أفكار عن الكاتب ومأزق القطيع
(1)
القطيعيّة في الحالات البشريّة، سياسيًّا وثقافيًّا، أكثر خباثة وأشدُّ خطورةً وفتكًا من القطيعيّة في الحالات الحيوانيّة. في الأولى، إذا انشقَّ أحدهم عن قطيعهِ، يهاجمهُ كلُّ أفرادِ القطيع، إمّا لإعادته لسابق عهدهِ حين كان ضمن الحظيرة الاجتماعيّة ــ السّياسيّة، مندغمًا ومتناغمًا مع فضاءِ الجماعة القطيع، وفرضِ الاستتابةِ عليه، أو قتلهِ، ليكون عبرة لغيرهِ ممّن تسوِّلُ لهم أنفسهم التفكير أو تخيُّل الحياة خارجَ نطاق الجماعة العقيديّة. بينما في الحالة الثانية، إذا انفصل حيوان عن قطيعه، لا يهاجمه عناصر القطيع، للأسباب ذاتها المعمول بها في الجماعات العقائديّة البشريّة.
(2)
الحقُّ أنَّ بعضَ السّاسة والمثقفين خبراءٌ ودهاةٌ وعتاةٌ في فنِّ إثارةِ القطيع، عبر العزف على الوتر الدّيني، الطّائفي، القومي، الاجتماعي أو الأخلاقي. يمكنهم ببساطة قلب كذبة كُبرى إلى حقيقةٍ دامغةٍ تفقأ الأعين، عبر الرّهان على إثارة وتحريك الجموع والحشود لصالح تلك الكذبة. وبذلك يمكن أن يحصل أولئك المقامرون على أرباحهم من التّهليل والتفويض الشّعبي، عبر انتحال صفة النّبي يوسف، مثلاً، وغدر إخوته به، وعذاباته في الجبّ أو السّجن، أو انتحال مظلوميّة المسيح على خشبة الصّليب، أو مظلوميّة الحلاج أو السّهروردي او "جان دارك" أو أي شخصيّة من المعذّبين والمعذّبات في الأرض على مرّ التّاريخ. وحال استكمال المنتحل دورَهُ في إقناع الجموع بذلك، يغدو من العبثِ والجنون المميتِ محاولة إقناع الحشود أنّها تحت تأثير خرافات وأوهام شخصيّةٍ تشبه الأعور الدجّال. على سبيل الذّكر لا الحصر، هكذا فعل عبد الله أوجلان، حين شبّه نفسه بالأنبياء تارةً، وبالمُصلحين، والفلاسفة، والتنويريين، فكُتُبهُ تعجُّ بتلك التّوصيفات التي يقولها عن نفسه. إلى درجة أنه في أثناءِ وجوده في روما، في مطلع 1999، وتقديمهِ طلب اللّجوء السّياسي، أرسلَ رسالة إلى البابا يوحنا بولس الثاني واصفًا رحلتهُ إلى روما بأنّها كرحلة بولس الرّسول! وفي أماكن أخرى، شبّه نفسه بالنّبي إبراهيم حين ألقى به نمرود في النّار. كما شبّه نفسه بالمسيح على خشبة الصّليب. بالتالي، كيف يمكن لأيّ كاتب إقناع أنصار هذا الزّعيم بأنّه كذبَ عليهم وخدعهم، ولمّا يزل على خداعهِ لهم؟! وعليه، أيّ شخص ينحو منحى مختلفًا عن موقف وسلطة الحشود الأوجلانيّة، سيعتبرهُ الجمهور أو طغمة الحشود، مارقًا مرتدًّا كافرًا وخائنًا، ومتواطئًا مع الأعداء، وسيُصارُ إلى تتفيهه وتسخيفهِ، كنوعٍ من الاغتيال المعنوي، الممهد للاغتيال الجسدي.
القطيع ليسَ شيئًا معيبًا بالمطلق. فهو أحدُ أنظمةِ الحماية، حماية الفرد، النّوع، الجماعة من المخاطر والانقراض
هكذا، يمكن لأيّ محتال أو دجّال صغير، وبقليل من الكاريزما، والكثير من الشّعارات، أن يكبر وأن ينتعش ملكه العضوض ويبطش بخصومهِ، ويبقى رهانهُ وحصنهُ الحصين دائمًا، التفويضُ الشعبي، الجماهيريّة التي يحظى بها، وإجماعُ السّاسة أو المثقفين، ما يوازي في الفهم والدلالة والتأثير والمفعول تعبير: إجماع الفقهاء والعلماء، عند التيّارات السّلفيّة الجهاديّة.
