أزمة جماعة الإخوان المصرية والانزياح للمنفى
تتسم الأزمة الحالية في جماعة الإخوان المسلمين المصرية بتسارع ردود الفعل المتبادلة، حيث تبدو تنافسيةً مستمرةً لتثبيت الموقع التنظيمي، سواء باستخدام اللوائح أو الأمر الواقع، فما تكشفه البيانات المتتابعة، على مستوى المقيمين في الخارج، يتمثل بوجود حالة تربّص والاستعداد للرد والمواجهة من دون سقف. وبجانب الخلاف حول الشؤون التنظيمية، وما تُثيره الأزمة الجارية يتمثل في النقاش بشأن انتقال الخلاف لمكونات المنفى وانعكاسه على قناعات ما بقي من الجماعة.
وفي مقال سابق تحت عنوان "الإخوان المسلمون بين النزعة المحلية والمعارضة في المنفى"، نُشر في "العربي الجديد" (3/6/2017)، تناول الكاتب اتجاهات المفاضلة لدى الحركة ما بين الرغبة في حل مشكلاتها داخلياً وتوسيع نشاطها في الخارج. وعبر تلك السنوات، يمكن ملاحظة تزايد القابلية للبقاء حركة معارضة من المنفى في مقابل انحسارها داخلياً، حيث تنامت التطلعات إلى التقارب مع منظمات دولية وحكومات، فيما تبنّت خطاب مزايدات وتصعيد ضد الحكومة في مصر.
وبالنظر إلى مكونات النزاع الحالي، يتضح أنه ينتشر بين المقيمين في الخارج من دون وضوح ملامح لتداعياته على مكوّنات الحركة في مصر، بحيث يمكن القول إن جماعة الإخوان المصرية صارت حركة منفى، يتوزع مركز ثقلها بين لندن وإسطنبول. كذلك بدت الإشارات المتكرّرة إلى إدخال التنظيم الدولي في النزاع بين المصريين محاولةً لتجاوز النطاق المصري في الأزمة.
صارت الأوراق الداخلية متداولةً على نطاق مفتوح على خلاف ثقافة الانضباط وحظر النشر
وبجانب الخلاف بشان نتائج انتخابات مكتب اسطنبول، ظهرت مشكلة تسليم ملفات أخرى لا تتعلق مباشرة بمشكلة الانتخابات، لكنها تتعلق بالخلاف بشأن تسيير الجماعة وترتيب الاختصاصات الداخلية. ولذلك كان فتح تحقيق الخطوة التمهيدية لبدء نقل الاختصاصات إلى مكتب لندن ونقطة انفجار الصراع الداخلي، وهناك من اعتبره انقطاعاً للبيعة يؤدّي إلى خمول الدعوة، ونشراً للفتنة، تمهيداً لموقف عقيدي يُؤسس لمبدأ الخروج والاتباع والطاعة. وقد وصلت ذروة الأزمة مع إحالة مسؤولين على التحقيق، 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، من دون نشر قائمة اتهام، ما ساهم في بدء سلسلة من التشكيك في سلامة الوضع الأخلاقي لهؤلاء.
ولأجل حسم الخلاف، ظهرت أزمة الاحتجاج في مجلس الشورى بوصفه سلطة داخلية، صدرت قراراتٌ، كان منها عزل نائب المرشد العام ووقف طلبات التحقيق. وفي ردّ فعل، اجتمع أعضاء مجلس الشورى العام في الخارج برئاسة القائم بالأعمال، 13 أكتوبر 2021، وأسّس موقفه على استمرار القائم بعمل المرشد وإقالة المتحدّث الإعلامي، واعتبار ما صدر عنه غير قانوني ومنعدم الأثر، وذلك استناداً إلى مشاركة ممثلين لفروع مختلفة في انتخابه، ما ينزع صلاحية الفرع المصري في خلعه وإيقافه لانتقال الاختصاص إلى مجلس الشورى العالمي، فيما ثمّة اتجاه آخر يرى عدم سريانها على نواب المرشد. على أية حال، وقد شكل انقسام ما بقي من "مجلس الشورى" منصّة لتزايد الانقسام وفتح آفاق صراعية، ونشأت حالة فوضى ترتّب عليها بدء حملات تأييد وتحيز لطرفٍ من الأزمة وعدم الاعتداد بتصرّفات الخصوم.
ولتعويض ضعف القيادة، انتقلت مجريات النزاع إلى الإعلام، وظهرت تطلعاتٌ إلى البحث عن مؤيدين لملء الثغرات ومواجهة الخصوم، وفي سلوكٍ أقرب إلى العراك، ينتشر المشاركون من داخل الجماعة في التنابذ رأسياً وأفقياً بطريقةٍ انتشرت سرطانياً على وسائل الاتصال الجماهيري، بحيث صارت الأوراق الداخلية متداولةً على نطاق مفتوح على خلاف ثقافة الانضباط وحظر النشر التي تثكل جانباً مهماً في القناعات التنظيمية لحركة الإخوان المسلمين.
