أحمد الشرع... متوالية براغماتية مفيدة وأسئلة مفتوحة
منذ ظُهوره أخيراً بلباسه المدني للمرّة الأولى (توقّفت الكاتبة عنده في مقالها "الجولاني... أحمد الشرع الذي عاد سوريّاً"، "العربي الجديد"، 16/12/2024)، لا يتوقّف التقدّم السريع في تحوّلات صورة أحمد الشرع وجماعته، وكأنّها لا تقاس مجازاً إلّا بسرعة الضوء. لقد مرّت على ذلك الرجل تحوّلاتٌ كثيرة، بنى تحتها إشارات كثيرة، ومن ثمّ فجأةً، تقدّم ليحتلّ المساحة الأكبر من الحيّز العام. تلك التحوّلات لا تُعطِي حكم قيمة لما جرى ويجري، بل تحاول تفسير المعجزة التي حصلت في سورية (سقوط النظام الأسدي) من خلال ملاحظة صورة المسيطرين الجدد على الحكم.
يرتبط تقليب أوجه تلك التحوّلات ومعانيها بشكل ما بتغيير خريطة تقاسم المصالح الدولية في الأرض السورية. الشرع (بما يمثّله) لا ينفصل عن رؤيةٍ جديدة تتبنّاها الدول، وتسعى من خلالها إلى إحداث قطيعةٍ مع الجهادية وإعادة تدوير التطرّف في المنطقة. هذان عاملان أساسان في ما حدث. ورغم ذلك، لا يمكن إغفال دور هيئة تحرير الشام، خصوصاً بعد أن كشفت الأيّام الماضية (عبر مصادر مطّلعة منهم) أنّ الدخول إلى دمشق لم يكن وارداً، وأن نيّتهم كانت التوقّف في حلب. إلّا أن وهج النصر الذي قادهم إلى مدينة حماة، حيث تحضر ذكريات مجزرتها المهولة، دفعهم إلى التقدّم من دون تفكير في التوقّف، حتى الوصول إلى دمشق.
لم ينسَ أحمد الشرع خلفيته التي نقلته من مقاتلٍ في "القاعدة" إلى قائدٍ في قصر الشعب بدمشق، لكنّه في الوقت نفسه يسعى لإعادة تشكيلها
خلال أسبوعين فقط، حدث الكثير. ستظلّ تحوّلات أحمد الشرع مثار دهشة وحيرة، إذ يبدو أنّه (ومنذ بداية حياته) منفتح على التغيير. بهذا المعنى، لا يظهر الشرع رجلاً جامداً أو أفقياً، بل متحرّكاً، ومساره مفتوح، سواء في قيادة العمليات في الأرض أو في العمل الدبلوماسي. إضافة إلى جميع الظهورات التي تبعت ظهوره الأول، يبدو أحمد الشرع حريصاً على الحضور الإعلامي، ويتعامل بأريحيةٍ مع صور "السيلفي"، وكأنّه يقول: "أنا متاح للجميع، أنا جزءٌ منكم". هذه النقطة تحديداً تمثّل جوهر هُويَّته متبدّلة الإشهار. كان هذا التحوّل الأبرز، إذ قلب الطاولة على ماضيه الذي لطالما أخفاه وراء وشاحٍ جهاديّ في لقاءاته السابقة. ظهوره في مقابلة مع قناة "بي بي سي" من قصر الشعب (الرئاسي)، وبحضور وسيلة إعلام عالمية شهيرة، لم يكن مُجرَّد ظهور إعلاميّ، بل خطوة أبعد نحو تجاوز الإشهار وطمأنة الداخل والخارج. في تلك اللحظة، رسم الشرع حدود شخصية جامعة أراد للسوريين أن يروها. تحدّث عن دولة تمدّ يدها لجيرانها، لكنّه (في المقابلة نفسها) أعلن نفسه رجلاً دبلوماسياً بمرونةٍ مكيافيلية، يُتقن لغة المصالح كما يُتقن لغة المعارك.