(3)
الكاتبُ الإمّعة يشعرهُ انخراطهُ في القطيع بالأمان والطّمأنينة، بصرف النّظر عن الطّبيعة والماهيّة القوميّة، الدّينيّة، الطّائفيّة للقطيع. يصدِّر نفسه على أنّه كاتب الوطن، الشّعب والقضيّة، المبدئي، الملتزم بقضايا الأمّة. ولأنّه إمّعة، لا يمكنهُ الفكاك من ذهنيّة ومتطلّبات القطيع. دأبهُ الإذعان والتّسليم، فإن جنَّ القطيعُ، جنَّ معه. يظنُّ ويتوهّم أنّه يقود القطيع، بينما الأخيرُ يقودُهُ إلى حيث الحظائر أو براري الشّعارات وخرافاتها المخادعة المُضلِّلة.
(4)
الكاتب الإمعة، القطيعي، اثنان. الأوّل، يعي حقيقةَ مأساتهِ، كلّما وجدَ كاتبًا حرًّا. لذا، ترونهُ يكرهُ الأحرار، ويعتبرهم الخونة المفسدين في الأرض. لأنّهُ عاجزٌ أمامَ سلطانِ وهيبةِ ورهاب الحشود، يرى أنّ أمراضَ القطيعِ أهونُ عليهِ مِن التّداوي منها. بينما الثّاني لا يعي حقيقةَ مأساتهِ ومرضهِ، بل يعتبر ذلك انتماءً، شرفاً، إخلاصاً وأصالةً، وطنيةً، واحتراماً لقيم ومبادئ الجماعة، الحزب، القطيع وزعيمهِ.
في الثّقافة والأدب، اثنان ينتميان إلى خانة الإمّعات الذين يسقطون في فخِّ القطيع. الأوّل، يعتبرُ الخوضَ في الحياة الخاصّة والحميمة للبشر نقداً، محاولاً التّلاعب بغرائز الشّرف عند القطيع. الثّاني، يتوارى خلف شرف النّساء، أثناءَ دفاعهِ عن نفسهِ، مستغلاً أيضًا غرائزَ الشّرفِ عند القطيع. كلاهما وجهان لعملة رخيصة اسمها الكاتب الإمّعة، عديم الشّرف، طبعًا.
(5)
القطيع ليسَ شيئًا معيبًا بالمطلق. فهو أحدُ أنظمةِ الحماية، حماية الفرد، النّوع، الجماعة من المخاطر والانقراض. لكن السّلوك والمنحى الرّعاعي، الدّهمائي، الغوغائي في أداء القطيع في الحيوات السّياسيّة، الاجتماعيّة والثقافيّة، هو العيبُ المعبِّرُ عن بؤسِ الجماعة والحشود.
لا يبدأ التّنوير فقط من معرفة طبائع القطيع في المجتمعات البشريّة، بل بالاشتباك مع تلك الطّبائع. بمعنى، الاشتباك مع القطيع بصدمة الأفكار الجديدة، والأسئلة العنيدة الصّبورة المقلقة لتلك الطّبائع.
التنوير في أحد أوجههِ، تربيةُ الـ"نحن" على احترام "الأنا" والاستماع إليها، مهما بلغت درجة اختلاف "الأنا" مع الـ"نحن"
المُشكِلُ أنّ الأنبياء انشقّوا من قطيع. وكذا فعل أغلب الفلاسفة. في تقديري، هدفُ التّنوير ليس القضاء على القطيع للوصول إلى الفردانية المطلقة. الإنسانُ يدخل الحياة ضمن قطيع، ويغادرها ضمن قطيع، وفي الحياة الآخرة، بحسب السرديّة الدينيّة، يخرجُ من قبرهِ ويسير نحو الميزان داخل قطيع، ويقضي حياته في الجنّة أو الجحيم، أيضًا ضمن قطيع. إذن، هدف التّنوير هو عقلنة وأنسنة القطيع، وليس القضاء عليه. لذا، دائمًا نجد الكُتّاب والأدباء والفلاسفة ورجال الدّين القطيعيين يقفون على الضفّة المناهضة للتنوير، ويعتبرونه صنو المروق والردّة، ويصدّرون صورة مشوّهة له إلى الجموع والحشود، على أن التنوير فتنة، بِدَع، فسق، فجور، فساد، إفساد، ضلال، كفر، إلحاد، انحلال، خيانة، هدمٌ لأركان الدّين والأمّة، تهديدٌ للأمن والسّلم والاستقرار، وإشاعة البلبلة... إلخ!
إذن، ما العمل؟ أيمكنُ أن يسايرَ الكاتبُ القطيعَ؟ نعم يمكن ذلك، على أن يحافظ دائمًا على مسافة الأمان بينه وبين القطيعيّة، ألّا يذهب مع القطيع - الجماعة في كلّ ما تذهبُ إليه. ألّا يضعَ رأيهُ، قولهُ، فكرتهُ على طاولة التفاوض والمساومة مع القطيع ــ الجماعة الدّينية أو القوميّة أو الأيديولوجيّة التي ينتمي إليها عقيديّاً أو جينيًّاً.
