أحذيةٌ في سورية للتدفئة وأخرى تدوسُ الصور

05 ديسمبر 2024

مقاتل من المعارضة السورية يدوس على صورة الأسد في مطار كويرس شرق حلب (3/12/2024 فرانس برس)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

يتصدّر الشتاء معاناةَ السوريين، ويضخّمها إلى حدّ لا يُطاق، عنواناً دامغَ الدلالة لا يستطيعون الفرار منه، وليس في هذا أيُّ ادّعاء أو تمادٍ وصفيٍّ يسهل نقضهُ، بل يقينٌ يجاهرُ به بردٌ إضافيّ يجلبه غياب وقود التدفئة، وبلوغ سعره في السوق السوداء مبالغَ تفوق مقدرة الناس على اقتناء الكمّيات المناسبة منه، وهذا هو حال مناطق سيطرة النظام منذ سبع سنوات، بعدما أعلنت الهيئة العامة للإدارة الذاتية في سورية تشكيلَ حكومة إدارةٍ ذاتيةٍ للأكراد شمالي البلاد، في 17 مارس/ آذار عام 2016، وحقولُ النفط تقعُ في ذاك الجانب الذي بات خارج سيطرة نظام دمشق منذ ذاك الوقت، وباتَ محميّاً بفضل قواعدَ عسكرية ملأها الجيش الأميركي، وتمترس بها، بحجّة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ليصير وقود التدفئة مع مرور الزمن شحيحاً، غيرَ مرئيٍّ في باقي المناطق السورية التي يحتلّها بشّار الأسد ونظامه، بحيث لا تتجاوز مخصّصات الأسرة الواحدة منه 50 ليتراً عن كامل فصل الشتاء، وهذه الكميّة توزّع خلال أشهر البرد، لا قبلها، الأمر الذي يضيف حَيْفاً لا لَبسَ فيه، يسم حياة الناس به، قبل أن يلاحقها ويقتلها عن قصد.

واليوم، يبلغُ سعر البرميل الواحد من مادة مازوت التدفئة في السوق السوداء داخل مناطق سيطرة نظام بشّار الأسد نحو 270 دولاراً، وتحتاج الأسرة الواحدة نحو برميلَين من هذه المادة لمقاومة فصل الشتاء، أي ما يقارب 540 دولاراً، وهذا يُعتبَر رقماً فلكيّاً لا تصل إليه المستويات العامّة للأجور والدخول الشهرية المزرية للغاية في سورية، إذ يراوح متوسّطها العام بين 25 و30 دولاراً شهرياً. لكن بفضل التحويلات الخارجية يستطيع قسمٌ من السوريين شراء وقود التدفئة، وإنْ بكميات لا تليقُ بما يتوافدُ عليهم من بردٍ وصقيعٍ اعتباراً منذ شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من كلّ عام.

السلطة القائمة في سورية تجابهُ الناس تارةً، وتُديرُ لهم ظهرها تارةً أخرى

ثم تُضاف مشكلتَا محدوديّة تأمين الكهرباء (تجيء ساعة، ثمّ تغيب خمس ساعات)، ومحدوديّة تأمين الغاز المنزلي (عبوّة واحدة للأسرّة السوريّة مرّةً كلّ ثلاثة أشهر) إلى شتاء السوريين لتضاعفا من آثاره القارسة عليهم، ولأن السلطة القائمة في سورية تجابهُ الناس تارةً، وتُديرُ لهم ظهرها تارةً أخرى، فإنَّ آمال البسطاء حين تُلاحق سلطة بشّار الأسد، وتنتظر منها توفير الحدّ الأدنى من شروط البقاء، تبدو مثل هواجسَ مريضةٍ تحدّق بسراب، فلا السرابُ يعترفُ بها، ولا هي قادرةٌ على إمساكه، وهذه صورةٌ احتكم إليها الفضاء العام في البلاد طوال سنوات احتلال بشّار الأسد مصير سوريّة، فلم نسمعْهُ مرّةً يناشد دول المبادرة العربية، التي تريدُ إجلاسه في حِجْرِها، بأن يزودوا بلاده بما ينقصها من حوامل طاقة، وهذا ليس بسبب عجرفته السياسية التي أذلّته كما لم تُذلّ زعيماً سياسياً من قبل، بل لأن لا علاقة لحساباته السياسية بحسابات المجتمع، وإنّ تحسين حياة الناس وشروطها لا يقع ضمن أولوياته، وهذا يتطابق بالفعل مع سلوك زعيم عصابة، ولا يقترب مطلقاً من سلوك رئيس دولة.