تراجع القدرة على التحكّم في المعلومات والتصرّفات يكشف عن انحدار جوهري على عدة مستويات
وقد وصلت الأزمة إلى التشكيك المتبادل، علانية، في سلامة توصيل القرارات الإدارية. وبغضّ النظر عن الجدل بشأنه، يبدو الاستعداد واضحاً للنزول إلى مستوى الانتهاك والتجريح، وليس تعميق الخلاف بين المتنازعين فقط، حيث يأتي في سياق شيوع خطاب التخوين والعمالة. وبينما ظلت هذه الاتهامات متداولةً ومستساغةً من الأفراد على جانبي الانقسام، فإن ورودها من مسؤولين يشير إلى مدى استقرار ثقافة الاتهام للمخالفين في الرأي. قد يُعبر ذلك عن عِلةٍ مرضيةٍ مستندة إلى عقلية المؤامرة أو نمط تفكير انغلاقي مُحلى بالاستعلاء والاستبعاد، قد تُعبر هذه الظاهرة عن نوع من الانفلات الحركي لافتقاده جانباً كبيراً من اللياقة والاحترام، ما يثير الجدل بشأن مصادر انهيار القيم لدى مسؤولي الصفوف الأولى، يمكن أن يساعد خلل برامج التكوين وفوضى التصعيد التنظيمي في التفسير، لكن عامل تنامي هذه الشبكات ظل متواصلاً لعقود بحيث شكل ركناً مُعتبراً في السلوط التنظمي للمستويات المختلفة.
ويمكن فهم هذه السياقات مؤشّراً على انهيار القيادة وما تسمى تقاليد في إدارة النزاع الداخلي، فإن تراجع القدرة على التحكّم في المعلومات والتصرّفات يكشف عن انحدار جوهري على عدة مستويات، كان أهمها اتساع الخلاف بشأن القواعد التنظيمية ورفض التعامل على أساسها، وخصوصاً ما يتعلق بالتلاعب بصلاحيات المرشد العام واستحضارها وصرفها وفق الحاجة. ويكشف النزاع على من يضطلع بالمسؤولية العامة عن جانبٍ من التفكك أو الانهيار، فباستعراض سياقات الصراع يتضح أن استدعاء النصوص ظل معيباً وناقصاً، وهو ما يرجع إلى عامليْن: اهتراء ما تسمّى نصوصاً لائحية واهتزاز وثوقها وضبطها، فكثير منها يمثل حالة تاريخية مُختلفاً على مرجعيتها ويتم استدعاؤه حسب الحاجة. إسناد مهمة تقرير مصير النزاع لمجلس الشورى، على الرغم من معاناته من البعثرة وانهيار تكوينه.
جادل بعضهم بأن ما يتعلق بوضع المرشد العام ونوابه خارج عن نطاق اختصاصات التنظيم المصري، وذلك استناداً إلى تأويل نصوص لائحية تتوافق مراميها مع اعتبار الجماعة عابرةً للدول. وهنا، ظهرت مطالب بضرورة الانتهاء من ازدواج الوضع المصري باستعادة مكتب مصر ومراقبه العام لسد فجوة التحول المحتمل في نقل وظيفة الإرشاد إلى خارج مصر وتضاؤل فرص عودتها. غير أن ثمّة ردوداً أخرى جرت نحو تثبيت اختصاص المكوّنات المصرية، كجهة إسناد وعزل. ينتج هذا الوضع حالة من فوضى النصوص والمرجعية في صورة تجعل النزاع من دون حل. يبدو التطلّع إلى البقاء في المناصب مؤشّراً جلياً على المضي في صراع مفتوح للنهاية من دون التوقف عند نقطة ما، فما تشير إليه التصريحات يتمثل بنزع مشروعية التصرف المتبادل بين المتنازعين والتحذير من الدعوة إلى عقد اجتماعات أو إصدار قرارات، وهي كوابحُ غير فاعلةٍ في ظل السيولة التنظيمية وإنبعاث الروح الانقسامية.
كشفت مؤشرات الأيام الماضية عن تراجع مساعي إبقاء الصلاحيات المشتقّة من المرشد العام في الخارج، ما يجعل الفرع المصري تابعاً لمركز خارجي
وقد كشفت مؤشرات الأيام الماضية عن تراجع مساعي إبقاء الصلاحيات المشتقّة من المرشد العام في الخارج، ما يجعل الفرع المصري تابعاً لمركز خارجي، وهو ما يمكن النظر إليه مراجعة لوضع المكونات المصرية تحت إمرة منظماتٍ تخضع لدولة أخرى تسيطر على بياناتها، غير أن هذا التراجع لا ينفي أن انصراف "الإخوان" إلى المعارضة من المنفى يظل قيداً على البدء في مشوار تسوية أو تهدئة مع الدولة. ومثل هذه المعارك يضرب رأس المال الأخلاقي للجماعة في الصميم، وينسفه من أساسه، فقد ظلّت الجماعة عقوداً طويلة تقدّم نفسها للمجتمع أنها ذات "مظلوميّة" وذات صبغة دينيّة - أخلاقيّة بعيدة عن الفساد والآفات والانحرافات، وهو الأمر الذي كان يجذب الشباب إليها تحت تأثير العاطفة الدينيّة.
