"أزمة" الفراغ الرئاسي في لبنان ... سياقاتها وسيناريوهات حلّها المحتملة
استضافت الدوحة في 17 تموز/ يوليو 2023 الاجتماع الثاني للمجموعة الخماسية بشأن لبنان، بمشاركة ممثلين من مصر والسعودية وقطر وفرنسا والولايات المتحدة؛ لمناقشة آليات مساعدة لبنان في تجاوز حالة الشلل السياسي، المتمثلة في عجز السياسيين عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية، وما يسبّبه ذلك من تعقيدات في مواجهة الأوضاع الاقتصادية المتفاقمة منذ بدء أزمة المصارف في خريف 2019 وانفجار مرفأ بيروت في آب/ أغسطس 2020، وعدم وجود حكومة تتمتع بصلاحيات اتخاذ القرار بعد تحوّلها إلى حكومة تصريف أعمال نتيجة إقالة الرئيس ميشال عون لها قبل انتهاء ولايته.
السياق العام لأزمة الفراغ الرئاسي
انتهت ولاية الرئيس السابق ميشال عون في 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، وعقد المجلس النيابي 12 جلسة لانتخاب رئيس جديد من دون أن ينجح في ذلك. وتنتهي ولاية حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، المتهم بقضايا فساد كبرى، بنهاية تموز/ يوليو الجاري، وتتولّى حكومة تصريف الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي إدارة البلاد حاليًا، لكن الإصلاحات الضرورية في ظل الأزمة المالية لم تُقَر حتى الآن؛ إذ ترتبط بتشكيل حكومة كاملة الصلاحيات، لكن هذا غير ممكن من دون انتخاب رئيس جديد للجمهورية. وتحاول القوى والأطراف الداخلية إقناع حزب الله بالتخلي عن دعم ترشيح الوزير السابق سليمان فرنجية الذي تعارض ترشيحه الأغلبية، والتوصل إلى مرشح بديل مقبول محليًا وإقليميًا ودوليًا؛ إذ تفضل معظم الأطراف السياسية في لبنان استمرار الفراغ الرئاسي على أن يفرض حزب الله مرشحه باستخدام "الفيتو" بسبب عدم توفر الثلثين لدى الأطراف الأخرى.
أبرز مرشّحي الرئاسة
منذ شغور منصب الرئاسة في لبنان، برزت مجموعة من الأسماء التي تسعى للوصول إلى هذا المنصب؛ أعلن بعضهم ترشّحهم رسميًا مثل ميشال معوض ونعمة أفرام. وينحدر معوّض من مدينة زغرتا في شمال لبنان، وهو نجل رئيس الجمهورية الأسبق رينيه معوض، الذي اغتيل في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 1989. وتعدّ فرصتا معوض وأفرام في الفوز ضئيلة. وبقي آخرون مرشحين ضمنيين، الأول، قائد الجيش العماد جوزيف عون، الذي رافق صعود الرئيس ميشال عون إلى قيادة الجيش في ثمانينيات القرن الماضي، وعُيِّن قائدًا للجيش خلال ولاية الرئيس ميشال عون، وسيُحال إلى التقاعد في بداية كانون الثاني/ يناير 2024. أما الثاني، فهو زياد بارود وزير الداخلية في حكومة فؤاد السنيورة (2008 - 2009). وتقتصر معركة الرئاسة حاليًا على الوزيرين السابقين سليمان فرنجية وجهاد أزعور. يحظى فرنجية بدعم حزب الله، وهو حفيد رئيس الجمهورية الأسبق سليمان فرنجية (1970 - 1976)، ويتحدر من عائلة سياسية في مدينة زغرتا. أما أزعور، فقد كان وزيرًا للمالية في حكومة السنيورة (2005 - 2008). ولأنه يشغل منصب مدير منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي، فلم يعلن ترشّحه حتى تنحّى مؤقتًا عن منصبه، وأصدر بيانًا مطولًا شرح فيه حيثيات هذا الترشّح.