وإذا كان بمقدور مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى سورية، غير بيدرسون، أنْ يُظهر قلقه أخيراً على سورية ولبنان من تبعات الحرب الإسرائيلية المتسرّعة، واللاهثة لابتلاع المزيد، التي قد تمتد لتصل إلى دمشق وما بعد دمشق، فهذا لا يعني أنْ يقلق السوريون معه، أو يشاركوه مخاوفَه تلك، فهم منذ زمن باتوا واقفين على ضفّةٍ غير التي يقف عليها بشّار الأسد ونظامه، ومخاوفهم ليست هي مخاوف الأسد ونظامه، وما يريده هو غير الذي يريده السوريون، بمن فيهم جموعُ الموالين المرغمين على موالاة نظامه، والرماديين الواقفين في منتصف المسافة بين المعارضة والنظام السياسي القائم، فلا شيء إذاً سيخسره السوريون إن وصلت حرب إسرائيل إلى ديارهم، ليس لديهم ما يخسرونه على الإطلاق، وكلُّ ما ستفعله إسرائيل، بحربها المحتملة من تدميرٍ وتهجير وقتل، كان النظام قد سبقها إليه حين دمّر وهجّر وقتل واعتقل، فهذا الضرر بالغ الأثر الذي ألحقه الأسد ونظامه بسوريّة يفوق كثيراً ما خلُص إليه الفيلسوف البريطاني برتراند راسل ذات مرّة، حين قال: "أحد أكبر الأضرار التي تلحق بالبشرية هي السلطة المطلقة، وغير المحدودة"، إذ لا يندرج ما ارتكبته السلطة السوريّة بحقّ البلاد تحت مسمّى الضرر، بل يجتازه في الوصف ليبلغ حنكةَ مرتبةِ التدمير الممنهج للبنى العامّة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية داخل الفضاء العام، من خلال تمكين الإفقار المادّي للناس، ونشر المخدّرات والإباحية، وتسميم الحراك السياسي وقتله، ونشر ثقافة التشيّع وجبةً متكاملةً يمكن شراؤها مباشرةً من متاجر النفوذ الإيراني الكثيرة في البلاد.

السوريون يقفون على ضفّةٍ غير التي يقف عليها الأسد ونظامه، وما يريده الأسد هو غير الذي يريده السوريون

فالسوريون هنا لم يقتنوا هذا الخراب بملء إرادتهم، بل فرضهُ نظامُ بشّار الأسد عليهم، في مشهديّةٍ تسير إلى جوار تصوّرات الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، حين تحيكُ وصفاً للاستبداد، وتراهُ أسوأَ أنواع الظلم لأنه يقتل الروح قبل أن يقتل الجسد، ولعلَّ قتل روح السوريين هو من أبشع الممارسات التي استخرجها الأسد من تجويف عقله المريض بالاستبداد، مواظباً على هذا الفعل المنحرف طوال السنوات الماضية، وكأنها إحدى طرائق حكمه المحبّبة بكلّ ما تحمله من بداهة وتلقائيّة عنده. لذلك نجده لم يعتذر يوماً إلى السوريين على رداءة الحياة التي صاحبتهم خلال حكمه الأرعن للبلاد، ولا سيّما الذين لم يثوروا عليه اعتباراً من عام 2011، أولئك باتوا يقذفون الأحذية القديمة والعبوات البلاستيكية والخِرَقْ إلى جوف مدافئهم كلّ شتاء لاستخراج بعض الدفء، آملين أن تُعيد إيران بشّار الأسد إلى حضنها، وحضن محور مقاومتها، بعد أن زار أخيراً وزير الدفاع الإيراني، عزيز نصير زاده، دمشق، وقبله زارها كبير مستشاري المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران، علي لاريجاني، وكلاهما التقى رأس النظام، فلو عادَ الأخير ولبس قناع المقاومة، فهذا يجعل منه هدفاً للتصفية من إسرائيل، وهذه المرّة سَمِعَ التهديد من فم نتنياهو مباشرةً حين نهاهُ عن اللعب بالنار، في كلمةٍ متلفزة ظهر فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي عقب موافقته على الهدنة مع لبنان.

ثمّة نوعان من الأحذية يتجوّلان داخل أفكار بشّار الأسد، الأول تلك التي يحرقها مواطنوه في مناطق سيطرته لأجل تسوّلِ بعض الدفء منها، وهذا النوع من الأحذية لا يقلقه. والثاني أحذية مقاتلي الفصائل المسلّحة في الجيش الوطني تدوس صوره في أثناء زحفها في معاركَ مفاجئة بدأتها أواخر شهر نوفمبر/ تشرين الثاني لاسترداد ريف حلب الغربي، وربّما محافظة حلب بأكملها، وهي ثاني أكبر معقل للاحتلال الإيراني بعد دمشق، وهذا النوع من الأحذية هو الذي يُقلق رأس بشّار الأسد حقاً.

أيمن الشوفي
أيمن الشوفي
كاتب سوري، خرّيج جامعي في الصحافة، أصدر رواية في 2002.