في العموم، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ المقابلة التي بثتها "بي بي سي" تشكّل نموذجاً مثالياً للحديث عن النظرة الاستعلائية والنمطية تجاه العالم العربي. برز هذا بوضوح في الأسئلة التي طُرحِت بشّأن حقوق المرأة والتعليم والحجاب والأقلّيات والحقوق الفردية مثل منع الكحول. كلّ إجابات أحمد الشرع عن هذه المواضيع استندت إلى مسألتَين أساسيتَين. أوّلاً، عدم تبني أيّ رأي مباشر بشأنها، وأنّ التعليم سيكون متاحاً للنساء. أمّا باقي التفاصيل، فقد أحالها إلى الدستور وآراء السوريين التي ستحدّد طبيعة هذه القوانين. كلامٌ غائم، ولكنّه مُبشِّر. وقد أصرّ الشرع على التفريق بين آرائه الشخصيّة وما سيكفله الدستور من حرّياتٍ وحقوق، لكنّ السؤال الذي ظلّ معلّقاً: من سيضع هذا الدستور؟ ولماذا الهروب المستمرّ؟
في تلك اللحظة، لم يكن الشرع رجلاً أيديولوجياً بقدر ما بدا رجل دولة براغماتياً يوازن بين ضرورات الداخل وضغوط الخارج، محاولاً أن يُبقي الأبواب كلّها مفتوحةً من دون أن يغلق أيّاً منها بإجابة قاطعة. لم تكن هناك إجابةٌ واضحة في ردّه على هذه التساؤلات. الصورة المنقوصة رممتها لاحقاً قرارات وإجراءات أخرى كما قد يظنّ بعضهم، فعلى صعيد قضايا النساء، عيّنت سيدة خاصّة في مكتب شؤون المرأة، صرّحت في لقاء تلفزيوني بأنّ النساء سيكون لهنّ دور فعّال اجتماعياً، سياسياً واقتصادياً، مشدّدةً على أنّ هذه المشاركة ستشمل جميع الطوائف. الصورة التي حاول الشرع تفادي استكمالها جاءت إدارة الشؤون السياسية لتسدّ فراغاتها، إذ تبيّن أنّ وزير الخارجية الجديد أسعد الشيباني كان المحرّك وراء تأسيس هذه الإدارة. وباستثناء السيدة المعنيّة بشؤون المرأة، تبقى النساء مُغيّباتٍ بالكامل عن حضور أيّ من الأنشطة أو اللقاءات والفاعليات السياسيّة أو الحكوميّة حتّى الآن. لا يريد الشرع خسارة قاعدته الشعبية من الإسلاميين، ولهذا على الأرجح لن يتحدّث مباشرةً عن مفردات يردّدها الغرب مثل "الديمقراطية" و"حقوق المرأة"... لكنّه هنا يقدّم إجابات تلتفّ حول السؤال، ويجيب غالباً بسؤال آخر، عبارته المفضلة هي "الشعب يقرّر". ويظلّ يكرّر: "الدستور هو الحكم".
لم ينس الرجل خلفيته التي نقلته من مقاتلٍ في "القاعدة" إلى قائدٍ في قصر الشعب بدمشق، لكنّه في الوقت نفسه يسعى لمحوها تدريجياً، أو بالأحرى إعادة تشكيلها بما يحفظ له قاعدته الجماهيرية ومحبّة أنصاره، إنّه رجلٌ يعرف كيف يمسك لسانه جيّداً، فيما تبقى عينٌ على قاعدته الشعبية وعلى المزاج العام (الذي لا يُمكن إنكار طابعه الإسلامي) في سورية والعالم العربي، وعينٌ أخرى تتبع أسلوباً دبلوماسياً براغماتياً في التعامل مع الغرب. وفي حديثه عن موضوع الأقلّيات (الكليشيه المحبّبة لدى الغرب)، يكرّر أحمد الشرع الجملة نفسها تقريباً "سورية منذ آلاف السنين تعيش بطوائفها، ولا أحد يستطيع أن يلغي الآخر". يضرب مثالاً بالدخول العسكري للفصائل إلى قرى ومدن من أقلّيات متنوعة، مشيراً إلى أنّ هذا الدخول السلميّ أشبه بمعجزة تستحقّ الدراسة والتأمّل. كيف تمكّنوا من فعل ذلك؟ هذا المثال يوقف المذيع قليلاً، وكأنّ الحدث نفسه خارج عن المنطق المعتاد، فيعود بعدها إلى الصورة النمطية للرجال الملتحين والمسلحين والغارقين في الغموض. هنا، يعيد المذيع طرح سؤال المجتمع الدولي المتكرّر: "ألا يخشى العالم من ارتباط الشرع السابق بتنظيم القاعدة؟ ألا يوجد تخوّف من أن تتحوّل سورية أفغانستان أخرى؟