(6)
الحفاظ على "الأنا" وسط احتدامِ واستعارِ وتأجّج وهياج الـ"نحن"، هو أسُّ العمليّة الإبداعيّة في الفكر والثقافة والأدب. ليس وفق مبدأ المخالفة الجاهلة لمجرّد المخالفة وحسب، أو الضّديّة العبثيّة، أو الكيديّة الدّوغمائية المغلقة، بل بفهم عميق وإلمام واسع، وأناةٍ وصبر لا يحدُّه حدّ. وذلك برفض عبادة "الأنا"، ومحاربة عبادة الـ"نحن". ذلك أن مقتلَ "الأنا" الإذعانُ والاستسلام لـ"نحن" الحشود. وكذلك عبادة "الأنا" ضلالٌ وتضليلٌ، ولا علاقة لها بالتنوير.
التنوير في أحد أوجههِ، تربيةُ الـ"نحن" على احترام "الأنا" والاستماع إليها، مهما بلغت درجة اختلاف "الأنا" مع الـ"نحن". وتربية "الأنا" لنفسها على الاستماع لـ"نحن" الجموع والحشود، ليس بدافع التبعيّة والتسليم والإذعان، بل بهدف الفهم والاستيعاب، والتحليل. لكن، ماذا عن كاتب القضيّة، أو كاتب الأمّة، ألا يعتبرُ ذلك نوعًا من أنواع "كاتب القطيع"؟ لا طبعًا. يمكن للأديب المثقف أن يكون صاحب قضيّة عامّة، وطنيّة، قوميّة، اجتماعيّة، ثقافيّة...، من دون أن يكون ضمن جماعة ـ قطيع سياسي، قومي، معيّن. الانتماء للقضيّة، وليس للجماعة السّياسيّة التي تنادي بها. الدّفاع عن القضيّة وليس عن النّظام السّياسي أو الحزبي الذي يزعم أنّه يقود تلك القضيّة. بينما الكاتب القطيعي ـ الحزبي، الجماعاتي، يستثمر القضيّة والجماعة التي ينتسب إليها لصالحه. إذن، القطيعيّة هي مأزق الكاتب ومحنته، إمّا أن يتخذها منهجًا، وأداة استثمار، أو يعتبرها سجنًا وأغلالاً وسُمًّا.
القطيع ظاهرة طبيعيّة ـ بشريّة، لا ولن تنتهي، إذا استبدّت بالأوطان والمجتمعات، حوّلتها إلى غاباتٍ وسجون
محمود درويش، في بداياته، كان صاحب انتماء لجماعة يساريّة سياسيّة إسرائيليّة. ثمّ غيّر التخندق ــ الانتماء، إلى الضّفّة الأخرى، وأعني منظّمة التحرير الفلسطينيّة. ثم اكتشف أن القضيّة وفلسطين والشّعر، أكبر من الانتماءات والولاءات الحزبيّة، فكان شاعر قضيّة، وليس شاعر جماعة سياسيّة. بعدها، تحوّل إلى شاعر يتبنّى قضيّة الإنسان، أينما كان.
كذلك مظفّر النوّاب، انحدرَ من أسرة محافظة متديّنة. في بداياته، تخلّى عن تخندق ديني، طائفي، واستقرّ في تخندق سياسي يساري. ثمّ أصبح شاعرًا لأكثر من قضيّة، من دون الانتماء إلى الجماعات التي تتبنّى تلك القضايا. وبذلك غدا أحد شعراء القضيّة الفلسطينيّة، من دون أن يكون فلسطينيًّا، أو منتميًا لتنويعات الطّيف السّياسي الفلسطيني. وأصبح شاعر القضيّة العراقيّة، من دون الانتماء لأيّ حزب عراقي. وبل شاعر المعارضة العربيّة، يتبنّى قضايا المظلومين والفقراء ومناهضة أشكال الفساد والاستبداد في زمان ومكان.
(7)
القطيع ظاهرة طبيعيّة ـ بشريّة، لا ولن تنتهي، إذا استبدّت بالأوطان والمجتمعات، حوّلتها إلى غاباتٍ وسجون. تفاقم القطيعيّة في الحالة البشريّة، سياسيًّا وثقافيًّا، كفيل بإحداث صراعات أبديّة على امتلاك أرض، وطن، بلد، أو الأحقيّة بالولاية، الخلافة (شيعة ـ سنّة)، وامتلاك الحقيقة المطلقة، كما في الحالات الدينيّة. أبشع وأخطر أنواع القطيعيّة هي التي تتضخّم فيها الـ"نحن"؛ العرق، الأمّة، الدين، الطائفة، إلى درجة النظر إلى نفسها بسموٍّ وتعالٍ، واستصغار واحتقار الجماعات الأخرى، والتقليل من جدواها في الحياة، والنّظر إليها بدونيّة مقززة، تبيح فعل أيّ شيء في حقّ تلك الجماعات، حتّى لو وصل إلى درجة الإبادة الجماعيّة.