أخبار ليست عابرة... عن تغطيات الحرب
ثمّة مفارقةٌ بين نقل الأحداث اليومية القاسية (والصور الصعبة من قطاع غزّة) وطبيعة البشر في التعامل مع هذه الصور. من ناحية، تسارع بعض وسائل الإعلام إلى بثّ المشاهد الصعبة بوصفها حدثاً خبرياً، خاصّة المجازر التي لم تتوقّف منذ بداية الحرب، لكنّ السؤال المهم عن تأثير هذه الصور والمَشاهد على المتابعين بعد أكثر من ثلاثمائة يوم، خاصّة أن معظم وسائل الإعلام المتلفزة باتت تسابق وسائل التواصل الاجتماعي التي لا يخضع من ينشر عليها لضوابط مهنية يعرفها صحافيو غرف الأخبار.
في مدار مائتي يوم من تغطيتي الحرب على غزّة من الميدان، حرصتُ على النأي بالمُشاهدين وفق قواعد مهنية عن صور الجثث المكشوفة، وعن أشلاء الشهداء جميعهم، احتراماً لهم وللمهنة. عدا عن الصورة الصعبة التي لا أنساها، صورة رجل جاء حاملاً جثّة طفل صغير ونحن على الهواء مباشرة، كاميرا "التلفزيون العربي" كانت الوحيدة آنذاك التي غطت يوماً إخبارياً كاملاً على الهواء مباشرة من مستشفى الأهلي العربي المعمداني. كان في وسعي يومها، وفي غير يوم، أن أنقل مشاهد الجثث المتناثرة في أطراف المكان؛ ساحة المستشفى، وعند باب الكنيسة، وعلى فروع الشجر العالي، بينما كان القرار المشترك المعمول به بناء على حكم تحريري بعدم بثّ مشاهدَ من هذا النوع، مهما كان السبب أو النتيجة.
يؤدّي نشر مشاهد الضحايا وصورهم وجثثهم بشكل مُتكرّر إلى جعلها مُستهلَكة، ما لم يُفتح نقاش حول الصور، فالشهداء ليسوا أرقاماً، وبالطبع لكلّ واحد حكاية. لا يكفي الصحافي، ولا وسيلته الإعلامية، القول إنّ عدد الشهداء اليوم بلغ كذا وكذا، الأفضل الذهاب إلى تفاصيل إضافية مهمّة عن الحدث، كالقول إنّ الشهداء هم رجل وأطفاله، أو جدّة وأحفادها، أو طفل رضيع، بما يساعد في فتح مجال للنقاش بشأن الحدث والصورة عند المُتلقّي، وعدم الاكتفاء بأعداد الضحايا وتكرار مشاهدَ الموت.
في حادثة الطفلة هند رجب، لم تكن القصّة عابرةً، ولم يكن الخبر كذلك، وحينما كان يأتي دور مُداخلاتي كنتُ أذكر تحديثاً عن قصتها في كلّ نشرة، بالقول إنّه قد مرّت ساعة إضافية من دون معرفة مصير الطفلة، ثمّ إنّه مرّت ساعة أخرى، سواء سألني المذيع أو المذيعة أم لا عما حدث مع هند، الطفلة التي قتلها الاحتلال في مدينة غزّة مع عائلتها، وقتل من ذهب ليسعفها، وهما مسعفان شجاعان، رحمهما الله. تالياً، ومع مرور أيام الحرب، وضعت عنواناً لكلّ صورة كنت أنشرها في وسائل التواصل الاجتماعي، تحت وسم "أصور_لأوثق"، والتوثيق مهمّ، وقد يكون أساساً في العمل الصحافي للمراسل الميداني في الأرض.
ثمّة حاجة ماسّة إلى التحوّل من تحليل الأخبار في التغطيات المفتوحة إلى فتح مسارات للمُتضامنين في العالم والوطن العربي
حينما مَنعَ (ويمنع) الاحتلال لجان التحقيق الدولية، ولجان التوثيق، من دخول قطاع غزّة، وجدتُ أنّه من المهم توثيق الصور، بقايا السلاح، الصواريخ التي لم تنفجر، جثث الضحايا، ما يظهر على أجساد الأطفال والنساء، قصص المصابين، لكنّ هذه الصور كانت مهمّة لتصويرها، وليس بالضرورة نشرها، ذاكرة هاتفي ممتلئة بها، ثمّة وقت ومكان آخر للتعامل معها لأهميتها بالنسبة إلى غير الشاشة.