بهدوء، يجيب الشرع، لكن هذه المرّة بلغة تحليلية، "العالم اختلف، وسورية ليست أفغانستان. الظروف التي رافقت ظهور طالبان كانت مختلفة تماماً". يرسل رسالته بشكل غير مباشر: "العالم لم يعد يريد الجهادية، فلماذا يُطرح هذا السؤال؟". وكعادته، وبلغة جسديّة واثقة لا تعكس أيّ اضطراب، يُعلِن الشرع بوضوح: "سورية لن تكون مثل أفغانستان"، مرّة أخرى. ومع ذلك، يعيد المذيع الكرّة، ليطرح الأسئلة نفسها عن الحجاب والنساء والأقليات والكحول، وكأنّ مشكلات سورية تنحصر في هذه الكلمات السحرية. الشرع (بابتسامة باردة) يردّ العبارة نفسها: "هذه أجوبة محلّها الدستور، ولست أنا من يحدّدها". ليس هناك مكيافيليّ أكثر دهاءً من ذلك. فالرجل، الذي يُقال إنّه أفلت من قبضة المخابرات السورية، وأوحى للعراقيين في أثناء سجنه في العراق بأنّه مواطن عراقي لا سوريّ، هو نفسه الذي اجتاز اختبار اللغة في السجن وكأنّه ابن البلاد، لن يعجز عن التملّص من أسئلة نمطيّة كهذه. إنّه يعرف متى يتحدّث، وكيف يجيب، من دون أن يمنح السائلَ فرصةً للقبض عليه بكلمة واحدة. الحرج الذي وضعه فيه المذيع عند الحديث عن قضايا تمثّل مرجعاً حسّاساً في الوجدان الشعبي السوري (كالتدخّل العسكريّ الخارجي، وإسرائيل، والعلاقة مع دول الجوار) لم يبدُ أنّه زعزع ثقته. كان الرجل واضحاً: "سورية منهكة." لم يقل صراحةً إن سورية لن تحارب إسرائيل، لكنّه أشار بعبارات دقيقة "لسنا بصدد شنّ حرب على أحد"، رغم أنّ إسرائيل لا تزال تحتلّ وتتقدّم في الأراضي السورية، إلا أنّه تجاهل التوسّع الإسرائيلي المباشر مفضّلاً التركيز في "أهمية بناء البيت من الداخل"، بلدٌ مدمّر يحتاج (في أكثر السيناريوهات تفاؤلاً) عشرات السنين لإصلاح خرابه. أمّا في ما يتعلّق بالتدخّل الخارجي، متجنباً إثارة أيّ قلق أو غضب من الأطراف الفاعلة، لم يُظهِر أيَّ تنازل عن موقع سورية وسيادتها. أقرَّ بأنّ الإيرانيين خرجوا، وهذه حقيقة. لكنّه لم ينسب ذلك إلى نفسه، بل أشار إلى أنّ "جماعته" كانت وراء الأمر (في تجاوزٍ مُستمرٍّ لحقيقة أنّ عملية ردع العدوان كانت الحلقة الختاميّة لنضالات السوريين المستمرّة وتضحياتهم منذ بداية الثورة السوريّة). أمّا الأتراك، فوصفهم بـ"الأصدقاء" الذين جاءوا لمساعدة الشعب السوري، بينما روسيا، ورغم أنّها كانت تاريخياً "حليفةً استراتجيةً لسورية وستبقى"، لكنّه شدّد على ضرورة "إعادة قراءة العلاقة معها".
الشرع ابنٌ لرجلٍ نازحٍ من الجولان السوريّ، والنازحون في سورية عاشوا حالةً دائمة من المنفى الداخليّ، وواجهوا استعلاءً اجتماعياً
يمدّ يدّه للجميع، ويسعى إلى طمأنة دول الجوار بأنّ "سورية ستكون جارّة مستقرّة، ولن تصدّر مشكلاتها إلى الخارج". إنه ينسج الخيوط بدقّة، كما يفعل في الداخل عبر تحريك الفصائل وترتيب الصفوف. هذا ليس قائداً عسكرياً فقط، بل سياسيٌّ بارع. لنأتِ إلى الأمر المُلِحّ؛ في حال تأخّر دفع الرواتب وسط الانهيار الاقتصادي الحادّ، فسنكون أمام مجاعة حقيقية في سورية. رغم كلّ شيء، الناس في النهاية تريد الخبز، تريد أن تأكل. الشرع شدّد في مختلف إطلالاته على "أهمية رفع العقوبات الاقتصادية." يدرك تماماً أنّ رفع العقوبات سيغيّر موقع سورية في المعادلة، وهو يعلم أنّ نشاطه كلّه، والجهد الهائل الذي بذله للوصول إلى هذه النقطة، قد يتعثّر. الصورة التي يسعى إلى بنائها قد تنهار سريعاً أمام واقع الجوع واليأس، عدا التحدّيات الأخرى الهائلة.
