أفق جديد لوقف الحرب في السودان
على الرغم من كثافة دخان المعارك الذي لا يزال يغطّي سماء الخرطوم، ومن لغة التصعيد التي تسم خطابات القوى العسكرية والسياسية السودانية التي تقف على جانبي المعركة، إلا أن ملامح حلٍ تفاوضي يوقف الحرب ويقود إلى عملية سياسية، أخذت تلوح في الأفق.
صحيحٌ أن الخطاب الذي ألقاه رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، من على منصّة الجمعية العامة للأمم المتحدة في العشرين من الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، ضمن أنشطة الدورة 78، كان يبدو صارماً في رسم معالم الرؤية التي يحملها قائد الجيش لمآل الحرب المشتعلة في بلاده منذ ما يقترب من ستة أشهر، و بدا من فقراته أن الحل السياسي القائم على التفاوض مع قيادة قوات الدعم السريع مستبعد، في ظل المطالبة الصريحة بتصنيف تلك القوات جماعة إرهابية، وتحميلها وزر ما حاق بعاصمة البلاد من قتل ونهب وتشريد؛ إلا أن اللقاءات التي عقدها البرهان على هامش إجتماعات تلك الدورة مع مسؤولين إقليميين ودوليين، والإفادات التي أدلى بها لوسائل إعلام قبل عودته إلى السودان، تؤشّران بوضوح إلى أن أفقاً للحل التفاوضي بدأ يلوح في مدى زمني قد لا يتجاوز الأسابيع!
في أكثر من إفادة لوسيلة إعلام، تحدّث البرهان عن التزام الجيش بالتفاوض عبر منبر جدّة الذي ترعاه وتيسره السعودية والولايات المتحدة، وأكّد أنه على استعداد للجلوس مع قيادة "الدعم السريع" لإيجاد تسويةٍ تخرج بموجبها قواتهم من منازل المواطنين والمستشفيات وبقية الأعيان المدنية، وتسهم في انسياب المعونات الإنسانية للمدنيين المتضرّرين من الحرب، وفق ما قضى بذلك البروتوكول الموقّع في جدّة في 11 مايو/ أيار الماضي.
تشكّل الأوضاع المتردّية لملايين السودانيين، داخل البلاد وخارجها، ضغطاً على قيادة الدولة، ممثلة في القوات المسلحة
ومن المرجّح أن هذه اللغة التي تتسم بالمرونة جاءت كخلاصة للقاءات التي أجراها البرهان على هامش الإجتماعات مع كل من الأمين العام للأمم المتحدة ورئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي ووزير الخارجية السعودي ومساعدة وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأفريقية، فضلاً عن لقائه مع وزير الخارجية الروسي الذي ظلت بلاده تدعم مواقف السودان في مجلس الأمن، إذ تفيد تقارير متطابقة بأن البرهان استمع إلى نصائح متعدّدة بعدم التصعيد في الخطاب تجاه المجتمع الدولي، مع وعد بمعالجة الأخطاء التي وقعت فيها مبادرات الحلّ السابقة.
وكان لافتاً أن رئيس مجلس السيادة الانتقالي قال، في أحد لقاءاته التلفزيونية، إن ما يؤخّر الحسم العسكري من الجيش وجود متمرّدي الدعم السريع وسط المدنيين، في مساكنهم وفي مؤسّسات الدولة المدنية كالمستشفيات والوزارات. وبالتالي، سيكون التعامل بالقوة المفرطة معهم مدعاة لخرابٍ أكبر تجتهد القوات المسلحة لتجنّبه. وهذا بالضبط ما يدعو قوى دولية، مثل الولايات المتحدة، إلى تكرار القول إن هذه الحرب لا يمكن حسمها عسكرياً.
تشكّل الأوضاع المتردّية لملايين السودانيين، داخل البلاد وخارجها، ضغطاً على قيادة الدولة، ممثلة في القوات المسلحة، فبحلول منتصف أكتوبر/ تشرين الأول الحالي تكمل الحرب شهرها السادس، وبعد عشرة أيام من ذلك، سيكمل السودان عامه الثاني بلا حكومة أصيلة، فقد ظلت معظم الوزارات تُدار بالتكليف بواسطة كبار الموظفين الذين كانوا على قيادة الخدمة المدنية يوم أطاح الجيش حكومة عبد الله حمدوك في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021. وهكذا اجتمعت على السودانيين نازلتان لأول مرة في تاريخهم، عامان بلا جهاز سياسي تنفيذي للدولة وستة أشهر من الحرب في عاصمتهم ووسط مساكنهم.
هذان السببان، بكل ما يتعلق بهما من تفاصيل، يشكلان عنصرين رئيسيين ضاغطين على السلطة الحاكمة في السودان، ويجعلان موقفها من البحث عن حلٍ تفاوضي لإنهاء الحرب، أكثر مرونة. فالجيش، باعتباره السلطة الفعلية، يتحمّل المسؤولية السياسية والأخلاقية تجاه المواطنين، وهو المعني، بحكم الدستور والقانون، بحماية مؤسّسات الدولة والمحافظة عليها، وعليه يقع العبء الأكبر في تسريع وتيرة إنهاء التمرّد ووقف الحرب.