مواقف الأطراف السياسية
يرفض التيار "الوطني الحر" الذي يقوده جبران باسيل ترشيح سليمان فرنجية، وفرض حزب الله مرشحًا مارونيًا من دون موافقة حليفه الماروني (باسيل)؛ ما أثّر في تحالفهما الممتدّ منذ ما يسمّى "اتفاق مار مخايل" في شباط/ فبراير 2006، وهو الاتفاق الذي أوصل عون إلى الرئاسة في عام 2016، مقابل توفير التيار الوطني الحر غطاءً سياسيًا لسلاح حزب الله، والحيلولة دون عزله لبنانيًا. وقد أدّى موقف باسيل إلى تقويض فرص فرنجية في الوصول إلى الرئاسة. ويصرّ حزب الله على دعم ترشيح فرنجية لسببين؛ أولهما اعتقاده بالحاجة إلى رئيسٍ يثق به في المرحلة المقبلة، وثانيهما، لأنه دعم ميشال عون في الانتخابات الأخيرة على حساب حليفه القديم فرنجية، لذا يريد هذه المرة أن يعيد التوازن إلى علاقته بالأخير، ويشعُر أنه قادر على ذلك بسبب زوال الخطر عن النظام السوري وكسر عزلته إقليميًا، وضعف التمثيل السنّي في مجلس النواب، وتراجع الاهتمام السعودي بلبنان، إضافة إلى قبول فرنسا بهذا الترشيح. ولم يتمكن حزب الله من تقريب وجهات النظر بين باسيل وفرنجية، على الرغم من نجاحه في وقف الحملات الإعلامية المتبادلة بينهما.
لا يبدي حزب الله أي مؤشّرات جدّية حول استعداده للتخلي عن ترشيح فرنجية أو القبول بتسوية
في ظل هذا الجمود، برز في مطلع حزيران/ يونيو الماضي تقاطع مصالح بين التيار الوطني الحر والمعارضة حول ترشيح جهاد أزعور للرئاسة. وتتألف المعارضة من حزب القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي وحزب الكتائب وبعض نواب "التغيير" الذين جرى انتخابهم بعد انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، إضافة إلى بعض النواب الذين كانوا جزءًا من تيار المستقبل بزعامة رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري وتحدوا دعوته غير المفهومة لمقاطعة الانتخابات النيابية عام 2022. وتوافقت هذه القوى سابقًا على دعم النائب ميشال معوّض، لكن الأخير لم يحصل على العدد الكافي من الأصوات، وظل يصوّت كل من حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر بالورقة البيضاء في ظل عدم وجود إجماع بينهم. وكان حسن نصر الله، أمين عام حزب الله، قد أعلن رسميًا في 6 آذار/ مارس دعمه ترشيح فرنجية، بعدما التفت المعارضة حول ترشيح معوض خلال المرحلة الأولى من الفراغ الرئاسي، لكن الأخير سحب ترشيحه في 4 حزيران/ يونيو بعد تلاقي المعارضة مع التيار الوطني الحر على ترشيح أزعور.
وفي الجلسة النيابية التي عقدت في 14 حزيران/ يونيو الماضي، حصل جهاد أزعور على 59 صوتًا مقابل 51 صوتًا لسليمان فرنجية، لكن المرشح يحتاج إلى 86 صوتًا للفوز في الدورة الأولى و65 صوتًا لانتخابه في الدورة الثانية التي لم تعقد بسبب تعطيل النصاب. ولا يزال التحالف الداعم لترشيح أزعور مستمرًا على الرغم من هشاشته؛ ذلك أن كتلة التيار الوطني الحر كانت منقسمة حيال دعمه، ما اضطر باسيل إلى التلويح باتخاذ إجراءات ضد من لا يلتزم بالتصويت لمرشح التيار. ويبدو أن نواب "التغيير" منقسمون على أنفسهم أيضًا؛ إذ أعطى بعضهم صوته لزياد بارود الذي لم يُرشح بعد.
من الواضح أن الهدف الرئيس من دعم التيار الوطني الحر لترشيح أزعور منع وصول فرنجية إلى الرئاسة أو على الأقل إقناع حزب الله بالبحث عن بديل. ولا يبدي حزب الله حتى الآن أي مؤشرات جدية حول استعداده للتخلي عن ترشيح فرنجية أو القبول بتسوية. ولم يطرح مرشح تسوية تقبل به مختلف الأطراف المعنية، خصوصًا أن باسيل يعارض ترشيح العماد جوزيف عون، الذي لا يسمح موقعه العسكري بالحديث علنًا في السياسة. وبينما يعتبر حزب الله أن علاقته مع قائد الجيش كانت إيجابية على مدى السنوات الست الماضية، فإنه لا يريد تكرار تجربة قائد الجيش السابق ميشال سليمان الذي عدّل مواقفه بعد وصوله إلى السلطة وخرج عن الحياد في السياسة الخارجية، وفقًا لاتفاق الدوحة الذي أوصله إلى الحكم.
المواقف الدولية
تعد المجموعة الخماسية حول لبنان (فرنسا والولايات المتحدة وإيران والمملكة العربية السعودية وقطر)، التي عقدت اجتماعها الثاني في الدوحة في 17 تموز/ يوليو 2023، الإطار الدولي الرئيس الذي يتابع الوضع اللبناني، ويسعى للتوصل إلى توافق لإنهاء الفراغ الرئاسي والمباشرة في تشكيل حكومة تشرع باتخاذ الإصلاحات الضرورية لحصول لبنان على الدعم الدولي للخروج من أزمته الاقتصادية الخانقة. وتقوم فرنسا بجهود وساطة للخروج من الأزمة السياسية اللبنانية، إذ اقترحت في الشهور الأخيرة تسوية مماثلة لتسوية عام 2016، ومفادها انتخاب فرنجية رئيسًا للجمهورية في مقابل تكليف نواف سلام بتشكيل الحكومة مع اتفاق حول "سلّة" من التعيينات تشمل حاكم المصرف المركزي. لكن ترشيح جهاد أزعور ونيله 59 صوتًا فرض على فرنسا تغيير موقفها، وجرى التعبير عن ذلك في زيارة المبعوث الفرنسي الخاص إلى لبنان جان إيف لودريان في 21 حزيران/ يونيو 2023، حاول خلالها تعديل الانطباع بأن فرنسا تؤيد ترشيح فرنجية. وبرزت في الأسابيع الأخيرة تقارير صحفية تتحدث عن مبادرة فرنسية لجمع القوى السياسية اللبنانية حول طاولة حوار للتوصل إلى تسوية حول الانتخابات الرئاسية. ويبدو أن فرنسا بدأت تفقد ثقة المعارضة من دون أن تكسب ثقة القوى التي تخاصمها سياسيًا ولا تثق بها تقليديًا، بسبب قبولها ترشيح فرنجية المقرب من النظام السوري.
فوز أزعور ممكن حسابيًا، لكن طبيعة التوازنات الطائفية في النظام اللبناني لن تسمح، على الأرجح، بحصول ذلك
ويبدو أن إيران، التي اقترحت فرنسا ضمها إلى اللجنة الخماسية، تركت لحزب الله مسؤولية التعامل مع الصراع على منصب الرئاسة، واتخاذ القرار بشأنه. أما الولايات المتحدة، فلا تعطي إدارة الرئيس جو بايدن مؤشّرات على اهتمام حقيقي بالوضع اللبناني على الرغم من تلويحها بين حين وآخر بفرض عقوبات على المسؤولين عن تعطيل انتخاب رئيس الجمهورية. ومقارنة بالجهود التي بذلتها واشنطن بشأن ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل في عام 2022، فإنها لا تبدي اهتمامًا ملحوظًا بالوضع الداخلي اللبناني خارج اجتماعات اللجنة الخماسية. وهناك انطباع على الساحة اللبنانية بأن مصر تدعم ترشيح قائد الجيش العماد جوزيف عون، بينما تسعى قطر، التي لديها تجربة ناجحة في حل أزمة انتخاب الرئيس عام 2008، إلى منع انهيار الوضع السياسي والاقتصادي ريثما يجري التوصل إلى اتفاق. أما السعودية، وعلى الرغم من عضويتها في المجموعة الخماسية، فإنها لا تعطي أولوية للوضع في لبنان؛ فقد تراجع نفوذها فيه خلال السنوات الأخيرة بعد أن افتقدت التأثير في الكتلة النيابية الناخبة للرئيس في إثر تفكّك كتلة المستقبل وتوقفها عن دعم الحريري، الذي أدى بعد ذلك دورًا سلبيًا بالدعوة لمقاطعة الانتخابات. وكانت الرياض قد اشترطت تقليص نفوذ حزب الله من أجل استئناف دعمها المالي إلى لبنان. وقد ألمحت السعودية إلى أنه ليس لديها "فيتو" على انتخاب سليمان فرنجيّة، لكن كل المؤشّرات تفيد بأنها ليست متحمسة لانتخابه رئيسًا ضمن التسوية الفرنسية وسلة التعيينات التي ترافقها. ومع أن الرياض لم تطرح مبادرات بديلة أو تقترح أسماء جدّية، فإن امتناعها، إلى جانب أطراف اللجنة الخماسية الآخرين، عن دعم المبادرة الفرنسية، أدى إلى تقويض الأخيرة وتشجيع الأطراف الداخلية اللبنانية على إسقاطها. ولا توجد معارضة لوساطة قطرية في لبنان؛ فهي تتمتع بعلاقات جيدة مع الأطراف كافة، ولكن قطر لا تزال تنتظر و"تجسّ نبض" القوى السياسية في لبنان بشأن احتمالات التوافق.