في ظهوره أخيراً مع رجال الأعمال، بدا كأنّه واحد منهم، رجل أعمال يجمع من حوله الطبقة الاقتصاديّة. وفي اليوم التالي، بعد انتشار الحديث عن احتمال اندلاع اقتتال بين الفصائل، ظهر محاطاً بهم، قائداً عسكرياً يتوسّط حلقاتهم، يفرض حضوره بينهم. في الجامع، يظهر داعيةً مسلماً. في الشاشات، وفي الصحف، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، تتوالى صوره ورسائله المشفّرة والواضحة، لكنّها دوماً تحافظ على هيبته. إلّا أنّ النقطة الفاصلة كانت صورته أخيراً مع وزير الخارجية التركي والزعيم اللبناني وليد جنبلاط، لقاءٌ بروتوكوليّ حمل دلالات زعامته. بدا المشهد رئاسياً بكلّ تفاصيله، الرجلان (التركي واللبناني) ينادياه بـ"القائد والرئيس". صورته مع الوزير التركيّ، بينما علم الثورة والعلم التركي جنباً إلى جنب، وفي تساوٍ ونديّة، كانت الأوضح في تكريس صورته زعيماً. بينما مع الوفد اللبناني، كان يتوسّطهم جالساً في المقعد الأكبر في الصدارة في إشارةٍ واضحة. لا أحد يُنكر أنّ الشرع يعلن نفسه قائداً، حتّى لو نفى ذلك مراراً، حتى لو قال إنّ الشعب هو الذي سيقرّر. لكن...
تحوّلات أحمد الشرع لا تتوقّف، لكن تمكن قراءتها من زاويةٍ تعود إلى جذوره وطفولته، فهو ابنٌ لرجلٍ نازحٍ من الجولان السوريّ المُحتلّ، والده حسين الشرع، الأكاديميّ القوميّ القريب فكريّاً من الناصرية. عاد إلى حيّه ومدرسته واستعاد بيت عائلته في دمشق، في مشهدٍ يعكسُ رمزية "نهاية المنفى". تنحدر عائلته من بلدة فيق، لكنّه وُلد في السعودية عام 1982، في ذروة الصراع بين نظام الأسد والجماعات الإسلامية، وفي أعقاب مجزرة حماة، حين كان المحافظون يتصدّرون المشهد السياسي في العالم؛ الخميني ورونالد ريغان ومارغريت تاتشر، مع صعود الإسلاميين في العالم العربي قوّةً بديلةً في فراغ المشروع التقدّمي اليساري. نشأ في حيٍّ من أحياء الطبقة الوسطى، لكنّه ظلّ يحمل هُويَّة النازح، الذي ينظر إليه بعض المجتمع السوريّ نظرة استعلائية. هذا النظام الاجتماعيّ الذي بنته عائلة الأسد ليس طائفياً أو دينياً فقط، بل طبقيٌّ وعنصريٌّ أيضاً. كان الشرع، منذ طفولته، ابناً لمجتمع يعاني من التميّيز. ومن المفارقات أنّ أحد أهمّ شعارات الثورة السورية في 2011 كان "أنا شاوي"، تعبيراً عن مطالب المساواة وإنهاء التصنيفات الطبقيّة بين السوريين. فالنازحون في سورية عاشوا حالةً دائمة من المنفى الداخليّ، وواجهوا استعلاءً اجتماعياً.