وفي معالجة الأزمة، بدت كل الأدوات قديمة وبدائية، سوى محاولة وحيدة لتبييض وجه المتنازعين، تمثلت بتقديم وجوه جديدة على طريقة العرض الفجائي، الصدمة، لبثّ صورة تحديثية عن تمكين الشباب، غير أن طريقة تصديرها تتلاقى مع العيوب المستمرّة في التصعيد التنظيمي، حيث لا يتضح توافر الفرص المتكافئة بين الجيل الواحد أو الأجيال المختلفة بجانب ندرة الإنجاز. أما العامل الثاني، فيتمثل بالاختيار من المساحة المنغلقة على شبكات الموالين دون غيرها، وفي سياقات مجهولة، ما يجعلها مصدراً للإحباط.
وبغضّ النظر عن الجدل اللائحي، تبدو أهمية الاقتراب السياسي للنقاش حول الإطار العالمي للحركة في ظل متغيرين: القيود السياسية الإقليمية وبقاء النزاع بين مجموعات مصرية مقيمة في الخارج، فقد ظلت الجماعة عقوداً تنطلق من المركزية المصرية، وتستند إليها في اكتساب مشروعية قيادة الفروع الأخرى، غير أن استمرار الأزمة الراهنة يساعد على صياغة أوضاع مُستجدّة في حركة الإخوان المسلمين، تكمن أهميتها في القدرة على التكيّف مع التغيرات الجديدة والعمل في بيئة مُعقدة.
يُساهم الدوران حول "مجلس الشورى" بحالته المعيبة في تكوين المصادر الدائمة للمشكلات
أثارت تداعيات السنوات السابقة السؤال بشأن جدارة الحركة في مصر بقيادة الفروع الأخرى، فقد كشف تباين الوضع السياسي من الوصول إلى السلطة والإزاحة منها عن مناطق الضعف المزمنة هيكلياً وفكرياً، بحيث أدّى انكشاف قدرات القيادة إلى ضعف ثقة الفروع في البلدان الأخرى، وإعلان بعضها فكّ ارتباطه التنظيمي، ظاهرياً أو حقيقياً، وهو بذاته ما يثير النقاش بشأن صلاحية مجلس الشورى العالمي وكفايته لتقرير مصير النزاع القائم في ظل انسحاب تونس والمغرب، وتجميد عضوية فروع أخرى، ما يمثل حالة فراغ مماثلة لـ"الشورى المصري". كذلك يضعف اندلاع النزاع بين مجموعات من المصريين فاعلية دخول آخرين في تسوية الأزمة، حيث ظلت هيمنة المصريين تحول دون ظهور فاعلين آخرين داخل الحركة من جنسياتٍ أخرى، بشكل يساهم في انحسار وضع الجماعة وتراجع قدرتها في البلدان المختلفة.
ويُضفي اندلاع النزاع بين المجموعات القديمة في الإخوان المسلمين صعوبة في التنبؤ بمآلاته، غير أن من المحتمل ظهور تأثير الشبكات المستقرّة في تحديد ملامح التنظيم في المرحلة المقبلة، حيث تعمل العلاقات الشخصية والقرابية على بناء الخيارات والتضامن تجاه ما يهدّد بقاءها. وهنا، يمكن الإشارة إلى أن التحكّم في تعريف "مجلس الشورى" وطريقة تشغيله يمثل رأس الجسر في الهيمنة الإدارية واحتكار القرار الإداري. وعلى الرغم من كثرة أسماء المنخرطين في الأزمة، تم تجنّب الإشارة إليها لغياب المساهمات النوعية وانحسار دورها وكلامها في الأطر التنظيمية الضيقة، ما يجعل تقديمها شخوصاً عامة عبئاً.
وهنا، يُساهم الدوران حول "مجلس الشورى" بحالته المعيبة في تكوين المصادر الدائمة للمشكلات. وبغضّ النظر عن تكييف وضعه القانوني، فإن ثمّة توافقاً بين المنقسمين على الحفاظ عليه حصان طروادة للاستحواذ على المناصب وإسباغ المشروعية على تصرّفاتهم دون الكشف عن ماهيته وصلاح اجتماعاته، فكل المناقشات تبدأ وتنتهي عند مجلسٍ يقع تحت الاستغلال والتوظيف، فهناك من يحاول تقديم سرديةٍ لاضطلاعه بالمهام وإصدار القرارات منذ عام 2013، لإثبات صحة القرارات، فيما يحاول طرفٌ آخر الاستحواذ على بعض من أعضائه لتكوين حالة نزاع على المناصب تدور أحداثه في المنفى، وهي لا تتوقف تداعياتها على انحسار وجودها في مصر، لكنها تزيد من تعرّضها للخضوع لشروط العلاقة مع الحكومات وضغوط التمويل السياسي.