أحمد زكي يماني .. شيخ النفط ونجم نجوم أوبك

27 فبراير 2021

أحمد زكي يماني: شركة أرامكو كانت دولة في دولة (1/1/1970/ Getty)

+ الخط -

غاب عن الأنظار 35 عاما، بيد أن هذا الغياب الطويل لم يطفئ وهج ثاني وزير نفط سعودي، وأول أمين عام لمنظمة أوبك (الدول المصدرة للنفط)، ونعني به أحمد زكي يماني، الذي يقترن اسمه بلقب الشيخ، وهو لقب توقيري غير ديني وغير قَبَلي، ويستخدم في دول عربية، منها السعودية ولبنان، وقد رحل عن دنيانا يوم 23 فبراير/ شباط الجاري في مهجره الاختياري في لندن عن 91 عاما. وقد انتبه كثيرون إلى غيابه المديد مع إعلان خبر وفاته، فيما لاحظ عديدون أيضا أن صورة الرجل وسيرته المهنية و"السياسية" لم يكتنفهما النسيان أبدا، ليس بفضل إطلالات متباعدة للرجل عبر وسائل الإعلام فحسب، وإنما لأن اسمه ارتبط بصناعة النفط، وهي الصناعة الكبرى في بلده، وبالإجراءات البترولية ضد الغرب في العام 1973، ولأنه تعرّض، ذات يوم من أواخر العام 1975، مع عدد من وزراء النفط في العالم، لعملية اختطاف في فيينا، في أثناء اجتماع وزاري لـ "أوبك"، وكادت عملية الاختطاف تودي بحياته، وقد انتهت في الجزائر، وبتدخّل من الرئيس هواري بومدين، بإطلاق الخاطفين، وفي مقدمتهم الفنزويلي كارلوس، ودفع فدية لهم، وتمكينهم من المغادرة بحرية، وتحرير المختطفين. وتشاء المصادفة، أو المفارقة، أن تختطف يد المنون أحد خاطفيه، وهو أنيس النقاش، عن 70 عاما في دمشق، قبل يوم من رحيل يماني.

حلّ اليماني وزيرا للنفط في السعودية في 1962، وهو في مقتبل الثلاثينات من عمره، ومن غير أن يكون منتميا إلى إحدى القبائل أو العائلات الكبيرة.

حلّ الرجل وزيرا للنفط في السعودية في عام 1962، وهو في مقتبل الثلاثينات من عمره، ومن غير أن يكون منتميا إلى إحدى القبائل أو العائلات الكبيرة. وبعد بضعة أعوام من انخراطه في العمل في مواقع قيادية منها وزير دولة. لقد خلف في موقعه عبدالله الطريقي، أول وزير للنفط في بلده، ورغم أن الأخير لم يمكث سوى عامين في منصبه، إلا أن شهرته طبقت الآفاق، باعتباره مسؤولا سعوديا يجمع بين الحسّ العروبي والنزعة الليبرالية، ويدعو إلى السيطرة على الثروة الوطنية، وعلى الاستقلال الناجز في سائر الميادين، بما فيها الميدان الاقتصادي، وعلى إقامة مراكز بحث ودراسات تختص بهذه الثروة، في وقتٍ كانت فيه البلاد مغرقة في المحافظة، وتقود معسكرا إسلامياً في مواجهة المد الناصري. والطريقي مؤسس "أوبك"، إلى جانب وزير النفط الفنزويلي حينذاك، خوان ألفونز، في 1960.

بغياب أحمد زكي يماني، وقلة غيره في العالم العربي، تغيب مرحلة كان وزراء فيها يسهمون في صنع السياسات، ولا يكتفون بأبّهة المنصب