فرضت أحداث الحرب على قطاع غزّة علينا جميعاً تحدّيات كبيرة، يمكننا، بعد كلّ هذا الوقت، وضع أنفسنا في مكان المُشاهدين قليلاً. في نشرات أخبار الصباح أو المساء يستطيع المشاهد تخمين ما سيقوله المذيعون على الشاشات، حتّى طفلي الصغير، بات يقول استُشهد عددٌ من المواطنين... في مجزرةٍ في كذا، ونقطة. هل هذا ما نوّد قوله للمشاهد العربي؟... أن تصبح كلمة الشهيد أو المجزرة حدثاً يومياً من أحداث حرب الإبادة الجماعية، التي يروح ضحيتها مئات البشر يومياً من سكّان قطاع غزّة.
عكفتُ أخيراً على إطلاق وسم "أخبار ليست عابرة" للإضاءة على تفاصيل مهمّة من الأحداث اليومية التي تقع في قطاع غزّة، وصلتْ إلي وقت نشر هذا المقال نحو 40 مرّة، لم يُنشر معظمها على شاشات التلفزة، وإن نُشرت لا تأخذ حقّها في النقاش والطرح. يغيب صوت الناس المكلومين كثيراً، عدا صوت أولئك المنفعلين الذين يخرجون من تحت أنقاض منزل، أو جيرانه. تقول شاشاتٌ كثيرة عن الناس، عن مديري المشافي ومديري مؤسّسات حقوق الإنسان والمنظّمات الدولية، وليس بلسانهم، لو قسنا حضور المواطنين أصحاب القضية بغيرهم، ضمن حسابات النشرات الإخبارية في محطاتٍ كثيرة. أنسنة القصّة والخبر في النشرات تعني قوة الرواية، والانتصار للضحايا، وإنصافهم في وقت لم تنصفهم فيه قوانين البشر الحديثة كلّها.
هل هذا ما نوّد قوله للمشاهد العربي... أن تصبح كلمة الشهيد أو المجزرة حدثاً يومياً من أحداث حرب الإبادة الجماعية؟
ثمّة أمران مهمّان، حتّى لا تصبح أخبار الناس في غزّة أخباراً عابرةً؛ الجرأة في إعلاء صوت المواطن في غزّة، نازحاً وشقيق شهيد وابن أخي شهيد، وأخت جريح، ليس ذلك فحسب، وممرّضاً يمارس عمله من دون أقلّ متطلبات بيئة العمل الجيدة، ومسعفاً، وأستاذ جامعة، ومزارعاً، وبائعاً على باب المستشفى كان حاله مُبكياً كما كنت أراه، وغيرهم، بعيداً عن المُحلّلين السياسيين الذين سال عن دورهم في الحرب حبر كثيرٌ، ولست بوارد التقييم أو تكرار ما كُتب عنهم، أو سمعته من الناس النازحين إلي جواري طوال أيام التغطية. الأمر الثاني، الحاجة الماسّة إلى التحوّل من تحليل الأخبار في التغطيات المفتوحة إلى فتح مسارات للمُتضامنين في العالم والوطن العربي، كي لا يمسي تضامنهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي هو الأساس، فتستريح إسرائيل، لأنّها تعرف أقصى ما يمكن فعله عربياً بانتفاضة موسمية في وسائل التواصل وحسب.
المطلوب لأيّ تغطية واعية مناصرة للقضية الفلسطينية، وبعيدة عن انتصارات المُعجبين والمشاهدات هي التي تساعد في رسم خريطة الطريق، والتأكيد من خلالها على ضرورة أن يخسر الاحتلال المعركة أمام العالم بموازين الإنسانية، التي يتجرّد منها بوصفه مجرماً قاتلاً، في مقابل تيّار يودّ أن يُظهر أنّ خيار المقاومة خياراً لتحرير فلسطين فاشل، بغضّ النظر عمّن يقاوم، وأنّ ما يحدث من ويلات هي نتاج المقاومة، بينما مسار التطبيع مع الاحتلال يُبعِد شبحَ الحرب ويوفّر الأمن والاستقرار للمنطقة.