الجماعي والنهج القائم على الانتقام الثأري
ماذا ينتظر إثيوبيا الآن، وقد استولت جبهة التغراي من جديد على عاصمة الإقليم، ومع شروع الجيش الفيدرالي بالانسحاب من الإقليم وإعلان وقف إطلاق النار من جانب واحد؟ يرغب أبي بتوحيد جبهته الداخلية وتأكيد شرعيته عبر الانتخابات البرلمانية العامة التي أعلنت نتيجتها بتحقيق حزبه، الازدهار (الحاكم)، فوزا كبيرا، على الرغم من أنها انتخاباتٌ صُمّمت لفوز أبي أحمد سلفا، وتحدّثت البعثات الدولية بأنها أبعد ما تكون عن النزاهة، وقاطعتها أحزاب سياسية معتبرة. إلا أن الانسحاب من الإقليم يعد خيارا تكتيكيا بالنسبة إلى أبي أحمد، بالإضافة إلى أنه يتعرّض لضغوط أميركية وأوروبية وجهات حقوقية عديدة لإيقاف الحرب، وقد تعرّض مسؤولون في حكومته لعقوبات أميركية في أوائل الشهر المنصرم (يونيو/ حزيران).
قد يصح القول إنه ربما لهذه الأسباب يفضّل أبي أحمد وقف إطلاق النار مؤقتا، وقد رحبت واشنطن وجهات خارجية أخرى بذلك، لكن المؤكد أن الجبهة لن تتوقف بدون السيطرة على كامل أراضيها، والتي توسّعت في مناطقها الحدودية مليشيات عرقية تنتمي لإقليم أمهرا المجاور، ويشهد الإقليمان توترات حدودية تاريخية. ومن الناحية الإقليمية، ومع تصاعد خلافات ملف سد النهضة وأزمة الحدود السودانية الإثيوبية، تبدو الصورة الإقليمية مقلقةً أكثر بالنسبة إلى أبي أحمد، ففي الثمانينيات، وعندما كانت جبهة تحرير شعب التيغراي تقاتل نظام الديرغ، كانت تتلقى الدعم والتأييد من نظام جعفر نميري في السودان، الآن مصر وبدرجة أقل السودان تبدوان ناقمتين على الحكومة المركزية، وعلى كيفية إدارة أبي أحمد ملف سد النهضة والحصص المائية للأطراف الثلاثة، بسعيه إلى فرض الأمر الواقع، وهو ما تعدّه مصر تهديدا حقيقيا لها. يعني ذلك كله أن أي حرب طويلة الأمد مع الجبهة لن تكون لصالح استقرار نظام أبي أحمد إقليميا.
وفي السياق الإقليمي نفسه، أجرى أبي أحمد اتصالا مع ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، فور سقوط إقليم التيغراي بيد الجبهة، ويعتقد بأن طائرات الدرونز الإماراتية لعبت دورا في سقوط الإقليم بيد الجيش الفيدرالي في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، كما صرح بذلك رئيس الإقليم في مقابلة حديثة مع صحيفة نيويورك تايمز (منشورة في 3 يوليو/ تموز الحالي). ويفسر بعضهم بأن أبي أحمد بدأ يستنجد بطائرات درونز من الإمارات، والتي منعت إدارة بايدن استخدامها في اليمن والتيغراي. لكن، وأيا يكن، يواجه أبي أحمد في الميدان صقور الشخصيات العسكرية التي أسقطت نظام الديرغ العسكري في الثمانينيات والتسعينيات، ومن غير المرجّح أن يتمكّن من هزيمتهم، مثل تسادكان جبريتنساي ودبرسيون ميكائيل (تعني جبل صهيون بالتغيراوية)، ويقودان المعارك حاليا من الميدان.
