أزمة أوكرانيا وخريطة جديدة لأمن أوروبا
عند الحديث عمّا بات يطلق عليه اليوم إعلامياً الأزمة الأوكرانية، لا يمكن إغفال ملفات كثيرة مرتبطة ومتداخلة بهذه الأزمة، ليس أولها الأمن الأوروبي، وأمن الطاقة، ومكانة روسيا العالمية ومطالبتها بضمانات أمنية كتابية، وموقع أميركا وأحادية القطب، ولا تنتهي عند دور الصين الصاعد. وبكلام آخر، هذه الملفات محاور التجاذبات والمد والجزر بين موسكو والغرب، وأوكرانيا الغائب الحاضر، فهي ليست طرفاً في المفاوضات والمحادثات المكثفة الجارية بين موسكو من جهة وواشنطن والاتحاد الأوروبي من جهة ثانية طوال الأسابيع الماضية.
لم تحصل روسيا عملياً على أي شيء، في الرد الخطي من واشنطن وحلف شمال الأطلسي (الناتو) على الضمانات الأمنية التي كانت تطالب بها، وأعلن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن موسكو لا تزال تبحث ردّ واشنطن و"الناتو" على مقترحاتها للضمانات الأمنية، وأنه أصبح واضحاً لروسيا أن الغرب يتجاهل هواجسها على هذا الصعيد.
تشكل أوكرانيا مسألة أمن قومي روسي، وقضية لا تمتلك فيها موسكو رفاهية التراجع. بالمقابل، لا يوجد قرار واضح في واشنطن، يحدّد أولويات أوكرانيا للأمن القومي الأميركي
وفي ختام محادثاتٍ أجراها مع رئيس الوزراء الهنغاري، فيكتور أوربان، في الكرملين، الأول من فبراير/ شباط الجاري، أكد بوتين أن موسكو لم تتلق جواباً مناسباً من واشنطن والاتحاد الأوروبي على المطالب الروسية المحورية الثلاثة، عدم تمدّد "الناتو" شرقا، والتخلي عن نشر أسلحة هجومية قرب حدود روسيا، وإعادة البنية العسكرية للحلف في أوروبا إلى خطوط عام 1997. ويمكن القول إن الشيء الوحيد الإيجابي الذي حصلت موسكو عليه من بين كل ما طالبت به أن الرد كان "خطياً" بناء على طلب روسيا، وهو ما يثير تساؤلاتٍ كثيرة من قبيل: لماذا إذاً تتأخر الحرب؟
وفي الوقت الذي نجد أن أوكرانيا أمن قومي روسي، وقضية لا تمتلك فيها موسكو رفاهية التراجع، لا يوجد قرار واضح في واشنطن، يحدّد أولويات أوكرانيا للأمن القومي الأميركي، وليس لدى الغرب في العموم خطط واضحة للتعامل مع تطورات الأوضاع، سواء في حال حدث غزو روسي شامل، أو اجتياح محدود، وهي الاحتمالات التي تحدّث عنها الرئيس الأميركي بايدن، وهو ما أثار الغضب في كييف، كما أن بعض عواصم الاتحاد الأوروبي لدى كل منها أولويات ومصالح ورؤية خاصة مختلفة حيال موسكو.
نجحت موسكو في إجلاس الغرب على طاولة المفاوضات لأول مرة منذ نهاية الحرب الباردة لبحث خريطة أمنية جديدة
وانعكس كل ما سبق بشكلٍ لا لبس فيه على الاتصال الهاتفي بين الرئيس بايدن ونظيره الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، ولم تسر المكالمة أخيرا بينهما على ما يرام، وفق مصادر أوكرانية عديدة رفعية، بسبب الخلافات حول "مستويات الخطورة" فيما يتعلق بالهجوم الروسي المحتمل على أوكرانيا. لم يوافق بايدن على ما قاله الرئيس الأوكراني إنه ليس مؤكّدا أن الهجوم الروسي سيحدُث، وأصرّ على أن الغزو أصبح شبه مؤكّد، وسيحدُث في وقت لاحق من فبراير/ شباط الجاري. وبحسب مسؤول أوكراني كبير، أبلغ بايدن زيلينسكي بأن بلاده لن تحصل على مزيد من المساعدات العسكرية، ولا قوات أميركية، أو أنظمة أسلحة متطوّرة. وقال المسؤول الأوكراني إن بايدن رفض الدعوات الأوكرانية لفرض عقوباتٍ على روسيا قبل أي غزو، قائلاً إن العقوبات لن تُفرض على موسكو إلا بعد تقدّم روسي إلى الأراضي الأوكرانية.
ويعكس الخلاف بين بايدن وزيلينسكي قلق كييف التي هي موضوع تفاوض بين اللاعبين الدوليين على قضايا وملفات تتجاوز حدود أوكرانيا. وصحيح أن روسيا لم تحصل حتى اليوم على كل ما تريده من وراء حشودها العسكرية، والتي باتت تطوّق أوكرانيا من كل الجهات، من الشرق على حدود الدونباس، ومن الشمال في بيلاروسيا، وفي الجنوب من أراضي شبه جزيرة القرم، بالإضافة إلى وجود القوات الروسية على الحدود الغربية لأوكرانيا في جمهورية ترانسنيستريا المعلنة من جانب واحد في مولدافيا، إلا أن موسكو نجحت في إجلاس الغرب على طاولة المفاوضات لأول مرة منذ نهاية الحرب الباردة لبحث خريطة أمنية جديدة.
أمام برلين وباريس اليوم فرصة تفعيل صيغة النورماندي في إطار أزمة أوكرانيا فقط
وفي قراءة أخرى لمطالب روسيا الأمنية، نجد أن موسكو تريد إخراج القوات الأميركية وحلف الناتو من أوروبا الشرقية والدول التي كانت ضمن حلف وارسو، وبالطريقة نفسها لخروج القوات الروسية أو بقايا القوات السوفياتية من تلك الدول بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أوائل التسعينيات.
ليس استعراض موسكو قدراتها العسكرية جديداً، ومؤكّد أن هذه التحرّكات، أخيرا، تختلف كثيرًا عن التدريبات العسكرية التي تقوم بها روسيا في العادة، وأهميتها اليوم تأتي في إطار توجيه رسالة إلى كييف بالدرجة الأولى، محذّرة من العمل العسكري ضد دونباس، ورسالة أخرى إلى الغرب عموماً أن أمن روسيا لا يبدأ عن حدود روسيا، وإنما عند حدود الدول السوفياتية السابقة.
يبقى القول، أمام برلين وباريس اليوم فرصة تفعيل صيغة النورماندي في إطار أزمة أوكرانيا فقط، في ظل إدراك استحالة تحقيق أي طرف نصر عسكري حاسم هناك، بدون إحداث نزاع عالمي لا يريده أحد الآن.