كان أصغر إخوته الذكور، وفي لحظة صُعود المزاج الشعبي الرافض الغزوَ الأميركيّ للعراق، وجد نفسه مُنجذباً إلى التيّار الأكثر غضباً، حين كانت فكرة مُقاومة المحتلّ الأميركي سائدةً في أوساط الشباب بكامل تيّاراتهم الفكريّة اليساريّة والقوميّة والإسلاميّة. في تلك الفترة، دفعت المخابرات السوريّة شباباً كثيرين للقتال في العراق تحت شعارات مقاومة الاحتلال الأميركيّ. إحدى الشهادات التي توثّق هذه المرحلة كانت من آمنة الخولاني، المنتمية إلى حركةٍ إسلامية لاعنفيّةٍ في داريا تُعرف بـ"الأكرميين"، روت لكاتبة هذه السطور حادثةً عن الشيخ عبد الأكرم السقّا (الذي قضى في سجون النظام الأسدي)، وكيف كان يحثّ الشباب على الجهاد في مدينتهم وتنميتها بدلاً من الذهاب إلى القتال في العراق. لكن، في الوقت الذي دعا فيه الشيخ السقّا إلى التنمية والعمل المُجتمعيّ محلّياً، كانت منابر أخرى تحت سيطرة شيوخ يتبعون المخابرات تحثّ الشباب على الجهاد تحت شعار "دحر الغزاة الأميركيين." كانت تلك المرحلة تحمل تناقضاً واضحاً، إذ يُدفع الشباب إلى القتال بأوامر النظام نفسه. كان الأسد (الأب) قد أتقن لعبة إدارة المجموعات الجهاديّة، وورّثها لابنه واحدةً من أدوات التحكّم في توازنات المنطقة.
ليست قصّة أحمد الشرع قصّة صعود رجل فقط، بل حكاية جيلٍ بأكمله ارتطم بمصالح القوى العظمى من جهة، وبمصالح الطغاة المستبدّين بشعوبهم من جهةٍ أخرى، وحوّلهم أفراداً غير فاعلين في تشكيل حيّزهم المكانيّ الأصليّ، جيل وقع ضحيّةَ مشاريعَ أكبر من أحلامه، ودُفِع إلى خطوط النار ليصبح لاحقاً جزءاً من إعادة تشكيل الخريطة السياسيّة والعسكريّة للمنطقة. من السجن في العراق، إلى العلاقة الوثيقة بتنظيم القاعدة، ثمّ إلى التمرّد على قادته الذين تأثّر بهم، وتشكيل هيئة تحرير الشام، يرسم الشرع مسيرةً غير اعتيادية. من ذلك الفقدان كلّه ربّما جاءت تلك الرغبة بالزعامة.
قصّة الشرع ليست قصّة صعود رجل فقط، بل حكاية جيلٍ ارتطم بمصالح القوى العظمى وبمصالح الطغاة المستبدّين
لا يُمكن لأحدٍ أن ينكر تمثّلات العظمة التي تظهر في شخصيته، ولا يستطيع أحدٌ تجاهل نظرته إلى نفسه قائداً. خلف كلّ مظاهر التواضع والهدوء ولياقة الحديث، يبرز إصرارٌ وعزيمةٌ واضحة لتجاوز الحدود، والمخاطرة والمجازفة رجلاً طموحاً، دائم التحرّك والتبدّل. غير أن هذا التبدّل، وإن كان يسير إلى الأمام، لا يجعلنا نخشى منه شخصاً متشدّداً. يبدو واضحاً أنّه قد قطع مع الجهادية التقليدية، لكن ما يقلق هو شكل الحكم القادم الذي ينطق باسمه، وصياغة الدستور، وعملية الانتقال السياسي في سورية. ومع ذلك، لا يعني هذا أنّه تخلّى عن صورته عن نفسه قائداً محاطاً بهالة العظمة، فقد تكاتفت الظروف والمعطيات (محلّياً ودولياً) لتجعله في موقع الفاتح والمبشّر بعهدٍ جديد، يريد السورييون أن يبنوا فيه وطنهم شعباً واحداً، وبإرادةٍ جماعيّة بعد نصف قرنٍ من حُكمٍ فردي لعائلة إجراميّة. لعلّ الأيام المقبلة تحمل إجاباتٍ أكثرَ وضوحاً.
مع دخولنا في الأسبوع الرابع لسقوط النظام وهروب الأسد، نحتاج فعلاً وأكثر من أيّ وقتٍ مضى إلى القيام بخطواتٍ جديّة وعمليّة وواضحةٍ نحو عملية انتقالٍ سياسيٍّ ديمقراطيّ، حتّى لو كان من الصّعب على الحكومة المؤقّتة ممثّلةً بقائدها لفظُ هذه العبارة. فرُغم الغموض والمخاوف، لن تكون هذه الأيّام أسوأ ممّا عاشته سورية تحت حكم الأسديّين. تلك الأيام التي عاشت فيها "سورية فوق الأرض" مكبّلة ومكمّمة الأفواه، بينما امتلّأت "سورية تحت الأرض" بأجساد المعتقلين والشهداء. سورية المدفونة التي تكسّر صمتها اليوم لتكشفَ المقابر الجماعية والسجون، بينما سورية فوق الأرض تُحاول أن تنهضَ وتعيش.
بانتظار الأيّام المقبلة...