ليس مستبعداً أن يواجه أبي أحمد انقلاباً من الجبهة الداخلية، خصوصاً من حلفائه الأمهرا والأورومو
بصورة عامة، إثيوبيا بلد ذو تاريخ سياسي معقّد، وجبهة تحرير شعب التيغراي، وعلى الرغم من أنها غزت الصومال عام 2006، وحكمت إثيوبيا في حالة الاستثناء الأغامبينية منذ 1991، حيث تقوم فيها السيادة على خرق القانون، وحيث قانون الطوارئ هو قاعدة الحكم والمعيار، إلا أنها حاليا خرجت تمامًا من المشهد السياسي في المركز، وربما بشكل نهائي، وعلى أبي أحمد إيجاد طريقة للتعامل مع الإقليم غير سياسة العقاب الجماعي والنهج القائم على الانتقام الثأري، إلا أنه يبدو أن هذا لا يتوافق مع مزاج أبي أحمد، المهووس بالسلطة والحكم، حيث يود تأكيد نفسه رئيسا مستقبليا لإثيوبيا، وربما قد يذهب إلى أبعد من هذا، حيث شاعت تصريحات مسجلة يتحدث فيها عن أن والدته الأمهرية أخبرته، وهو في السابعة ِمن العمر، بأنه سيصبح الملك السابع لإثيوبيا.
في وسع أبي أحمد أن يجري انتخابات صورية لترسيخ شرعيته في الحكم، لكن ثمّة أسئلة وتعقيدات غير محسومة سيواجهها، وسينجرف معها مصير الدولة الإثيوبية برمتها، أهمها الأوجه التي ستأخذها الحرب في الفترة المقبلة: بدءا بمصير إقليم التيغراي، الذي يواجَه بأحد خيارين: أن تترك الحكومة المركزية أمره وشأنه، وهو بذلك سيشكّل خاصرة رخوة على مستقبل نظام أبي أحمد السياسي، خصوصا أن الجبهة حكمت البلاد نحو ثلاثة عقود، ولن تتوانى عن محاولة زعزعة حكم أبي أحمد (أو حتى نظام أفورقي المجاور أيضا). تتزايد خطورة هذا السيناريو إذا نظرنا إلى وضع الإثنية الفيدرالية الهشّ القائم في البلاد والتوترات الحدودية المنتشرة في طول البلاد وعرضها.
تحدث أبي أحمد عن أن والدته الأمهرية أخبرته، وهو في السابعة ِمن العمر، بأنه سيصبح الملك السابع لإثيوبيا
ويتمثل السيناريو الآخر بانفصال الإقليم عن باقي إثيوبيا، وهو مدار الحديث لدى نخب تيغراوية عديدة، وهو بند منصوص عليه في دستور البلاد عام 1994، (تحدث عنه رئيس الإقليم في مقابلته أخيرا مع "نيويورك تايمز"). غير أنه يحمل، هو الآخر، غير قليل من الفوضى والبلقنة لوضع المنطقة برمتها، وليس وضع إثيوبيا المنقسم إثنيا فقط، لكن المؤكد كذلك أنه سيرتدّ سلبًا على حساب الإقليم نفسه، إذ من المرجّح أن انفصال الجبهة سيصوّر أبي أحمد بطلا قوميا موحدا للحس القومي الإثيوبي، مثل ما حدث في السبعينيات في أثناء حرب منغستو هيلا مريام مع الصومال، عام 1977، وهو الأمر الذي سيعزّز من شرعيه أبي أحمد الداخلية.
في الخلاصة، يهدف أبي أحمد، في هذه المرحلة، إلى تأكيد خيار شرعيته الداخلية عبر الانتخابات. وفي ظل الوضع غير المستقر والمشحون داخليا، ليس مستبعدا أن يواجه انقلابا من الجبهة الداخلية، خصوصا من حلفائه الأمهرا والأورومو، لكن ما هو مؤكد أن التيغراي خرجوا من المشهد السياسي العام، ولم يعودوا يشكلون تهديدًا سياسيًا، مع استعصاء هزيمتهم عسكريا في المدى المنظور، حتى على الرغم من التدخل الواسع من حليفي أبي أحمد في المنطقة: الإمارات وأسياس أفورقي. وسترسم الفترة المقبلة الاتجاهات المستقبلية للصراع، والتي بدورها ستحدّد شكل الدولة الإثيوبية المقبل.