كان أحمد اليماني، دارس القانون وخريج هارفرد وكامبريدج، من قماشةٍ أخرى، بيد أنه لا يقل عن سلفه في طموحاته لتحرير الثروة النفطية من الاستغلال غير المتكافئ لها من جهات أجنبية (أميركية). وقد عمد الى مأسسة صناعة النفط وتهيئة بنية تحتية لها، حيث أسس هيئة البترول والثروة المعدنية (بترومين)، وتبعها بتأسيس جامعة البترول والمعادن لتخريج مهندسين سعوديين. وكان يرى أن الحديث عن تأميم البترول سيكون مجرد كلام في الهواء، في غياب كوادر وطنية مؤهلة لقيادة صناعة إنتاج النفط. وخلال ذلك، أسهم في إجراء مفاوضاتٍ مع شركة أرامكو لإعادة تنظيم الاتفاقيات معها، وهذه شركة أميركية، أنشئت في عام 1944، وكانت كما يقول اليماني "دولة داخل الدولة". وقد تطلب الأمر مضي 36 عاما قبل أن تسيطر المملكة العربية السعودية على صناعة النفط بالكامل، في 1980، وتمكّنت من مباشرة حقها في تحديد سعر النفط منذ 1973 في عهد الملك فيصل. وكان لليماني الذي حظي بثقة الملك الراحل دور في صناعة القرارات الخاصة بالثروة الوطنية. أما القرار المتعلق بالإجراءات النفطية في 1973، فقد اتخذه الملك الراحل بالاستئناس برأي وزيره، وكان يقضي بخفض تصدير النفط تدريجيا وتصاعديا، بنسبةٍ تبدأ بـ 5% شهريا، ورفع سعر النفط من ثلاثة دولارات إلى 11دولارا، غير أن إيران، في أثناء حكم الشاه، وبالتنسيق مع الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، ضغطت لاستبدال هذا القرار برفع أسعار النفط بدون الحد من تصديره، ولم ينجح مؤتمر وزاري عقد في الجزائر، وضم مصر والسعودية والعراق والجزائر وسورية، في بلورة موقف عربي يقضي بمواصلة الإجراءات البترولية بصيغةٍ أو بأخرى، وهو ما أدّى إلى وقف تلك الإجراءات. ثم إلى قيام تحرّكات نشطة على أوسع المستويات بين الولايات المتحدة والغرب من جهة ومنتجي النفط، من أجل بلورة سياسة تمنع "تسييس" النفط، وتعتبره مجرّد سلعة، وإن كانت استراتيجية، وهذا ما جرى. وبذلك طويت صفحة استخدام النفط في "المعركة"، فيما يقول يماني إنه لم يجر استخدام النفط سلاحا، وإنما أداة سياسية لإبلاغ الرأي العام في الغرب أن ثمة مشكلة بين العرب وإسرائيل (تتعلق بالأراضي المحتلة). بعدئذ، وفي عام 1974، شهدت الثروة النفطية فورة كبيرة في الأسعار، ضاعفت من ميزانيات الدول المنتجة، ونشأت مخاوف خلال ذلك من أية مقاطعة غربية أو غير غربية لإنتاج دولة أو أكثر (كما هو الحال الآن مع مقاطعة استيراد النفط الإيراني). وبهذا انعكست الآية، فقد أخذت الدول تتنافس على التصدير، فيما تتضارب الآراء، بين آونةٍ وأخرى، بشأن كميات النفط المخوّل لكل دولة تصديرها ("أوبك" تضبط هذا الأمر نظريا على الأقل بتحديد الحصص)، وحول السعر "العادل" لجميع الأطراف. وقد ظل أحمد زكي يماني، طوال السبعينيات وحتى بعيد منتصف الثمانينيات، من أبرز نجوم اجتماعات "أوبك"، ويسنده في ذلك أن بلده من أكبر الدول المنتجة، وأنه شخصياً من أقدم وزراء النفط بين نظرائه في العالم، ويتمتع بكاريزما إعلامية.

عمد يماني إلى مأسسة صناعة النفط وتهيئة بنية تحتية لها، حيث أسس هيئة البترول والثروة المعدنية، وتبعها بتأسيس جامعة البترول والمعادن

عمل الرجل بمعية أربعة ملوك من أبناء الملك المؤسس عبد العزيز، سعود وفيصل وخالد وفهد. وقد احتفظ بحقيبة النفط أربعة أعوام في عهد الملك الرابع (فهد) حتى عام 1986. وقيل إن خلافاتٍ وقعت بشأن السياسة النفطية وبعض الصفقات النفطية، ما أدّى إلى إعفاء يماني من منصبه الذي ظل يقترن باسمه نحو ربع قرن. ومع مغادرته موقعه في سنٍّ غير متقدّمة (56 عاماً)، يمم وجهه إلى الإقامة في أوروبا والنأي عن الأضواء، ما خلا إطلالات متناثرة، أظهر خلالها وجه السياسي فيه، فعلى هامش معرض القاهرة للكتاب في عام 2003، حذّر من غزو العراق، وقال إن هذه الحرب سوف تشكل فاجعة للعالم العربي، وسوف تنجب مائة أسامة بن لادن (صحّ توقعه ببروز تنظيم داعش الإرهابي من أعطاف تنظيم القاعدة). وانصرف الرجل بعد عامين على "تقاعده" إلى إنشاء "مركز دراسات الطاقة العالمي"، ثم أنشأ عقب عامين آخرين "مركز الفرقان الإسلامي للتراث" في لندن. وبغياب الرجل، وقلة غيره في العالم العربي، تغيب مرحلة كان وزراء فيها يسهمون في صنع السياسات، ولا يكتفون بأبّهة المنصب.

محمود الريماوي
محمود الريماوي
قاص وروائي وكاتب سياسي من الأردن.