الطرفان وقع عليهما من الضغوط، الذاتية الداخلية والخارجية، ما لا يستطيعان الاستمرار في مقاومته، وهما، حاليا، يبحثان عن حلول يتفاديان بها تلك الضغوط
والخصم العسكري للجيش، متمثلاً في قوات الدعم السريع المتمرّدة، وقعت عليه ضغوط من نوع مختلف، فهو لم يحقق أي هدف سياسي ولا عسكري من الأهداف الرئيسية التي أعلن أنه يشنّ الحرب من أجل الوصول إليها، بل يجوز القول إنه فقد من المعدّات والمقاتلين ما لن يستطيع تعويضه، ولا يرغب في فقد ما تبقى له. وهو فضلاً فقد أي تعاطفٍ كان قد كسبه خلال السنوات الماضية، كونه في هذه الحرب جعل من المدنيين في دارفور وفي عاصمة البلاد أهدافاً حربية، وارتكب من الانتهاكات والتجاوزات ما لم يحدُث في تاريخ الدولة الوطنية في السودان.
الطرفان إذن، وقع عليهما من الضغوط، الذاتية الداخلية والخارجية، ما لا يستطيعان الاستمرار في مقاومته، وهما، حاليا، يبحثان عن حلول يتفاديان بها تلك الضغوط، والحلّ المتاح من غير تطويل يتمثل في العودة إلى منبر جدّة الذي كان قد قضى بوقف لإطلاق النار يصحبه خروج مقاتلي "الدعم السريع" من المرافق والمنشآت المدنية، لكن علة ذلك الاتفاق تمثلت في أنه لم يشكل آلية للتنفيذ والمراقبة، تشرف على تجميع المقاتلين في معسكرات خاصة تحت رقابة مشتركة.
وفضلاً عن تلك الضغوط، ما يمكن أن يساهم في الوصول إلى حل تفاوضي هذه المرّة، خلافاً للمرّات السابقة، أن الرؤية لما بعد الحرب أضحت واضحة وفق ما جاء في خطاب البرهان أمام الجمعية العامة، فقد جدّد الالتزام بالانتقال إلى الحكم المدني عن طريق صندوق الانتخابات، عقب فترة انتقالية "قصيرة" تديرها حكومة مدنية غير حزبية. والحقيقة أن هاتين القضيتين كانتا أكبر عقدة عطّلت الوصول إلى الحلّ، إن لم نقل إنهما كانتا السبب الأساسي وراء اشتعال الحرب!
قبل الحرب، كانت مجموعة المجلس المركزي في قوى الحرية والتغيير تعتبر نفسها "الحزب الحاكم"، وأنها مَن يهندس الفترة الانتقالية وفق رؤيتها، وما على القوى السياسية الأخرى إلا أن ترضى بما تمنحه لها من نصيبٍ في السلطة، ولمّا وجد هذا الأمر مقاومة من أطيافٍ واسعة من القوى السياسية والاجتماعية، لجأت مجموعة المجلس المركزي للاستنصار بقوات الدعم السريع، وعزفت على وتر الطموحات الخاصة بقيادة تلك القوات، فحدث ما حدث.
لم يعد في وسع قوات الدعم السريع، ولا مجموعة المجلس المركزي في قوى الحرية والتغيير، فرض أجندتهم السياسية على الآخرين
حاليا، وبكل مقياس موضوعي، لم يعد في وسع قوات الدعم السريع، ولا مجموعة المجلس المركزي في قوى الحرية والتغيير، فرض أجندتهم السياسية على الآخرين، فهما، في أفضل الأوضاع، سيكونان جزءاً من كل، وفي محيط سياسي غير صديق، وخريطة الطريق التي وصفها خطاب البرهان في الجمعية العامة تقضي بأن تبتعد جميع القوى السياسية عن التنافس لنيل نصيب من السلطة في الفترة الانتقالية "القصيرة"، وأن تتفرّغ لتأهيل نفسها لخوض الانتخابات المقبلة.
وهكذا، من الواضح أن الحلّ الذي سيمضي، في نهاية الأمر، هو الذي سترسم ملامحه المفاوضات التي يُرجى أن تستأنف قريباً في جدّة، لتبتّ في الشأنين، العسكري والإنساني، والمرجّح أن نتائجها ستكون أقرب إلى موقف الطرف صاحب الكفة الأرجح في أرض المعركة، وهو القوات المسلحة، مع الإقرار بأن هذا لن يكون سهلاً في ظل تمسّك "الدعم السريع" بالبقاء وسط المنشآت المدنية، وفي بيوت المواطنين، كون ذلك الورقة التفاوضية الأهم التي بقيت في حوزته.
أما الحلّ الشامل للأزمة في السودان، فمن الواضح أنه في طريقه إلى أن يتبلور على قاعدة أن لا عزل ولا إقصاء لأي طرفٍ سياسي، بما يعني أنه سيشمل أنصار النظام السابق ومجموعة المجلس المركزي في قوى الحرية والتغيير، فضلاً عن القوى السياسية التي وقفت بوضوح في صفّ القوات المسلحة في الحرب الحالية، ولكن ليس معروفاً بعد ما إذا كان سيتم على أرض سودانية، وبآليات سودانية، أم أنه ستنشأ حاجة لوجود مسهّلين من الخارج لتقريب الشقّة بين الفرقاء السياسيين السودانيين.