السيناريوهات المحتملة
في حال استمرّت المعارضة في دعم ترشيح أزعور، وظل توافقها عليه مستمرًا، وعُقدت دورة ثانية لانتخاب الرئيس، فسوف يحتاج إلى ستة أصوات فقط لضمان فوزه. وقد تكون الكتلة النيابية المرجِّحة لفوزه هي "اللقاء النيابي المستقل"، المحسوبة على سعد الحريري، فهذه الكتلة لم تصوّت لأزعور في الدورة الأولى، لكن الضغوط تزداد عليها لتحسم أمرها في التصويت عند عقد الجلسة الانتخابية المقبلة. ومن ثمّ، فإن فوز أزعور ممكن حسابيًا، لكن طبيعة التوازنات الطائفية في النظام اللبناني لن تسمح، على الأرجح، بحصول ذلك، لا سيما أن كل المقاعد الشيعية في المجلس النيابي موزّعة بين حزب الله وحركة أمل. من جهته، يحتاج فرنجية من أجل الفوز إلى دعم التيار الوطني الحر أو القوات اللبنانية، كي يحصل على كتلة نيابية مسيحية رئيسة داعمة له. لكن هذا الأمر غير متاح، حتى الآن. بهذا، لا يتوقع حصول تحولات انتخابية مهمة في المرحلة المقبلة.
ريثما يجري التوصل إلى اتفاق إقليمي ودولي، تبقى الأطراف الداخلية في سعي مستمر لتحسين شروطها، وبناء تحالفاتها
أما زياد بارود وقائد الجيش، جوزيف عون، فليس لديهما قاعدة انتخابية، لذا يمكنهما الفوز فقط بوصفهما مرشّحين توافقيين. وفي حالة عون، لا بد من توافر ثلثي الأصوات في مجلس النواب لتعديل الفقرة الثالثة من المادة 49 من الدستور التي تمنع انتخاب القضاة وموظفي الفئة الأولى لرئاسة الجمهورية إذا كانوا على رأس عملهم. وعلى الرغم من وجود سابقتين جرى خلالهما تعديل هذه المادة بعد اتفاق الطائف، الأولى عند انتخاب قائد الجيش العماد إميل لحود رئيسًا للجمهورية عام 1998، والثانية عند انتخاب ميشال سليمان عام 2008. يقضي التعديل، في حال التوافق عليه، بإضافة فقرة تسمح لمرّة واحدة وبشكل استثنائي بانتخاب رئيس الجمهورية من القضاة أو موظفي الفئة الأولى.
بناءً عليه، ريثما يجري التوصل إلى اتفاق إقليمي ودولي، تبقى الأطراف الداخلية في سعي مستمر لتحسين شروطها، وبناء تحالفاتها، بينما تسعى فرنسا إلى عقد طاولة حوار لبنانية تواكب المشاورات الإقليمية والدولية، وتحاول الاستفادة من التقارب السعودي - الإيراني الذي لم ينعكس حتى الآن على لبنان. وعلى الرغم من ارتباط حسابات الأطراف اللبنانية تقليديًا بالمواقف الدولية والإقليمية وقراءاتها لتطور العلاقات بين القوى الخارجية ومصالحها، فإن الأزمة اللبنانية في جوهرها داخلية، وبخاصة نظام المحاصصة الطائفي الذي يقع في قلب كل مشكلات لبنان السياسية والاقتصادية والأمنية.