أحجية اتفاق الحدود البحرية الجنوبية للبنان
سلّم نائب رئيس المجلس النيابي اللبناني، إلياس بوصعب، المكلّف من رئيس الجمهورية بمتابعة ملف ترسيم الحدود البحرية للبنان مع "إسرائيل"، ردّ لبنان الرسمي على المقترح الأميركي لترسيم الحدود، إلى السفيرة الأميركية في بيروت، دوروثي شيا، متضمناً ملاحظات لبنانية على المقترح، ولكنّها، كما صرّح بوصعب، ليست في الجوهر، وإنّ التوقيع على الاتفاق قد يكون في غضون أسبوعين.
الحقيقة أنّ كلّ اتفاق الترسيم بات أحجية تحتاج إلى فك طلاسمها. فلا الرأي العام اللبناني اطّلع على أيّ شيء من مسوّدة هذا الاتفاق، ولا المجلس النيابي اللبناني الممثل للشعب اللبناني اطّلع على شيءٍ منها، وقد سألْتُ أكثر من نائب في المجلس النيابي وكان الجواب بالنفي، حتى أنّ بعضهم انتقد الاتفاق والطريقة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وصولا إلى القول: "ما تقنعونا أنو المجدّرة بقلاوة". ولا الحكومة المنتهية ولايتها على اطّلاع على تفاصيل هذا الاتفاق. وحدهم الرؤساء الثلاثة، ميشال عون ونبيه برّي ونجيب ميقاتي، وربما بعضهم ليس مطلعاً على كل التفاصيل، ونائب رئيس المجلس النيابي بحكم تكليفه بالتواصل مع الوسيط الأميركي، والأكيد حزب الله بوصفه "قوة مقاومة" كانت تصريحات مسؤوليه جزءاً من معادلة التفاوض غير المباشر، هؤلاء فقط مطلعون على خفايا هذا الاتفاق وخباياه، وهذه بحدّ ذاتها مشكلة كبيرة.
نعرف في لبنان عن اتفاق الترسيم، وما يتضمّنه، من خلال الصحافة الإسرائيلية التي تسرّب بين يوم وآخر بعضاً من مضمونه أو مسوّدته، ونكتشف حجم الإنجاز الذي سيُسجّل في سجّل العهد، أو حجم الانتصار الذي بدأ التحضير للاحتفال به.
لا الرأي العام اللبناني اطّلع على أيّ شيء من مسوّدة هذا الاتفاق، ولا المجلس النيابي اللبناني الممثل للشعب اللبناني اطّلع على شيءٍ منها
وعلى سيرة الإنجاز والانتصار، لا بدّ من التذكير بأنّ الدولة اللبنانية كلّفت الجيش، في وقت سابق، بإعادة تحديد نقطة الحدود البرّية في الناقورة، وبموجبها حدّد الجيش الحدود البحرية بالخط 29 الذي يعطي لبنان مساحة إضافية، ويجعله شريكاً في حقل كاريش، غير أنّ السلطة السياسية لم تذهب إلى تثبيت هذا الخط في الأمم المتحدة، واعتبرته خطاً للتفاوض، وتمسّكت بالخط 23 الذي يجعل من "إسرائيل" شريكاً في حقل قانا.
يجري الحديث اليوم في الاتفاق عن تنازل عن الخط 29 بالكامل، وعن سطح البحر خالصاً للبنان وعمق البحر وما يحويه وفق الخط 23 مشتركاً مع "إسرائيل"، ولو بطريقة غير مباشرة، على قاعدة أن تأخذ شركة توتال الفرنسية حصّة مقابل الحفر والتنقيب والاستخراج، وأن تعطي من "حصّتها" لـ "إسرائيل". إنّها خدعة ليست بعدها خدعة، تجعل "إسرائيل" شريكاً كاملاً في ثروة لبنان، بغض النظر عن الكيفية، ناهيك بالضمانات الأمنية البحرية التي تحدّث عنها المسؤولون الإسرائيليون، ولم يدل أيّ مسؤول لبناني بأيّ تصريح أو توضيح بشأنها، بل اكتفى بالحديث عن الفصل بين الترسيمين، البحري والبرّي. بمعنى آخر، ستكون الالتزامات الأمنية بحرية وليست برّية، وهو ما تحتاجه "إسرائيل" بالفعل، لتُبقي على مسألة البرّ مفتوحة على كل الاحتمالات والاتجاهات، ولتظلّ أيضاً قضية الحدود البرّية حاجةً لبنانية لتبرير العداء لـ "إسرائيل".
قضايا ترسيم الحدود جزءٌ من الدساتير والسيادة التي يحتاج تعديلها أو الاقتراب منها في أيّ دولة إلى استفتاءات شعبية، أو بالحدّ الأدنى موافقة المجالس النيابية
قضايا ترسيم الحدود جزءٌ من الدساتير والسيادة التي يحتاج تعديلها أو الاقتراب منها في أيّ دولة إلى استفتاءات شعبية، أو بالحدّ الأدنى موافقة المجالس النيابية، لكنها في لبنان تحوّلت إلى أحجيةٍ لا يعرف اللبنانيون معها كيف يمكن التنازل عن جزء من الأرض والثروة تحت عنوان المصلحة الوطنية، من دون عرض هذه المصلحة على الاستفتاء الشعبي، أو على المجلس النيابي بالحدّ الأدنى.
في لبنان، يجري الآن تهريب هذا الاتفاق بهذه الطريقة والصيغة تحت عناوين واهية، منها عدم الدخول في مفاوضاتٍ مع "العدو"، ومنها عدم التطبيع معه، ومنها إيجاد الحلول للأزمة الاقتصادية، حتى تحوّل الاتفاق وما تضمّنه إلى أحجية وطرفة على كلّ لسان في بيروت. ويدرك الجميع هنا أنّها خديعة كبرى، ولكن يبدو أنّ كثيرين مشاركون فيها، أو على الأقلّ ساكتون عنها.