أسطورة يحيى السنوار

21 أكتوبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

حين يُسجَّى الميّت يتشابه مع بقية الأموات في مختلف الربوع والأزمنة، فالأموات يتشابهون حين تُغادر الأرواح الأجساد. الروح إذاً هي ما كان يميّز كلّ كائن من غيره. في رحيل يحيى السنوار حلّقت روحٌ أسطوريةٌ كانت تميّزه، بدايةً من نظراته وحديثه، وليس انتهاء بمشيته الواثقة وصوته الثابت. وحين النظر إلى ماضيه البعيد نجده شخصيةً عرفت كيف تصنع أسطورتها، بتعدّد الإمكانات والاهتمامات والاستفادة بأقصى ما يمكن من مختلف الظروف، وتكييف أقلّ الإمكانات. ترك أيضاً كتاباً سطَّر فيه حياته وآماله. تعلّم كذلك لغة عدوّه حتى يفهمه. هناك أيضاً الذكاء الذي يميّز الأساطير. ذلك كلّه مجتمعاً استطاع أن يصنع به ذلك التحوّل الرهيب، حين خطّط لـ"طوفان الأقصى"، الذي جعل المحتلّ يخرُج عن طوره ويخسر جميع أوراقه الأخلاقية إلى الأبد، أمام العالم والضمير الحيّ، حين أوغل الجيش الإسرائيلي في قتل الأبرياء الغفَّل، ولم يسلم من بطشه حتّى الخدَّج الذين بلا ثقل، ولا الأجنَّة في بطون أمّهاتهم، الذين بلا عمر، والرضَّع والأطفال الذين بلا ذنب، فضلاً عن مئات النساء والمسنّين. لقد قلب السنوار المعادلةَ التي ما فتئت إسرائيل تحاول ترويجها للعالم بأنّها بلد مظلوم وسط حشد من العرب المتوحّشين، لتصير هي الشعب المتوحّش الذي حلّ في أرضٍ ليست له وتحت حماية أكثر الدول قوّةً (أميركا وجزء من أوروبا) ودعمها، ولم يغادر الدنيا قبل أن يفنّد ويفضح كذب الإعلام الإسرائيلي الذي صوَّره مختبئاً ومحتمياً بالأسرى والمدنيين، لنكتشف أنّنا أمام محارب عنيد حتّى الرمق الأخير.
كان يحيى السنوار يستثمر كلَّ متاحٍ للدفاع عن الأرض، وبذلك صنع مدرسةً خاصّةً في النضال ضدّ المحتلّ. هذه المدرسة المتفرّدة لا بدّ أنّها ستلد طلبةً ومناضلين في طريق التحرير، ملخَّص هذه المدرسة أنّه لا بدّ من الاستفادة من كلّ مُتاح. وما استفادة حركة المقاومة الفلسطينية المحاصرة من مخلّفات عدوهم إلا دليل على استقائهم من هذه المدرسة السنوارية.
أسطورة السنوار أيضاً تفوق أساطير النضال عبر التاريخ، مثل غيفارا وهوشي منه وأحمد بن بلا، وهم أكثر الرموز التي تُستحضَر في سياق التمثّل بقصص النضال والتحرّر، ولكنّ الفرق أنّهم كانوا مدعومين من المعسكر الاشتراكي (حتّى بن بلا بالرجوع إلى مذكّراته وعلاقته الخاصّة بغيفارا)، بينما السنوار والمقاومون يعيشون في حصار مُطبِق إلى جانب الإنكار الرسمي العربي لهم، باستثناء الشعور الشعبي العربي الذي لا يملك من حيلة غير الدعاء ومقاطعة السلع الداعمة للكيان الإسرائيلي. قدّم السنوار أيضاً صورةً ناصعةً، حتّى في عملية إطلاق سراح المدنيين. وكان ضمن الذين أطلق سراحهم كلبة تحملها فتاة. لقيت تلك الكلبة معاملةً نفسيةً وغذائيةً من المقاومين الفلسطينيين، في الوقت الذي كانت مستشفيات غزّة تُرمَى بأعتى أنواع القنابل والقاذفات. لا أشكّ أنّ السنوار اختار أيضاً لحظةَ استشهاده في الشهر نفسه الذي نفّذ فيه ملحمة "طوفان الأقصى". أراد لروحه أن تحلّق في وسط المعركة في الأرض وفي مواجهةٍ مباشرةٍ مع عدوّه القوي بأسلحته وتقنياته. كان في الحقيقة أعزلَ قياساً إلى العتاد الكبير للمحتلّ، فلم يكن بحوزته سوى رشَّاشٍ وفي جيبه قنابلُ يدويةٌ، شيء لا يُقارَن في لحظة الهجوم بالترسانة التي يواجهها. أراد إذاً أن تخرج روحه في هذه الهيئة من البطولة التي سيحترمها حتّى أعداؤه رغماً عنهم، وقد كانوا يروّجون اختباءه وابتعاده وهروبه من المواجهة.
كسر السنوار هذه التوقّعات، فلم يكن حذراً إلّا بالقدر الطبيعي الذي يتحلّى به المقاتل، ولم يكن مختبئاً وسط الأسرى أو الأهالي كما روَّج الإعلام الإسرائيلي. شئنا أم أبينا، الوحيدون الذين يقفون ضدّ الهمجية والطغيان والعنف المدعوم من أميركا هم أفراد المقاومة المسلّحة، لأنّ الخصم لا يعترف بالآخر إنساناً، وهو مدجَّج بأعتى أنواع الأسلحة والتكنولوجيا الدقيقة التي يمكنها أن ترصد حتّى النملة في مكمنها، فهو لايعترف بحقوق الآخر، ولا حتّى بوجوده، وكأنّما يعتبره زائداً عن الحاجة، ومن المشروع قتله، أو هو في حكم الميّت مسبقاً، وإذا كان حيّاً فهو مشروع للاستغلال، كما تفعل أميركا والغرب مع الدول الأفريقية والعربية.
برحيل السنوار انطفأت شمعةُ حياةِ رجلٍ عاش وسط التحدّيات أسيراً، ثمّ قائداً، ثمّ أسطورةَ نضال أزلية.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي